معركة الإسلام في تركيا
الأستاذ محمد إلهامي - باحث في التاريخ و الحضارة الإسلامية رابطة علماء أهل السنةبسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
لا يخفى على مهمومٍ بأحوال الأمة الإسلامية، أنها مقبلة على معركة كبيرة وفاصلة، وهي: الانتخابات التركية في مايو 2023م، وتلك معركة لا يهتم لها المسلمون وحدهم، بل يهتم لها كذلك الغرب والأنظمة العربية، وجميع هؤلاء يعرف ويعلم حجم الفارق الضخم والتأثير العظيم والمدى الخطير بين فوز أردوغان بها وبين فوز كمال كليتشيدار أوغلو، زعيم المعارضة العلمانية.. ولأنهم يعلمون، فهم يعملون كذلك!
وبداية، وقبل الدخول في الموضوع، فإن ثمة أمرًا أرى أن العرب في بلادنا لا يعرفونه ويغفلون عنه، وإني أهتم بذكره هنا لأن العرب هم جمهوري الذي يقرؤون ما أكتب.. يحسب الأكثرون أن تركيا تمثل ملجأ للعرب الفارين من بلادهم، سواءٌ فرُّوا من القتل والسجن، أو فرُّوا من الفقر والحاجة.. وهذا جزء من الصورة. من كان في تركيا هنا يعرف أن تركيا صارت ملجأً للمسلمين جميعا! لا للعرب وحدهم!
فهنا في تركيا ترى شعوب الترك والأوزبك والطاجيك والشيشان والقوقاز والتركستان والروهينجا، بل ترى كذلك الذين فَرُّوا من أوروبا وأمريكا بعد أن تبين لهم استحالة المحافظة على دينهم هناك، أو تعرض أولادهم لخطر الاختطاف الذي تمارسه الدول الغربية لأبناء المسلمين إذا هم علموهم دينهم أو حثوا بناتهم على الحفاظ على شرفهن.. فتلك الأمور هي من التهم والجرائم واضطهاد الأطفال عند الحكومات الغربية، وبها ينتزعون الأطفال من أسرهم، وهذا موضوع مأساوي شنيع بشع لا تتسع له هذه السطور.
وإلى فترة قريبة كانت مصر وأرض الحرمين والشام من البلاد التي يهاجر إليها هؤلاء المضطهدون من شعوب آسيا المسلمة من الترك والقوقاز والأوزبك والطاجيك وغيرهم، حتى جاءنا زمان السيسي وابن سلمان وبشار، فإذا بهم جميعا يتقربون من الصين بتسليم المسلمين والمسلمات إليهن، ففرغ الأزهر من شطر كبير من طلابه الآسيويين، لا سيما التركستان، وأما النشطاء الروهينجا فهم الآن في سجون ابن سلمان، ولم يبق طالب علم من أهل القوقاز في الشام إلا وخرج بنفسه إذا لم يُسَلَّم إلى بوتين.. فهؤلاء جميعا تراهم الآن في تركيا!!
ويعلم جميع الناس، أن تركيا لم تصر ملجآ لهؤلاء العرب والمسلمين إلا لأنها تحت قيادة أردوغان، وأنه لو زال عن هذه القيادة غدا لصار هؤلاء جميعا في مهب الريح.. وفيهم العلماء والفضلاء والصالحون وأهل الدين، فضلا عن النساء والأطفال والعجائز!
ولا يخفى على متابع هذا الغزل المتبادل بين المعارضة التركية وبين أنظمة دول آسيا الوسطى وغيرها، ولا نواياهم في إخراج هؤلاء اللاجئين وتسليمهم إلى بلدانهم!
وزيادة في حماية هؤلاء، فقد منح أردوغان لكثير منهم إقامات استثنائية أو طويلة أو دائمة، ومنح كثيرا منهم أيضا الجنسية التركية. ومع أنه أبدى مرونة أو خضوعا (والتوقف عند اللفظ لا يهمني الآن) في إعادة علاقاته مع أنظمة الشر العربية ودولة الكيان الصهيوني، فإنه في ذات الوقت أبدى تصلبا تامًّا وعنادًا حديدًا في مسألة تسليم اللاجئين إليه، مع أن نظام السيسي –كمثال- وضع هذا البند على رأس مطالبه، وأَخَّر من أجله كل ملفات البلد المهمة كغاز المتوسط والوضع في ليبيا، فكان ذلك دليلا آخر على أن هذا السيسي عدو الله ليس إلا رئيس عصابة مجنون بنفسه! ليس له في حب الوطن أدنى نصيب.
لو لم يكن من فضل لأردوغان إلا أنه صيَّر بلده ملجآ للمظلومين لكان ذلك الفضل كافيا
والقَصْدُ: أنه لو لم يكن من فضل لأردوغان إلا أنه صيَّر بلده ملجآ للمظلومين لكان ذلك الفضل كافيا في إيجاب دعمه والوقوف من خلفه، كذلك: فلو لم يكن من خطرٍ يترتب على خسارته إلا تشرد هؤلاء الملايين وتعرضهم للطرد والإذلال وخطر السجن والموت وعودة القادرين منهم إلى أوروبا إلى حيث يفقدون دينهم وأبناءهم، لو لم يكن من خطر إلا هذا، لكان هذا كافيًا في تحريم التخلي عن هذه المعركة لكل قادر، فضلا عن تحريم دعم هذه المعارضة ولو بأقل القليل!
ووالله، لو كان أردوغان على هذا الحال ليس إلا رئيسا كافرا لدولة أوروبية، يفعل هذا انطلاقا من شعور إنساني فحسب، لكان المسلمون هم أجدر الناس أن يدعموه ويقفوا من خلفه ويحرصوا على فوزه وبقائه، بل لو قيل: من يحارب معه؟ لكانوا هم أولى الناس بذلك وأسبقهم إليه.. فكيف وهذا الاحتضان للاجئين ليس إلا حسنة من حسناته؟!
إن أردوغان –في نظر العلمانيين الأتراك وفي نظر الغرب- أعاد فتح تركيا وأدخلها في الإسلام من جديد!
ولا أقصد بحسناته هنا الإنجاز الاقتصادي فحسب، وهو إنجاز ضخم هائل يستحق وحده أن يكون سببا كافيا لدعمه ولكن لست أخوض فيه لأن الكلام فيه كثير، بل حتى إنجازه في نشر الإسلام في بلده، ومن كان على مشارف الأربعين –مثلي- فقد شهد بنفسه كيف تحولت المسلسلات التركية من العشق الممنوع والعلاقات المحرمة إلى بطولات أرطغرل وعثمان وألب أرسلان وعبد الحميد الثاني... وغيرها. ولما قدمنا إلى تركيا سمعنا ممن كانوا يقيمون بها قديما ما لا يكاد يصدق عن أحوال هذا البلد الأخلاقية والمعيشية وازدراء أهل الدين فيها.. وهذه أمور لا يُحسن تصورها ولا تصويرها مثلُ الذين عاشوها.. إن أردوغان –في نظر العلمانيين الأتراك وفي نظر الغرب- أعاد فتح تركيا وأدخلها في الإسلام من جديد! وهذه العبارة وإن لم تكن دقيقة إلا أنها توضح لك حجم التحول الذي يرصده الأعداء!
وهو ذاته هذا التحول الذي سترتد إليه تركيا لو فقدت رجلا مثل هذا، وجاء بعده من كانوا قبله! هل تصدق عزيزي القارئ أن المعارضة العلمانية نفسها التي كانت تقنن نزع الحجاب وتطرد المحجبات من المستشفيات لا تترك الآن ملصقا ولا مظهر دعاية لها إلا ووضعت عليه صورة المحجبة؟!!
المُفرٍطون والمفرّطون
سيقول السفهاء من الناس ما يحمله على الدفاع عن أردوغان إلا أنه لاجئ في بلده أو حتى مستفيدٌ منه، فلو شئت والله أن أدفع عن نفسي لفعلت، ولكنهم أتفه من أن أضيع معهم وقتا. ولقد قال سفهاء الناس مثل هذا يوم كنتُ أدافع عن مرسي وكانوا يتوقفون في الدفاع عنه (إما لأنهم ثوريون جدا لا يقبلون بخدش نقاء الثورة، أو أهل دين جدا لا يقبلون بأقل من حكم الشريعة)، فأدَّاهم هذا الغلو –في الثورية وفي الدين- إلى أن يكونوا حميرا يركبها السيسي حتى ضاع الدين وضاعت الثورة على الجملة، وصار بعض أولئك كلابا أحذية ينافقون السيسي ويبررون له، وصار أحسنهم حالا طريدا مثلنا، فمن كان ذا نفس سوية أقرّ بالخطأ والندم (وقت أن لم ينفع الندم) ومن كان ذا نفس خبيثة لفَّق لنفسه الأعذار والمبررات!!
ولقد كنا وقتها نحدثهم ونجادلهم بالتاريخ، فنقول انظروا من البديل، وتذكروا عصر عبد الناصر.. فالآن نجادلهم بالواقع ونقول: انظروا من البديل، وتذكروا مرسي والسيسي.. فمن كانت له عند أردوغان مظلمة أو مثلبة أو منقصة فليعلم أن منافس أردوغان وبديله ليس واحدا من الخلفاء الراشدين!!
وفي الأتراك هنا، كما عندنا في العالم العربي، سفهاء من السلفيين والمتصوفين الذين يقولون أيضا إن الديمقراطية كفر وإن أردوغان عميل للصهاينة والأمريكان، ولا يفطن هؤلاء أنفسهم إلى أنهم لا يستطيعون أن يقولوا هذا ولا أن يختاروا ولا أن يتعلموا لولا هذا الفضل الذي جاءهم به أردوغان نفسه.. وكم في الناس من مطموس البصيرة، يورد نفسه الحتوف راغبا راضيا..
ولكن الطريف هنا، أن هؤلاء بدؤوا يظهرون في البرامج التركية، تريد المعارضة بهم أن تصرف أهل التدين عن انتخاب أردوغان لأنه لا يحكم وفقا للدين والشريعة، أو أن تصرفهم عن الانتخاب بالكلية ولينتظروا في كهوفهم حتى يأتيهم من جديد نظام البيعة الشرعية المعقودة من أهل الحل والعقد!!
تماما مثلما فتحت الفضائيات وقنوات التليفزيون المصري في عهد مرسي مساحات للتكفيريين ليقولوا عبر هذه الشاشات: الانتخابات كفر، وكل من شارك فيها كافر.. وفتحوا الباب كذلك لرؤوس المنافقين من المداخلة وحزب برهامي ليقولوا بأن مرسي لا يطبق الشريعة، والعلماني الصريح خير من العلماني المتخفي مرسي.. فجاءهم العلماني العسكري الصريح فجعلهم حيث يستحقون، من لم يكن جارية في بلاط السيسي كان كلبا في حراسته ينبح على من خالفه!
لست فقيها ولا مفتيا، ولكني لا أعرف فقيها ولا مفتيا له من الاطلاع على الواقع نصيب إلا وهو يؤكد على ضرورة دعم أردوغان.. ومما لا يعرفه كثيرون أيضا أن ما لقيه جماعة العلماء من حفاوة وإكرام في هذا البلد ما كانوا يحلمون بشيء منه في بلادهم التي أخرجتهم.. ولا يخلو الأمر من أخطاء.
وفي حدود ما أعرف من الدين، فلا أحسب أن أحدا من المسلمين يمكنه أن يساهم في هذه المعركة بسهم فيسعه أن يتخلى أو يمتنع، وفي مقدمة هؤلاء أولئك الذين حصلوا على الجنسية التركية وصار لهم حق الانتخاب، وكذلك الإعلاميين والكُتَّاب وأهل اللسان والبيان ممن يستمع لهم الناس ويملكون أن يؤثروا فيهم، ومثلهم الإعلاميون الجدد مثل اليوتيوبرز والتيكتوكرز وغيرهم ممن يجمعهم اسم "المؤثرين" (الانفلونسيرز)، فعليهم كذلك هذه المسؤولية الواجبة التي يُسألون فيها أمام الله، فما القضية نصرة حاكم ولا رئيس، بل هي قضية مصير للمسلمين.
ماذا لو نجح الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا (15 يوليو 2016م)
وهل ننسى ما كان في واقعنا قريبا، هل ننسى كيف كانت ليلة محاولة الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا (15 يوليو 2016م)، يوم أن تعلقت قلوب الجميع بالمشهد التركي، فقام كل عدو لهذا الدين ولهذه الأمة فرحا مسرورا يرجو نجاح الانقلاب، ثم ردَّهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا. وقام كل مسلم صالح ناصح يرجو أن يفشل هذا الانقلاب فمنهم من نزل بنفسه ومنهم من لم يجد غير الدعاء يبذله!!
نعم، إن المشاعر تُنسى! ولو أن المرء يتذكر هذه الليلة ويتوقع ماذا كان سيكون تأثيرها على المسلمين، لوجد أن السواد التام يعم ديار المسلمين كلها!
وقد طال المقال ولم نقل شيئا عن مواقف الرجل السياسية الخارجية، فليس أول ذلك منعه اجتياح قطر سنة 2017، ولا آخرها إداناته للإساءة إلى النبي ولما يحدث في الأقصى.. ومواقف أخرى طويلة وكثيرة.. ربما ينتقدها البعض الآن ويرى أنها ليست كافية، ولكنه ينسى أن إذا كان غير هذا الرجل في هذا المكان، لكانت هذه المواقف أحلام لا تراود حتى الخيال!
ها نحن نودع شهر رمضان، ولقد رأيت من نفسي ومن غيري حرصهم على الدعاء له في أوقات الإجابة، وأكثر هؤلاء الذين يدعون ويتضرّعون لم تمسهم من الرجل منفعة ولا مصلحة، وإنما كانوا مثل جدهم عبد الله بن عمر، يفرح للغيث إذا نزل في أي أرض للمسلمين. وإني لأشهد أن هذا الرجل في هذا الزمن هو من نعم الله الكبرى على أمة المسلمين أجمعين.