الأربعاء 24 أبريل 2024 10:37 صـ 15 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    العبادات المحضة بين المقاصد والأحكام (1)

    رابطة علماء أهل السنة

    العبادات المحضة بين المقاصد والأحكام (1)

    كل ما يتقرب به لوجه الله مع إحسان النية عبادة يثاب عليها المسلم، سواء أكانت من العبادات الخالصة - أي المعني العبادي هو المقصود الأصلي - والتى تسمى بالعبادات المحضة، من صلاة وصيام وزكاة وحج، أو أي عمل يقوم به الإنسان مع نفسه من مذاكرة أو تحصيل علم أو عمل يقتات منه، أو مع زوجه من حب إو إكرام ومودة وسكينة، أو مع الأولاد من تربية ورعاية وتعهد، أو مع الجيران من حسن مجاورة وصدقة، كل هذا وغيره عبادة لله سبحانه وتعالى يتقرب بها العبد لمولاه، لكن شرط العبادة غير المحضة النية، لأن كثيرا من الناس يفعل هذه الأمور على أنها من العادات وليست من العبادات، فلا يكون لها ثواب، لأن شرط الثواب نية التقرب لله سبحانه وتعالى والمصطفى - صلي الله عليه وسلم - يقول إنما الأعمال بالنيات...." والسادة العلماء قالوا: النية تقلب العادة إلى عبادة، صحيح كل الأعمال التي شرعها الله سبحانه وتعالى لها مقاصد وأهداف، وإيضا أحكام شرعية تتعلق بحقيقتها وصحتها من شروط وأركان وضوابط، سواء في العبادات أو المعاملات، لكن القصد من الكلام هنا الاقتصار على العبادات المحضة فقط للأسباب التالية:

    أولا: أنها لما كانت عبادات محضة وخالصة ظن البعض أنه لا مقاصد لها، أو أن أهدافها محدودة ومقصورة على التعبد فقط، فهناك قاعدة تقول: إن الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى الحكم والمقاصد والأهداف، والأصل في المعاملات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد، ومن هنا ضيق البعض من مقاصد وأهداف العبادات المحضة ولم يتكلم على أسرارها وحكمها ومقاصدها، لكن القاعدة وإن كانت صحيحة إلا أنها لها مجال آخر ألا وهو التفرقة بين الأحكام التي يقاس عليها، لما لها من علل وأوصاف واضحة منضبطة ينتقل الحكم بواسطتها إلى غيرها، وبين الأحكام التي لها حكم ومقاصد  لكن الأحكام لا تنتقل إلى غيرها من الصور، لأن الوصف فيها وإن يشتمل على أسرار ومعاني وأهداف ومقاصد إلا إنه وصف قاصر على محله فقط، ومن هنا قالوا: الأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى الأسرار والأهداف والمقاصد، بمعنى أن القياس لا يجري فيها، لا بمعني أنها خلت تماما من الحكم والمقاصد والأهداف والأسرار، فمثلا صيام رمضان فيه من الأسرار والحكم والمقاصد لكن الأحكام المتعلقة بصيام شهر رمضان ونفحاته لا تنتقل إلى غيره من الشهور بالقياس على رمضان، لأن الأوصاف التي جاءت في رمضان خاصة به وقاصرة عليه لا تتعدي غيره من الشهور، بخلاف مثلا الربا الذي حرمه الله ونص الحديث على أنواعه الستة التي  يجري فيها الربا باتفاق جميع العلماء، وهي: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والقمح بالقمح، والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح، لكن العلة في التحريم ليست قاصرة على هذه الأصناف الستة على قول الجمهور، لكنها تتعدى غيرها من الأصناف المذكورة، ومن هنا وضح الفرق بين العبادات المحضة التي لها أهداف وأسرار ومقاصد لكنها قاصرة عليها وحدها ولا يمكن أن تنتقل إلى غيرها، لأن مبنى العبادات على ما جاء به الشرع، ولا يجوز التوسع فيها، حتي ولو كان لها أوصاف وعلل وحكم ومقاصد، لكن المعاملات مبناها على التوسع، فأى معاملة من بيع أو شراء أو رهن أو شركات أو زواج أو نفقات أو حدود أو جنايات يمكن أن يقاس عليها غيرها، لأن علتها متعدية إلى غيرها بالضوابط الأصولية التى ذكرها العلماء فى شروط العلة.

    ثانيا: اهتمام العلماء بالأحكام الشرعية المتعلقة بالعبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج، وتسمية ذلك فقها، على جانب الأهداف والأسرار والمقاصد التي أودعها الله سبحانه وتعالى في العبادات المحضة، فباب الصلاة مثلا كتب فيه السادة العلماء فيما يخص الأحكام الشرعية المتعلقة بمقدمات الصلاة من أحكام المياة والوضوء والتيمم والغسل والدماء التي تخرج من المرأة وأحكامها، ثم الكلام على حقيقة الصلاة وشروط وجوبها وصحتها وأركانها ومبطلات الصلاة، وأنواع الصلاة فرضا ونفلا والكلام على نوافل الصلاة في مجلدات، لكنهم لم يتكلموا على أسرارها ومقاصدها وأهدافها النفسية والمجتمعية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية، وغير ذلك من المقاصد التي قصدها الشارع الحكيم من مشروعية الصلاة، فاهتم الناس بالصلاة من حيث إقامة الظاهر فيها، دون الالتفات إلى ما فيها من قيم عظيمة تتعدى الظاهر إلى الحقيقة والباطن، ليس على المستوى الفردي فقط وإنما تمتد مقاصد وأهداف الصلاة إلى واقع الأسرة، وتمتين العلاقة بين الرجل وزوجه، وواقع المجتمع بإقامة الصلاة في المساجد خمس مرات، فالصلاة منهج حياة يمتد أثرها في كل مظاهر الحياة، لكن الفقهاء لم يعظموا هذا الجانب في العبادات، ولعل ذلك لأن الأجيال السابقة كانت تعيش المعني الحقيقي للعبادات المحضة فلا حاجة على النص والكلام على أهدافها ومقاصدها لأنه ثقافة معلومة من المجتمع، ومأخوذة من الواقع، لكن العصر الآن غير العصر، ونحتاج على وجه الضرورة أن نبين للناس الأسرار والأهداف والمقاصد التي من أجلها شرع الله الصلاة والصيام والزكاة والحج، لا بقصد القياس عليها كما قلنا وإنما بقصد الوقوف على حقيقتها ولبها ومقصدها، حتي تتحقق هذه الأهداف وتلك المقاصد في حياة الناس الفردية والأسرية والمجتمعية والأممية.

    ثالثا: لما شرع الله سبحانه وتعالى الصلاة والصيام والزكاة والحج إنما كان لإجل تحقيق المقاصد والأهداف أولا، وتأتي الأحكام الشرعية المتعلقة بالظاهر من باب التبع، والتتبع الاستقرائي في آيات القران يجد هذا المعني واضحا جليا، فلا يذكر الشارع العبادة المحضة إلا ومعها مقاصدها، ثم يثني ببعض الأحكام الشرعية المتعلقة بها، ونأخذ مثالا على ذلك الصيام، فأول الآيات المتعلقة بالصيام ذكرت المقصد منه وهو التقوي قال تعالى: " ياأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون " ثم ذكر بعض الأحكام الشرعية المتعلقة بالصيام فقال " أياما معدودات...." ومن هنا نعلم أن الأصل في العبادة تحقيق المقصد بالصورة الظاهرية التي أمرنا بها الشارع الحكيم في أحكامه، ومن هنا تأتي أهمية الوقوف على مقاصد العبادات المحضة، حتى لا نقف على الظاهر فقط في أداء العبادة، وإنما نحقق مقاصدها الشرعية، وأنا أزعم أن في كل آية من الآيات أو حديث من الأحاديث التي تكلمت عن العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج فيها مقاصد جمة قد ظهر بعضها وخفى الآخر، وهذه مقدمة لبيان أسرار ومقاصد الصيام التي سنذكرها في مقالات متتابعة، نظرا لأننا في شهره المبارك، عسى أن يتقبل الله منا ومنكم سائر الأعمال الصالحة في هذا الشهر المبارك.

    العبادات المقاصد الأحكام الإسلام

    مقالات