التاج البريطاني واللاهوت السياسي
الدكتور عطيّة عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةمنذ عهد الملك “هنري الثامن” الذي مُنِحَ عام 1521م لقب “المدافع عن الإيمان” والسُّنَّةُ ماضية في كل من يجلس فوق عرش بريطانيا وتحت تاجها المعَظَّم، فما من ملكٍ يَعْقُبُ ملكاً إلا وَيَرِثُ عنه ذلك اللقب مع عرش البلاد وتاجها، هكذا كانت “إليزابيث الثانية” على مدى السبعين عامًا التي تربعت فيها فوق عرش “الكومنولث”، وهكذا صار وريثُها “تشارلز الثالث” الذي يستأنف عهدا جديدا مليئًا بالتحديات الجسام، ويجب على الملك الجديد أن يعلن عند التَّتْويج – كَسَابِقِيهِ – أنّه بروتستانتي مخلص، وأن يقسمَ اليمينَ على الحفاظ على استقرار كنيسة إنجلترا والحفاظ على العقيدة المسيحية للشعب البريطاني.
ثيوقراطيةٌ مُقَنَّعَة
ليس صحيحًا القولُ بأنّ الملك في النظام الإنجليزي مجرد رمز، يبدو أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، كما يبدو أنّ الفصلَ بين الملك وبين الكنيسة مجرد أسطورة، فها هي الكنيسة تتولى التتويج، ويُلْزَمُ الملك بأن يقسم أمامها يمين الولاء والتعهد بالحفاظ على الدين المسيحيّ، وقد يكون صحيحا توصيفُ الكنيسة الإنجليكانية لوضع الملك وصلاحياته في هذه العبارة الواردة بالمجلة الفصلية اللاهوتية: “يسود الملك ولكن لا يحكم” والسيادة تعني أنّه يقبض على مفاصل كبرى، ويترك الحكم للحكومة البرلمانية؛ لتمارس الكدّ والكدح في ميادين السياسة، بما لا يخرج عن توجيهات السيادة غير المعلنة وقواعد الدستور غير المكتوب.
إنّها -إذن- الثيوقراطية الْمُقَنَّعَة، ولولا هذا الهامش من الحريات وهذه المساحة المعطاة للبرلمان وحكومته لقُلْنا إنّ الملك لا يزال كما كان يُعْتَقَدُ “ظل الله في الأرض”، ولولا ضرورة التحفظ العلمي لاعتقدنا بشكل نهائي صحة مقولة (آتجر Atger): “الأمير هو الإله الديكارتي المنقول إلى العالم السياسي”؛ فظاهرُ الأمرِ وباطنُهُ يؤكدان بما لا ريب فيه أنّ المساحة بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية بعد أن كانت في العصور الوسطى ميدانَ تنافسٍ وتصادم، صارت اليوم واحةَ تناغمٍ وتفاهم، وحسب “روبرت هيب” فإنّه: “لم يعد هناك لاهوتٌ بحتٌ ولا سياسة بحته؛ لقد أَثَّرَ المجال الاجتماعي في كليهما على السواء، وأذاب تميزهما” فلا اغترار بما يصدرونه لنا من علمانية ذاهبةٍ إلى أقصى مدًى في الفصل بين السياسة والدين، إنّما هي أكذوبة ضمن الأكاذيب التي يروجونها، وليس علينا إلا ابتلاع الأكاذيب.
اللاهوت السياسي
عندما أصدر “كارل شميت” الجزء الأول من كتابه “اللاهوت السياسي” هاجت ضده الأقلام، فكان من أشهر الكُتَّاب الذين تناولوه بالنقد “بيترسون” وهو لاهوتيٌّ شهير، وكان يعتمد دائما على مقولة: “إنّ كنيسة المسيح ليست من هذا العالم” فرد عليه “شميت” في الجزء الثاني من كتابه بقوله: “نعم إنّ كنيسة المسيح ليست (من) هذا العالم، ولكنّها (في) هذا العالم” فوجود الكنيسة في هذا العالم بتاريخها العريق في المزاحمة والمراغمة السياسية يجعلها لا تهدأ ولا يسكن لها بال إلا بإصباغ السياسة بصبغةٍ لاهوتية؛ لذلك وجدنا الكلفنيين من البروتستانت – الذين اعتقدوا أنّ أمريكا المكتشفة حديثا بمثابة أرض الميعاد التي وهبها الربّ للمسيحيين الإنجيليين ومعهم اليهود- وجدناهم يناكفون الآباء المؤسسين لدى كتابة الدستور، وحسب ما سجله “فرانك لامبرت” في كتابه “الدين في السياسة الأمريكية” فإنّ المعركة بين الكلفنيين وبين توماس جفرسون -والتي انتهت باتهامهم له بالزندقة- كانت حول (تَدْيِين) الدستور.
توابع وانعكاسات غير حميدة
إنّ الكنيسة حاضرة في العالم المسيحيّ بقوة، وفي أروقة السياسة الغربية عموما والإنجليزية والأمريكية خصوصا، تنقل لنا “غريس هالسل” في كتابها “النبوءة والسياسة” عن مصادر: “أنّ استقصاء 1984م الذي أجرته مؤسسة (باتكيلو فيتش) أظهر أنّ 39% من الشعب الأمريكيّ يقولون إنّه عندما يتحدث الكتاب المقدس عن تدمير الأرض بالنار فإنّ ذلك يعني أنّنا نحن أنفسنا سوف ندمر الأرض وأنّ هرمجدون نووية”، بل إنّ تسعة من زعماء أمريكا قد تحدثوا في مواقف عديدة عن معركة هرمجدون، تلك النبوءة التوراتية المروعة، وحسبما ورد في كتاب “البعد الديني في السياسة الأمريكية” فقد وقف الرئيس الأمريكي الأسبق “ريغان” أمام “الإيباك” قائلا: “حينما أتطلع إلى نبوءاتكم القديمة في العهد القديم وإلى العلاقات المنبئة بهرمجدون أجد نفسي متسائلا عمّا إذا كنّا نحن الجيل الذي سيرى ذلك واقعاً، ولا أدري إذا كنت قد لاحظت مؤخرا أيًّا من هذه النبوءات، لكن صدقوني إنها قطعا تنطبق على زماننا الذي نعيش فيه”
إنّ وساوس القساوسة الجدد قد دخلت عالم السياسة في أعتى الديمقراطيات بقوة وعنف، ولاسيما مع صعود اليمين المحافظ ثم اليمين المتطرف ثم “الترامبية”، يكفي للدلالة على الرعب المنتظر أنّه في سبعينيات القرن المنصرم صدر كتاب لـ”هول ليندسي” -وهو على شاكلة “جيري فلول” و”جيمي سواجرت”- بعنوان “نهاية أعظم كرة أرضية” بِيع منه 18 مليون نسخة وظل على مدى السبعينيات يحتل المركز الأول في مبيعات الكتب بأمريكا، هذا الكتاب يؤصل بنصوص توراتية لنظرية نهاية العالم في معركة هرمجدون، ومن قراء هذا الكتاب الرئيس الأمريكي الراحل ريغان.