الخميس 25 أبريل 2024 04:26 صـ 16 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    «كيف كان؟».. رؤية في منهجية الفلسفة الإسلامية للتاريخ (1 - 2)

    رابطة علماء أهل السنة

    إذا كان بعضُ النحويين قد صنَّف «كان» ضمن الأفعال الناقصة، فربما لشعورهم أنَّ مَدَى فِعْلِيَّتها الزمنية الماضية لم يبلغ منتهاه، أو أنَّ كينونة الفعل المُخْبِرِ عَمّا حَدَثَ لم تزل مستغرقةَ الزمن متعديةَ التأثير؛ مما يَشِي بأنَّ حقيقة ما «كان» قد تكون موصولةً بالفعلين؛ الحالي أو المآلي، أو قد تكون دلالتها على هذا النحو مرتبطةً بإشارات الاتعاظ والاعتبار الإنساني بأحوال الماضين؛ (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ {137} هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ {138}) (آل عمران).
    عند حدود هذا التوصيف القرآني لفنون البحث التاريخي وكيفياته، يمكننا القول: إنَّ «كان» لم تستنفد شروط صلاحيتها التاريخية بَعْد؛ والفلسفة الإسلامية للتاريخ لا تتوقف عند حدود بيان الحكاية التاريخية للناس، بل تكشف عن مواطن العبرة ومَظانّ الموعظة، وتستحث العقل للبحث والتنقيب والاستخراج تحقيقاً للوعي التاريخي الذي يُعَدُّ في ذاته أحَدَ أهَمِّ مؤشرات التقوى في الفكر الإسلامي.
    ولذلك، بقيت «كان» على حالها من حيث كونها إخباراً عن ماضٍ غيرِ مُكْتَمِلٍ من حيث السمة الزمنية للفعل؛ ومن ثم يمكننا تمديد دلالة «كان» تمديداً زمانياً بحسب ما تقتضيه طبيعة الوظيفة التاريخية للمقصوص، ولاسيما إذا كان قَصصاً قرآنياً خالداً؛ وسنسوق على ذلك المعنى دليلاً من قوله تعالى: (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ {21} ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ {22}) (غافر).
    ففي الآية الأولى استفهام استئنافي (أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا)، إذْ «النظر بمعنى الاعتبار والتفكر»(1)، وهو ما يعطينا مفاتيح الأجوبة الخبرية وحكمتها التي لا تتوقف عند ماهيات الفعل والفاعل والمفعول، ولا تنتهي عند حدود الإلمام المحيط بالظروف والملابسات المقترنة بكافة عناصر الجملة الفعلية التاريخية فحسب، بل تتجاوز حكمة التاريخ كل ذلك محاوِلةً الإجابة الخبرية عن السؤال المركزي في حقل التفسير الإسلامي للتاريخ، ألا وهو «كيف كان؟»؛ ولذلك نجد الوحي في الآية التي تلتها يُتيح لنا «البَيّنـات» كَمُسهِّلات التفكر والاعتبار، وكمفاتيح الوعي المعرفي الحكيم بالتاريخ دون استغراق في تفاصيل، فقال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ {22})، وهكذا جاءت منهجية الأجوبة المحكمة على كافة الأسئلة المتعلقة بالسؤال الفلسفي «كيف كان؟»، متركِّزة على المعاني الجوهرية والأفكار المركزية والخلاصات المركَّزة المفيدة.
    الإعراب التاريخي للفعل «كان»:
    وردت «كيف كان» بنصها ودلالتها على منهجية الوعي المعرفي بالتاريخ 25 مرة في القرآن الكريم، وهذا التعداد الوفير برهانٌ على ثراء دلالتها وبلاغة حكمتها؛ ونحن إذا أردنا أن نُعرِبَ عن «كيف كان؟» إعراباً تاريخياً، لنقف على بعضِ وجوه دلالتها في حقل التفسير الفلسفي للتاريخ، سنجد على سبيل المثال إحدى الآيات التي تشير إلى الأمر بالسير في الأرضِ تَحَرِّياً لحكمة التاريخ وأسرار حوادثه، إذْ يقول الله تعالى: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ) (الروم:٤٢)، إذْ تأتي «كَيْفَ» بمثابة استفهام استئنافي في محل نصب خبر «كان» المُقَدَّم؛ حيث تقدمت «كان» لأولويتها في منهجية النظر وهندسة المعاني وتقنين العِبَرِ والدلالات التي تتضمنها؛ وهذا يعني أنَّ مجرد سرد الحادثة ليس مطلوباً لذاته بقدر ما هو مطلوب من دلالات مُجيبة عن السؤال: كيف كانت تلك الحادثة؟ فهي «سؤال عن حقيقة الحال وتصوره»(2).
    ومن ثَمَّ، فالوعي التاريخي هو: وعي معرفي بحوادث وقعت آزِلاً، وقد تقع عاجلاً أو آجِلاً على نحوٍ ما؛ ولذلك، ذهب أهلُ الاختصاص - في سياق حديثهم عَن نُقصانِيَّةِ الفعل «كان» - إلى أنَّ لفظة «كان» من الأفعال ذات «الدلالة على الحدث المقترن بزمانٍ ما»(3)، فمن ثَمَّ، هي دلالة تاريخية بطبيعة الحال؛ وكما ذهب سيبويه إلى أنَّ «كان» من الأفعال التي لا تستغني عن الخبر، وقد أُدْخِلَتْ «كان» لتجعل ذلك الخبر فيما مضى(4).
    وفي تقديري أنَّه لا يمكن الاقتصار – لدى إعراب القصص القرآني إعراباً تاريخياً - على اسم كان دون إيراد خبرها في الآياتِ القصصية؛ إذْ إنَّ مجرد لفظة «كان» كدلالة على الفعل المجهول كنهه لا تفي بأغراض القصة في القرآن، ولا تُشبع ذلك الشغف المعرفي الإنساني بالتاريخ، ثم كيف نستغني باسم «كان» دون خبرها، والله تعالى يدعونا إلى النظر المتأمّل بمنطق الحكمة التفسيري «كيف كان» و«عاقبة»..؟ وهنا لا يمكن الاستغناء باسم كان عن خبرها بحالٍ من الأحوال! لكنَّ أهل اللغة أجازوا حذف خبر «كان» إذا دَلَّ عليه دليلٌ لفظيٌّ أو معنوي(5)، مستدلاً بقول الشاعر: 
    رَماني بأمر كنت منه ووالدي
    بَرِيًّاومِن أجْلِ الطوى رماني(6)
    وقد علَّق سيبويه على دلالة البيت السابق بقوله: «لفظ الواحد وُضِعَ في موضع الخبر، لأنّه قد عَلِم أنَّ المخاطَبَ سيَستدلّ به على أنَّ الآخَرِين معنيون بهذه الصفة»(7). 
    ومن أدِلِّةِ حذف خبر كان لِدَليلٍ معنويٍّ: ما ورد عن عائشة قالت: مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً، ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: «إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ»(8)؛ فكأنَّ معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّها كَانَتْ فَاضِلَةً وَكَانَتْ عَاقِلَةً(9).. آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِيَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ»(10)، وهذا مِمّا يُعَزِّزُ امتناع حذف الخبر مُطلقاً لدلالة «كَيْفَ كَانَ» على كينونة الأحداث الفعلية، وماهية الوقائع التاريخية وأبعادها المآلية.
    إنَّ كيفية الكينونة التاريخية المآلية، هي: خلاصة ما يمكن تسميته بِـ«السيرورة» تارة و«الصيرورة»، اللتين تُعَبِّران عن حدود الظاهرة التاريخية المنظورة موضوعاً وزماناً ومكاناً.. آزلاً وعاجلاً وآجلاً.
    وإذا تأمّلنا الآيات التي تتضمن الحَثَّ على النظر الكيفي الذي يتحرَّى عاقبة المكذبين أو المجرمين أو المفسدين والمُنْذَرين وغيرهم؛ فسنجد أنَّ «كان» تدل على المذكر، بينما اسمُ كان وَرَدَ مُؤَنَّثًا «عاقبة»! فلعلها لفتةٌ قرآنية إلى أنَّ معرفة مجرد العاقبة ليس مقصودة، إنما المراد هو شأن العاقبة وكيفيتها؛ حالها وملابساتها وظروفها المآلية التي تجعل من هذه العاقبة عبرةً وموعظة للآخِرين.

    الهوامش: 

    (1) أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان بن عمر الداني (ت: 444هـ): الفرق بين الضاد والظاء في كتاب الله عز وجل وفي المشهور من الكلام، تحقيق: حاتم صالح الضّامن (دار البشائر، دمشق، 1428هـ/2007م) ص46.
    (2) يحيى بن حمزة بن علي بن إبراهيم الحسيني العلويّ الطالبي الملقب بالمؤيد باللَّه (ت: 745هـ): الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز (المكتبة العنصرية، بيروت، 1423هـ) جـ3، ص159.
    (3) إبراهيم السامرائي: الفعل.. زمانه وأبنيته (مؤسسة الرسالة، بيروت، 1983م/1403هـ، ط3) ص57.
    (4) عمرو بن عثمان بن قنبر- سيبويه (ت:180هـ): الكتاب، تحقيق: عبدالسلام محمد هارون (دار الجيل، بيروت، د. ت) جـ1، ص45.
    (5) حسام سعيد النعيمي: النواسخ في كتاب سيبويه (دار الرسالة للطباعة، بغداد، 1397هـ/1977م) ص42 و43.
    (6) أبو الخَطّاب عمرو بن أحمر الباهلي (تُوفِّيَ على الأرجح ما بين 77: 82هـ): شعر عمرو بن أحمر الباهلي، جمع وتحقيق: حسين عطوان (منشورات مجمع اللغة العربية، دمشق، د. ت) ص187.
    (7) سيبويه: الكتاب، جـ1، ص75 و76، بتصرف يسير.
    (8) أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها، حديث (3818).
    (9) أبو الفضل أحمد بن علي بن حجر العسقلاني الشافعي (773هـ: 852هـ): فتح الباري شرح صحيح البخاري، رَقَّمَ كتبَه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه: محب الدين الخطيب، تعليقات: عبد العزيز بن باز (دار المعرفة، بيروت، 1379هـ) جـ7، ص137.
    (10) رواه أحمد في مُسندِهِ عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها، حديث (24864)، ومن الأدلة كذلك في قول السائب بن يزيد في شأن الأذان: «فلما كان عثمان، وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء»، ويعلّق ابن حجر موضِّحاً دلالة قوله: «فلمّا كان عثمان، أي خليفة»، فخبر كان في الرواية محذوف، وتقديرُه: فلمّا كان عثمان خليفة (أخرجه البخاريُّ عن السائب بن يزيد، حديث: 912). والزوراء: موضع دار بسوق المدينة في القرن الأول (أحمد بن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، جـ1، ص128 وجـ2، 394 وجـ6، ص585، وليد محمد صالح: الأفعال الناقصة، بحث بمجلة جامعة المدينة العالمية لعلوم اللغة، القاهرة، 2013م، العدد72، ص13).

     

    المصدر : مجلة المجتمع.

    الفلسفة التاريخ الثقافة الدعوة

    مقالات