الجمعة 19 أبريل 2024 10:04 مـ 10 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    عالم ”الضفادع”.. كيف اخترق نظام الأسد الثورة السورية؟

    رابطة علماء أهل السنة

    لن يستطيع سكان الغوطة الشرقية الذين عايشوا شهر مارس/آذار من عامنا الحالي أن ينسوا ذلك الشهر مشبهين إياه بـ"القيامة"، فقد نجح الشهر في جعلهم ينسون خمس سنوات من حصار عسكري خانق وقصف يومي بات نعيما مقارنة بجحيم حقيقي وضعتهم به الطائرات الحربية الروسية ليلا، وطائرات النظام السوري نهارا، دون استراحة ولو لساعة واحدة في أقسى الحملات العسكرية منذ اندلاع الثورة السورية عام ٢٠١١، وهو جحيم جوي تم تتويجه بهجوم كيماوي ثانٍ على المركز، كان بمنزلة الضربة القاضية التي أنهت الوجود الثوري في الجَيب الإستراتيجي للمعارضة المسلحة قُرب العاصمة دمشق.

    رغم ذلك، فإن فصائل المعارضة السورية قد أتمت استعداداتها العسكرية كما بدا لهذا اليوم، بعشرات آلاف المقاتلين المزودين بالسلاح الثقيل والمحصنين في بيئة طبيعية وبشرية شبه مثالية لحرب استنزاف وعصابات ومدن طويلة، إلا أن تلك الحرب لم تحدث أبدا، إذ بدأ مقاتلو المعارضة بالانسحاب تدريجيا من معاقلهم الثلاثة (حرستا، القطاع الأوسط، دوما) على الترتيب، وكان تفسيرهم البسيط لذلك أنها هزيمة عسكرية مباشرة نتيجة شراسة الحملة واستهداف المدنيين، إلا أن دخان القصف وركام المباني كانا يخفيان قصة أكثر تعقيدا في طبقة مخفية من السياسات المحلية جدا، والحاكمة لما قد يبدو من الخارج عنفا أهوج، أبطالها وضحاياها على الأرجح هم السوريون على سواء.

    ففي الثامن من مارس/آذار، وبعد ما يقارب العشرين يوما على بدء الحملة العسكرية الشرسة؛ شهدت مناطق في الغوطة، أهمها "حمورية" و"سقبا" و"كَفربطنا"، وللمرة الأولى رفع علم النظام السوري الذي يقصف هذه المناطق ضمن مسيرات "مؤيدة" تطالب بالمصالحة مع النظام، فيما بدا كمطلب إنساني بريء في ظل استنزاف بشري عنيف تعيشه تلك المناطق، و"غير بريء" بتنظيم وتجهيز سابقين بدوا بالشعارات واللافتات المعدّة سلفا، وهي تجهيزات تحوّلت فيما بعد إلى انشقاقات منظمة عن فصائل المعارضة المسلحة الفاعلة واستهداف لها من داخلها بما يمكن أن يطلق عليه "خلايا نائمة" داخل هذه المناطق.

        

    كان المتصدّرُ بدوره لهذه الخلايا هو الشيخ بسام دفضع (أو ضفدع) أحد الوُجهاء الدينيين لمدينة "كفربطنا"، وهو الرجل الذي يُقال إنه كان قريبا من المكتب الشرعي لـ "فيلق الرحمن" المسيطر على البلدة. حينها بدأ الشيخ بسام بالدعوة لـ "مصالحة بين النظام والمعارضة" بذريعة "حقن الدماء"، وهو مطلب مرفوض شعبيا قبل أن يرفض عسكريا وسياسيا، وفي مواجهة ذلك الرفض الملموس وقتها حشد "بسام" عددا من المقاتلين قائلا إنهم لحمايته، قبل أن يتبين الجميع أنهم نَواة لانشقاق ٣٠٠ مقاتل دفعة واحدة عن "فيلق الرحمن" وتأمين سلاح توارد بلا تأكيد أنه وُفر عن طريق النظام السوري نفسه لاستخدامه بهذه اللحظة تحديدا، ومن ثم الهجوم على البلدة من داخلها لتسقط خلال ساعات، بما كان تمهيدا لسقوط القطاع الأوسط بالكامل.

    حال دخول النظام لبلدته "كَفربطنا"، لم يعد "ضفدع" بحاجة إلى مزيد من الاختباء، فظهر على التلفاز الرسمي بجانب جنود النظام السوري مؤكدا أنه "قام بواجبه المطلوب منه"، بقيادته مئات المقاتلين المنشقين عن فصائل المعارضة في الغوطة، وهم المقاتلون الذين باتوا يُعرفون محليا بـ "الضفادع"، ضمن السعي للمصالحة مع نظام الأسد، وصولا إلى مخاطبته بشار الأسد قائلا: "سيدي الرئيس، لكم الفضل في بناء الوطن وحمايتنا، كنا نتوقع أن النصر سيكون حليفكم وأنكم على حق وقد حصل"، معتبرا أن ما جرى في سوريا كان "تحريضا وليس ربيعا عربيا"، وأن الغرض كان "تخريب البلاد العربية"، وأنه رفقة مؤيديه كانوا يوضحون ذلك للناس في الغوطة، أو كما قال: "كنا متمسكين برأينا، والأحداث أثبتت هذه الحقيقة".

      

    نظر كثير من الناشطين السوريين لـ"ضفدع" على أنه سبب سقوط الغوطة كلّها، مذكرين بالوزير "ابن العلقمي" الذي أدخل هولاكو إلى بغداد متسببا بدمارها، في حين رفض آخرون تضخيم دور الشيخ الذي كان من الأساس قريبا من نظام الأسد بترشحه لانتخابات مجلس الشعب السوري عام ٢٠٠٧، ولم يعلن انتسابه للثورة حتى بعد سيطرة فصائل المعارضة على بلدته "كَفربطنا" مختارا الحياد والصمت، إلا أنه ومع اختلاف الآراء، فإن دورا كدور "ضفدع" كُشف عندما مارسه باللحظة والمكان المناسبين عما يمكن تسميته بظاهرة "الضفدعة"، وهي ظاهرة تُعرّف اختراق النظام -أمنيا وعسكريا واجتماعيا- لفصائل ومجتمعات المعارضة السورية عن طريق شخصيات وواجهات وأعيانٍ محلية -دينية في الأغلب-، وقيادتها لخلايا نائمة تتحرك في الوقت المناسب لإمالة كفة الأمور لصالح الأسد، ظاهرة تكشف عن اختراق النظام الكلّي للمجتمع السوري وتحريك شبكاته عن طريق عُقدٍ يمثّلها الفاعلون به، بصمت وهدوء ربما يبدو أكثر فاعلية من حرب ميليشياته الشعواء بالداخل السوري.

      

    "ستاسي" سوريا

    تصادف الثاني والعشرون من شهر يونيو/حزيران لعام ٢٠١٢ مع كونه يوم جمعة، الموعد الأسبوعي لاندلاع المظاهرات في المدن والمحافظات السورية الثائرة بحسب بروتوكول "الربيع العربي" السائد وقتها إن جاز القول، ربيع وصل بأحد أكبر تجلياته لمدينة "الباب" في ريف حلب، والتي كانت قد دخلت بكل ما لديها في الثورة السورية بعد شهر واحد تقريبا من اندلاعها، محافظة وملتزمة على ما بدا وكأنه واجباها الأسبوعيان: صلاة الجمعة، ومظاهرة الجمعة.

    حينها، فقد النظام صبره على ما يبدو مع قمع شبه يومي لم يعد يجدي للنشاطات الثائرة في المدينة، وبدا أنه سيفقد السيطرة عليها بالكامل، فأدخل في تلك الجمعة قوة من الجيش النظامي لاقتحامها، مرتكبا خطأ للمرة الأولى والأخيرة، فقد كانت هذه الحادثة دافعا أساسيا لتشكيل "كتيبة شهداء الباب"، فصيل معارض أصبح غطاء مسلحا للعمل الثوري في المدينة، وهي كتيبة استطاعت بعد شهر من تلك الحادثة إجبار عناصر المخابرات الجوية والأمن العسكري على الانسحاب إلى مبنى البريد، موقع إحدى المعارك الفاصلة التي شهدت الإسقاط الرمزي لصورة "بشار الأسد"، والإسقاط العملي للنظام بطرده من المدينة، معلنة إياها كـ "مدينة محررة".

    حال سقوط البريد، ذهب "عثمان العثمان"، رجل الأعمال المحلي ذو النفوذ الاجتماعي والصيدلي الرائد في المدينة، ليجمع ما حجمه غرفةٌ كاملةٌ من الملفات التي كانت موجودة لدى أجهزة الأمن، والتي كانت محرّمة على السوريين طيلة عقود حكم البعث والنظام السوري، مدفوعا ليعرف كيفية عمل أجهزة الأمن السورية التي اعتقلته مرتين خلال أربعة أشهر سابقة.     

    وورقة ورقة، حلل "عثمان" هذه الملفات وعرف من الذي أبلغ عنه طيلة حكم البعث، فوجد ملفات مكتوبة بخط اليد لأجهزة أمنية مختلفة، منها الأمن العسكري والمخابرات العامة في دمشق، والأمن السياسي في حلب وطرطوس، لكن المفاجأة كانت هي بعض تفاصيل اللقاءات التي كان يفترض أنها سرية، إذ لم يحضرها سوى خمسة من أصدقائه المقربين الذين بدا أن أحدهم قد وشى بأصدقائه، إضافة إلى صدمته بأن قريبه البعيد "محمد"، والذي كان يعلم اختلافه السياسي والأيديولوجي معه، كان أحد المخبرين الرئيسيين في "الباب" بشكل عام.

    كانت تفاصيل البيانات مفاجئة لعثمان على كل حال، لكنه بالطبع، ومثل معظم السوريين، لم يفاجأ بوجود هذه الملفات البالغة من العمر ثلاثة عقود للدولة الأمنية المخترقة للمجتمع السوري بشبكة واسعة وهائلة من المخبرين المحليين، سواء بممارستهم "كتابة التقارير" كوظيفة ثابتة، يستطيعون ممارستها بمجرد حملهم بطاقة انتساب لـ"حزب البعث"، أو كـ"عمل حر" للحصول على بعض الامتيازات السياسية والاقتصادية بإثبات الولاء عن طريق هذه التقارير، في نمط وصفته الأنثروبولوجية الأميركية "ليزا وايدن" بـ "هيمنة غامضة" يمارسها النظام، بينما يحب الكثير من المراقبين والباحثين مقارنتها بنظام الرقابة الشامل الذي مارسته "وزارة أمن الدولة"، الشهيرة بـ"ستاسي"، في ألمانيا الشرقية، أحد أكثر أجهزة الاستخبارات والشرطة السرية قمعا وتأثيرا في العالم، والتي بدت أمام النظام السوري في لحظة ما كأنها ألعاب أطفال لا أكثر.  

    لم يكن تفوق النظام السوري على ألمانيا الشرقية كمًّا وحسب، ففي الوقت الذي كانت فيه ذروة نجاحات "ستاسي" تجنيدها لما تقارب نسبته مواطن لكل ٦,٥ ألماني شرقي، ما بين مخبر رسمي أو مخبر متعاون، يُعتقد أن كل رجل من ثلاثة رجال في سوريا عمل بشكل ما مع أجهزة الأمن السورية الأربعة الرئيسة المنتشرة بشبكة من عشرات الفروع على طول البلاد وعرضها، أي أكثر من الضعف تقريبا، وهي شبكة شديدة الضخامة "استطاع السوريون رغما عنها النجاح والبدء بثورتهم"، بحسب ما يقول "العثمان" بفخر، إلا أنه لم يكن مدركا للجانب النوعي من هذه الشبكات: شبكات النبلاء والوجهاء.

     

    كشفت ملفات "الباب" عن رسالة عالية السرية من المكتب الرئيس للأمن السياسي في دمشق إلى المكتب المحلي، أشارت عليه بوضع المسؤولين الكبار في المنطقة، بما فيهم أعضاء الحزب وأعضاء مجلس الشعب والضباط الكبار والشخصيات الدينية، تحت الرقابة، وصولا إلى التجسس على رئيس شعبة حزب البعث الذي كان رئيس الأجهزة الأمنية في البلدة، ورفع تقرير عنهم أربع مرات كل عام، تقرير يتضمن أداء الشخصية من حيث التزامها بقواعد حزب البعث وضوابطه وأي جوانب سلبية، مثل اللقاءات والمحسوبية والفساد والرشوة والتعسف باستخدام السلطة والسعي وراء المكاسب الشخصية والزيارات السرية والانفتاح على المواطنين، وحتى ردود فعل هذا الشخص لبعض القنوات التلفازية مثل "الجزيرة"، ليتم استخدام هذه الشخصيات المحورية في الوقت المناسب، وهم مَن شكلوا فيما بعد ظاهرة الضفدعة.

     

    ثلاثية "الضفدع"

    على بُعد ستة كيلومترات شرقي دمشق، وتحديدا في بلدة كَفربطنا في غوطتها الشرقية، ولد الشيخ السوري "بسام دفضع" عام ١٩٥٤، ونشأ وأتم تعليمه الثانوي هناك، لينتقل لدراسة "الفنون الجميلة" في دمشق، قبل أن يقوم بتوجهه الأول لأسباب لم تُعرف بعد لمعهد "الفتح الإسلامي للعلوم الشرعية"، حيث اشتهر هناك بكونه "المهتدي" الذي تخلى عن الشيوعية وأفكارها ليلتحق بمعهد تخرج فيه مدرسا شرعيا، ثم شيخا وخطيبا مفوها في مساجد دمشق وما حولها، حتى بات يُقال إن خطيب المسجد الأموي الحالي، "مأمون رحمة"، والمنحدر من كَفربطنا كذلك، ليس أكثر من تلميذ من تلاميذ "دفضع".

    ظهرت طموحات "دفضع" السياسية عام ٢٠٠٧ علانية في بيان انتخابي لمجلس الشعب تحت اسم "الشيخ المهندس"، وهو بيان دفع له مبلغا كبيرا لنشره في نصف صفحة بإحدى جرائد النظام الرسمية، ولم يكن ليتمكن من نشره في دولة البعث لولا توجيهاتٌ عليا أو واسطةٌ نظامية ثقيلة على الأرجح، لم تغنياه أو تمكناه من الوصول إلى المجلس وقتها رغم ذلك(10).

        

                                             صورة لبسام ضفدع في الغوطة (مواقع التواصل)

     

    اندلعت الثورة السورية، ولم تستغرق سوى بضعة أيام حتى وصلت إلى كَفربطنا في الغوطة الشرقية فيما سُمي بـ "جمعة العزة"، تبعتها بعد شهر تقريبا إحدى أكبر الجُمَع في دمشق وريفها المسماة بـ "الجمعة العظيمة"، والتي سقط بها ١١٢ قتيلا في مناطق مختلفة من سوريا، كان من بينهم قتلى مظاهرة تشكلت من عدة مناطق وحاولت الوصول إلى ساحة العباسيين، قبل أن يوقفهم رصاص الأمن ويقتل عددا منهم في منطقة الزبلطاني.

    وقتها، وصل هؤلاء القتلى إلى كفربطنا للصلاة عليهم، لكن الشيخ "بسام ضفدع"، مع عدد من الشيوخ الآخرين في المنطقة، رفض ذلك، معلنا بموقفه ضمنيا انحيازه للنظام، الموقف الذي فضّل إخفاءه والتحفظ عليه منذ عام ٢٠١١ حتى العام الجاري، عندما بدأ اسمه يبرز لا كعضو في المكتب الشرعي لـ "فيلق الرحمن"، الذي نفى علاقته بـ "ضفدع"، بل كداعية للمصالحة وطابور خامس من داخل كفربطنا التي استطاع شق صفوفها، والتمهيد للوصول إلى نهاية باتت معروفة للجميع.

       

    Syrian Revolutionist@SyrRevo

    الشيخ بسام ضفدع من كفربطنا و باقي مشايخ و جوامع كفربطنا رفضت استقبال و الصلاة على جثامين الشهداء الذين سقطوا يوم الجمعة في الزبلطاني

    10:20 PM - Apr 23, 2011

    Twitter Ads info and privacy

      

    استحق الشيخ "ضفدع" بتجربته وصفاته أن يكون التمثيل الكامل لظاهرة "الضفدعة" التي نُسبت إليه، خصائص تطابق ظاهرة "أعيان الحرب" من جانب المعارضة المسلحة، وتعاكسها بالانتماء السياسي، وتتفوق عليها بكونها عُقدا محلية لكنها مرتبطة ضمن شبكات هيمنة النظام الكبرى؛ فبكونه "كبير" كَفربطنا، بالمعنى الاجتماعي، كشيخ وخطيب ديني، حصّل "ضفدع" رأس المال الرمزي الذي يحتاج إليه ليحشد حوله المجتمع المحليّ، والذي بنى عليه انحيازه السياسي الذي يمكن استقراؤه بكونه أحد أكبر شيوخ "معهد الفتح"، المقاول الفرعي الديني للنظام السوري، ثم طموحه الذي بدا بترشحه لمجلس الشعب، مستكملا الثلاثية التي يحتاج إليها النظام في وكلائه المحليين: "الدور الاجتماعي/السياسي"، و"الانحياز الضمني أو العلني"، و"الغرض السياسي"، ليعيّنه كـ"عقدة" الشبكة المحلية، ويمنحه دورا وظيفيا ينتظر اللحظة المناسبة للتفعيل.

     

                                              أنس الطويل (مواقع التواصل)

            

    لم يكد الشيخ "بسام دفضع" يتم دوره الوظيفي في الغوطة حتى ظهرت "ضفادع" أخرى في مناطق أخرى، كان على رأسها الشيخ "أنس الطويل"، الذي كان كذلك إماما محليا في مدينة بَبِّيلا جنوب دمشق، وعمل بدوره ممثلا لبلدة "بَبّيِلا" سابقا، ورئيس لجنة "المصالحة" على الترويج لدعوة وفكرة التسوية مع النظام، ثم الدعوة لحل سني-شيعي في منطقة احتكاك اجتماعي على أسس طائفية، وأحياء محاصرة شهدت حصارا خانقا وظروفا معيشية صعبة، فاستطاع بها تياره الانتصار على حساب تيار الاستمرار في الحل العسكري، ليشهد جنوب دمشق نفس مصير الغوطة الشرقية: الحافلات الخضراء لسكانه الذين هُجِّروا إلى الشمال السوري مقابل دخول النظام وإنهاء الوجود الثوري في جنوب جَيبِ دمشق.

    أما في القلمون القريبة من كل من الغوطة والجنوب، والمشابه مصيرها لمصيريهما بعدهما بفترة قليلة، فقد ظهر ضفدع جديد، ولكن ببذلة عسكرية هذه المرة، إذ دفع قائد لواء "مغاوير الصحراء" محمد أحمد شعبان، الملقب بـ "الضبع"، كل عناصر أفراده بسلاحهم وعتادهم لجانب النظام، وأعلن وضعهم تحت يد النظام "في كل شبر من سوريا" حسب قوله، في ضربة من داخل مناطق المعارضة المسلحة مرة أخرى سهّلت عملية التسوية والمصالحة، أو بالأحرى دخول النظام السوري إلى القلمون، والحافلات الخضراء إلى الشمال، مشهد لا يكاد يختلف إطلاقا عما قام به قائد لواء "شباب السنة" أحمد العودة الذي فضّل الدخول بمصالحة وتسليم كل السلاح الثقيل حال هجوم النظام على بلدته الإستراتيجية "بصرى الشام" في ريف درعا الشرقي، الذي كان بمنزلة ضربة قاصمة لكل الجنوب السوري، انتهت بمشهد مماثل من الحافلات الخضراء إلى الشمال أيضا.

    لا يبدو المشهد مختلفا بحال عن مشهد حلب الأشهر والأكثر قتامة للثورة السورية قبل ذلك بأكثر من عام: حافلات خضراء ومعارضة مسلحة مفككة من الداخل، ومناطق سقطت قبل أن تقاتل بسبب اختراقها على يد "ضفادع" لم تظهر للواجهة هذه المرة، لكن مواصفاتها باتت حاضرة وواضحة من خلال دورها الذي أتمّته على أكمل وجه، والأهم، في الوقت المناسب، بحسب ما يروي مقاتلون في معركة حلب عن مناطق سقطت بلا أي رصاصة بعد انسحاب الفصائل التي كان يجب أن تقاتل هناك، بما كان له أثر نفسي واجتماعي كبير سهّل سقوط مساحات واسعةٍ بساعات، ولم يكن يُتخيل أن تسقط خلال شهور، وانتهى مصيرها بالطريقة نفسها وبالمشهد الأشهر: كل الحافلات الخضراء بلا نهاية. 

    يكشف هذا التوالي الزماني لسقوط المدن والبلدات والقرى المعارضة عن إستراتيجية واضحة للنظام يمكن اختصارها بـ "فرّق تَسُد"، الممثلة بتوجيه كل الجهد العسكري والسياسي والأمني ضد المناطق واحدة تلو الأخرى، بعد عزلها الجغرافي والاجتماعي في جزر متباعدة وجيوب مفككة؛ إستراتيجية أثبتت نجاحها بانتشال النظام السوري الذي كان يعاني ضعفا بشريا وعسكريا باعترافه مقابل تفوق وانتشار فصائل المعارضة، وهي فصائل كشفت أيام القتال الطويلة عن تفككها وعدم ارتباطها، مقابل ارتباط مباشر وعملي ضمن شبكات متماسكة ومترابطة استطاع النظام، من خلال حفاظه على نواتها، إعادة بنائها ثم استطاع إدارتها وتفعيلها باعتماده على الناتج الأمني لعشرات السنين عن المجتمع الذي صنعه على عينيه. 

    ومثلما باتت الحافلات الخضراء مشهدا شهيرا للتهجير، وبات الشيخ ضفدع نموذجا مثاليا لاختراق النظام للفصائل والمجتمع السوري المعارض من خلال الأعيان المحليين؛ تبدو العلاقة واضحة بين الاثنين: لا حافلاتٍ خضراء بلا ضفادع سهّلت التهجير ودخول النظام، سواء أكانت علنية بشخصيات باتت معروفة مثل ضفدع والطويل، أو ضمنية بلمسات لا يمكن إنكارها مثلما جرى في حلب، كاشفة عن مستوى جديد وآخر أكثر تعقيدا تلعبه السياسات المحلية جدا على مستوى كل بلدة ومنطقة، بعيدا عن الاتفاقات الدولية والمعارك العسكرية، وعن عمل أمني استمر لعقود حيث كانت الثقة والنفوذ والمصالح تباع بالمعلومات التي لم تكن رهينة الملفات والأرشيف بل قيد التوزيع والتطبيق، لكن الناتج الأخطر هو كشفها عن شبكة متماسكة مرتبطة بعقد محلية يعرفها ويعرف إدارتها النظام، مقابل فشل أمني واجتماعي وبنيوي على مستوى شبكات المعارضة المسلحة، التي تفككت على نفس هذه الخطوط والعقد بدلا من أن ترتبط، في متلازمة هزيمة يبدو أنها ستظل مرافقة للمعارضة المسلحة وفصائلها لوقت أطول.

    المصدر : الجزيرة

    الرابط :  http://midan.aljazeera.net/reality/politics/2018/9/19/%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B6%D9%81%D8%A7%D8%AF%D8%B9-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D8%AE%D8%AA%D8%B1%D9%82-%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9

    سوريا الضفدعة الأسد الثورة اختراق خلب الغوطة حمورية سقبا كَفربطنا

    مقالات