الخميس 18 أبريل 2024 05:14 صـ 9 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    لن نعدم خيرا من رب يضحك

    رابطة علماء أهل السنة

    لن نعدم خيرا من رب يضحك

    بعض العلماء لم يجدوا بأسا في الضحك أثناء الأذان، وقد أخرج البخاري عن الحسن البصري أنه قال: «لا بأس أن يضحك وهو يؤذن أو يقيم». وما ظنك في دينٍ يجعل تبسمك لأخيك صدقة؟

    قرأت قبل مدة ليست بالوجيزة الرواية الماتعة الشهيرة التي صنعها أمبيرتو إيكو، بعنوان «اسم الوردة»، صور فيها أزمة الكنيسة في القرون المظلمة «القرون الوسطى»، وتناول فيها نفرة القساوسة من كتب الوثنيين «يعنون المسلمين وغيرهم»، ككتب ابن سينا، وابن رشد، والحسن بن الهيثم، والخوارزمي، وغيرها من المؤلفات الفلسفية والعلمية، التي أفادت منها أوروبا فيما بعد، ومنها انطلقت إلى ما آلت إليه.
    حكى أمبرتو إيكو بعض الحوارات والمجادلات في المسائل التي كانت تثور ذلك الوقت بين القساوسة والرهبان وأبناء الكنيسة وآبائها، ولفتتني تلك المحاججة التي صورها عن «تحريم الضحك»؛ إذ كانت الكنيسة تحرم الضحك في ذلك الوقت، وتعده من شيم الوثنيين.
    فالضحك – بحسب ما حكاه إيكو – عن شخصية من شخصيات الرواية، بل هو بطل الرواية القس المتحرر المنفتح جولياملو، شيء نافع، يعافي من الاكتئاب، وأمراض أخرى تصيب الإنسان. غير أن محاوِره وهو القس يورج، كان يرى أن الضحك ليس بنافعٍ البتة، بل إن الإنسان حين يضحك تتغير ملامحه، ويضحي كالقردة! فيرد عليه جولياملو بأن القردة لا تضحك، فالضحك من خواص الإنسان، وهو دليل على عقلانيته، غير أن يورج لا يعجبه هذا الكلام، فيرى أن الكلام كذلك من خواص الإنسان، وما كل ما يكون من خواص الإنسان يعد نافعا، وقد ينطق الإنسان بالكفر، فلا يجدي هنا أن يكون الكلام من خواصه، ويرى أن الضحك دليل على «البلاهة»! وأن من يضحك لا يؤمن بالشيء الذي أضحكه، ومع ذلك لا يبغضه، فالضحك من الشر يدل على عدم الاستعداد لمكافحته، والضحك من الخير يدل على نكران القوة التي بفضلها ينشر الخير منافعه، وإن العاقل لا ينقاد بسهولة إلى الضحك، مدعيا أنه لم يرد البتة أن المسيح «عليه السلام» ضحك في حياته.. إلخ المحاججة الماتعة التي صورها إيكو في الرواية.
    تذكرت وأنا أقرأ هذا الحوار الروائي، ما ورد في تراثنا من ضحك النبي صلى الله عليه وسلم ومزاحه، فقد كان النبي يمازح أصحابه، وكان له صاحب يدعى نعيمان، كان يصنع «مقالب» مضحكة في بعض الصحابة، وكان النبي يضحك لهذه المقالب، وقد ذكروا أن رجلا كان يكثر الضحك من أصحاب النبي، فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم مجيبا: «ليدخلن الجنة وهو يضحك». وكان النبي الكريم نفسه ربما يضحك حتى تبدو نواجذه، وقد وصف – بأبي هو وأمي – أنه كان إذا تهلل أشرق وجهه كأنه فلقة قمر، هذا وهو يعلم من الله ما لم يعلم أصحابه، حتى إنه قال: «لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا».
    ليس ديننا دين كآبة وعبوس، ولا دين نواح وبكاء، ولابن تيمية كلام نفيس في أن الحزن لم يرد في القرآن الكريم في سياق المدح، بل إن الله يمتن على عباده بأنه هو الذي أضحك وأبكى، فقدم الضحك على البكاء، وأهل الجنة يشكرون الله تعالى على أنه أذهب عنهم الحزن، وأن من نعيم أهل الجنة أنهم «لا خوف عليهم ولا هم يحزنون»، وأمر الله تعالى في كتابه الكريم المؤمنين بألا يهنوا ولا يحزنوا، ونهى نبيه أن يحزنه الذين يسارعون في الكفر، وقال لنبيه: «ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين»، وقال صلى الله عليه وسلم لصاحبه في الغار «لا تحزن إن الله معنا»، وذكر أن النجوى من الشيطان «ليحزن الذين آمنوا»، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الحزن، وقد رد ابن تيمية الرواية الواردة في وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان متواصل الأحزان، بل الصحيح أنه ما رئي رسول الله إلا ضاحكا بساما.
    بل إن بعض العلماء لم يجدوا بأسا في الضحك أثناء الأذان، وقد أخرج البخاري عن الحسن البصري أنه قال: «لا بأس أن يضحك وهو يؤذن أو يقيم». وما ظنك في دينٍ يجعل تبسمك لأخيك صدقة؟
    ولقد عرفت جلة من العلماء، منهم الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، كانوا على جانب من التبسم والطرافة والمضاحكة والمؤانسة لم أرها في غيرهم، حتى إن الشيخ علي الطنطاوي، رحمه الله، ما كان يترك النكتة والضحك حتى وهو في عز مرضه، ذكر لي صهره الفاضل تيسير حتاحت أنهم حملوه مرة إلى المشفى لأزمة قلبية أصابته، فسأل الممرضة: ما اسمك؟ فقالت: «تانية»، فقال لها الشيخ علي الطنطاوي: عندما تكبرين تصبحين «دقيقة»!
    وقد كتب علماء أجلاء كتبا في الأخبار وغيرها لم تكن تخلو من المضحكات، كأخبار الحمقى والمغفلين الذي كتبه ابن الجوزي الحنبلي، رحمه الله، هذا وهو الواعظ الشهير المؤثر.
    ليس هذا فحسب، بل وردت عدة أحاديث صحيحة مقبولة أن الرب تعالى هو نفسه يضحك على الوجه اللائق به، ولا أريد الخوض في جدال كلامي عقائدي، غير أن الضحك يدل على القرب والرحمة، حتى إن أعرابيا لما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يصف الله بأنه يضحك قال: «لن نعدم خيرا من رب يضحك».
    ومع هذا كله، نجد في تراثنا بعض النصوص التي سمعناها مرارا في المواعظ والدروس، كذاك الخبر عن رجل من السلف رأى شابا يضحك، فسأله: أضمنت الجنة؟ فقال: لا، قالوا: فما رئي ضاحكا بعدها حتى مات!
    وكذاك الخبر الذي سمعته غير مرة من بعض القصاصين أن صلاح الدين الأيوبي لم يكن «يتبسم»، فضلا عن الضحك، لأن القدس في أيدي الصليبيين، غير أني لما قرأت سيرة صلاح الدين التي كتبها القاضي الجليل بهاء الدين بن شداد، ذكر غير مرة بعضا من تبسم صلاح الدين الأيوبي وضحكه.

    الضحك المرح التبسم

    مقالات