السبت 20 أبريل 2024 01:15 صـ 10 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    بحوث ودراسات الفقه وأصوله

    التغليب في فتح الذرائع وسدها-​ج1

    رابطة علماء أهل السنة

    التغليب في فتح الذرائع وسدها-​ج1

     

    الذرائع جمع ذريعة. والذريعة هي الوسيلة المؤدية إلى غاية، أو السبب المفضي إلى مسبَّب، أي إلى نتيجة. فالذرائع وسائل، تفضي عادةً إلى غايات ومقاصد.

    والشريعة جاءت لتحقيق غاياتها ومقاصدها في الخلق، وهي التي تتلخص في جلب المصالح ودرء المفاسد في الدارين.

    ولما كان من سنن الله تعالى أن المسبَّبَات لا تنفك عن أسبابها، وأن المقاصد تستلزم وسائلها، فقد تضمنت الشريعة اعتبار الوسائل والالتفاف إليها، بل وإعطاءها حكما تابعا لحكم مقاصدها.

    يقول القرافي: “والوسيلة إلى أفضل المقاصد، أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد، أقبح الوسائل، وإلى ما يتوسط متوسطة”، قال: “ومما يدل على حسن الوسائل الحسنة قوله تعالى: (مَا كَانَ لِأهل الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أن يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأنفسهم عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ…) [التوبة:120]، فأثابهم الله على الظمأ والنصب، وإن لم يكونا من فعلهم، بسبب أنهما حصلا لهم بسبب التوسل إلى الجهاد، الذي هو وسيلة لإعزاز الدين وصون المسلمين، فيكون الاستعداد وسيلة الوسيلة“[1].

    وإذا كانت الذريعة تَحْسُن بحسن مقصودها، وتقبح بقبحه، وتشرُف بشرف مقصودها، وتنحط بانحطاطه، فإن حكمها الشرعي أيضًا تابع لهذا المقياس.

    وهكذا تحرَّم الذرائع المفضية إلى المحرمات، وتجب الذرائع التي تتوقف عليها الواجبات…

    وعناية الشريعة بالذرائع، واعتبارها لها، إنما هو انعكاس طبيعي لمصلحيتها ومنطقية أحكامها. فمن تمام العناية بالمصالح والمفاسد، بل من لوازمها، العنايةُ بأسبابها وذرائعها وكلِّ ماله تأثير عليها.

    يقول ابن القيم: “لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها، معتبرة بها. فوسائل المحرمات والمعاصي، في كراهتها والمنع منها، بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطاتها بها. ووسائل الطاعات والقربات، في محبتها والإذن فيها، بحسب إفضائها إلى غاياتها. فإن حرم الرب تعالى شيئًا وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتا له، ومنعا أن يُقْرَبَ حماه“[2].

    وكثير من المحرمات والواجبات والمكروهات والمندوبات، في الشريعة الإسلامية إنما أعطي لها حكمها باعتبارها وسائل وأسبابًا، لا باعتبارها مقصودة لذاتها. ومن هنا يقصر كثر من الناس عن إدراك أسرارها وحِكَمها. لأنهم ينظرون إليها في ذاتها فلا يجدون فيها من المفسدة ما يقتضي التحريم ولا الكراهة، ولا يجدون في الأخرى من المصلحة ما يقتضي الإيجاب ولا الندب فيستشكلون الأمر. ولو بحثوا ونظروا إلى ما تفضي إليه، في القريب أو البعيد — بشكل مباشر أو غير مباشر — لأدركوا لماذا كان حكمها كذلك . ولو أنهم صبروا حتى يصلوا إلى النتائج والآثار، لعلموا أن الشريعة لم تحرم شيئًا إلا لمفسدة فيه أو لمفسدة يفضي إليها، وأنها لم توجب شيئًا إلا لمصلحة فيه، أو لمصلحة يفضي إليها.

    وبالنظر إلى أهمية الذرائع وما أولتها الشريعة من اعتبار، قرر الفقهاء عددا من القواعد التشريعية المعبرة عن ذلك. ومن هذه القواعد:

     

    1– سد الذريعة وفتحها منوط بالمصلحة

    2– ما يفضي إلى الحرام حرام

    3– ما يفضي إلى المكروه مكروه

    4– ما يتوقف الواجب على فعله فهو واجب

    5– ما يتوقف عليه المندوب ففعله مندوب

    6– من سعى إلى إبطال قصد الشارع عوقب بنقيض سعيه

    7– إذا سقط القصد سقطت وسيلته

     

    هذه القواعد وأمثالها إنما تعكس عمق النظر الاستصلاحي لفقهائنا، وتعكس مدى إيمانهم بمصلحية الشريعة التي لا تتخلف، لا في مقاصدها ولا في وسائلها.

     

    التغليب في فتح الذرائع وسدها

     

    الذرائع تفتح أمام المكلفين على سبيل الإباحة أو الندب أو الوجوب، أو تسد عليهم على سبيل الكراهة أو التحريم، تبعا لما تفضي إليه من مقاصد ونتائج. ولكنها أيضًا تسد وتفتح بناء على درجة الاحتمال ونسبة الإفضاء إلى ما تفضي إليه. وهذا هو الجانب الذي يعنيني من موضوع الذرائع.

    وأعني بذلك أن نسبة الاحتمال في إفضاء الذريعة إلى نتيجتها، لها دور حاسم في تحديد حكم الذريعة فتحاً أو سداً.

    قال ابن عبد السلام: “الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين، ودرء مفاسدهما: على ما يظهر في الظنون. وللدارين مصالح إذا فاتت فسد أمرهما، ومفاسد إذا تحققت هلك أهلهما. وتحصيل معظم هذه المصالح بتعاطي أسبابها، مظنون غير مقطوع به. فإن عُمَّال الآخرة لا يقطعون بحسن الخاتمة، وإنما يعملون بناء على حسن الظنون. وهم مع ذلك يخافون أن لا يقبل منهم ما يعملون. وقد جاء التنزيل بذلك في قوله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]. فكذلك أهل الدنيا، إنما يتصرفون بناء على حسن الظنون. وإنما اعتُمد عليها، لأن الغالب صدقُها عند قيام أسبابها.….“[3]

    وقد مثل لذلك بسعي التجار في تجارتهم وضربهم في البلدان لأجلها، لأن ذلك في الغالب يجلب لهم مقصودهم ويسفر عن سلامتهم، وكذلك الصناع والزراع في تعاطيهم للوسائل، يكدون ويتعبون وينفقون، لأن الغالب أن هذه الأسباب تحقق لهم أغراضهم. وهكذا معظم من يتسببون ويتوسلون، إنما يفعلون ذلك تغليبا لاحتمال تحقق مقاصدهم ومصالحهم. وعلى هذا التغليب تنبني سياسات الحكام وتدبيراتهم، وعلى التغليب ينظر المجتهدون في الأدلة ويسعون إلى معرفة الأحكام، وعلى التغليب يقوم التطبيب والتداوي…“[4]

    وبعد أن سرد هذه الأمثلة وغيرها قال :“ومعظم هذه الظنون صادق موافق، غير مخالف ولا كاذب. فلا يجوز تعطيل هذه المصالح الغالبة الوقوع، خوفا من ندور كذب الظنون. ولا يفعل ذلك إلا الجاهلون“[5].

    غير أن الحاجة إلى العمل بالتغليب، تظهر أكثر ما تظهر في سد الذرائع لا في فتحها. وأكثر ما يجري الكلام في الذرائع، يجري في سدها.

     

    فما هو سد الذرائع؟ وما صلته بنظرية التقريب والتغليب؟

     

    فيما يخص السؤال الأول، لا أريد أن أعيد هنا ما هو مسطر عند العلماء عن تعريف سد الذريعة، وأدلته وحجته. فليس هذا من عادتي. ولكني أريد أن أذكر منه فقط ما يكون ذريعة إلى الدخول في السؤال الثاني، وهو علاقة سد الذريعة بنظرية التقريب والتغليب.

    وقد وقع تعريف الذريعة التي تُسد، بتعريفات عديدة متقاربة، وأنا أنقل منها ما يساعدني على المقصود، وهما تعريفا القاضي عبد الوهاب، والقرطبي.

    قال القاضي عبد الوهاب: “الذرائع هي الأمر الذي ظاهره الجواز، إذا قويت التهمة في التطرق به إلى الممنوع“[6].

    وقال القرطبي: “والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع“[7].

    فكل من التعريفين قيَّد الذريعة — بمعناها الاصطلاحي — بقيد، عبر عنه بعبارته الخاصة، والمعنى واحد. وهو في تعريف عبد الوهاب، قوة التهمة في التوصل بها إلى الممنوع. وهو في تعريف القرطبي: الخوف من استعمال المشروع للوقوع في الممنوع.

    والتعبير بالخوف في تعريف القرطبي، ليس المقصود به أيُّ خوف، ومُطْلَقُ الخوف، أيّاً كان مبعثه، وأيا كانت درجته، ولا ينبغي أن يفهم هذا عن القرطبي أصلًا، لأن أحدًا لم يقل بهذا، لا من المالكية — المكثرين من سد الذرائع — ولا من غيرهم، من باب أولى. بل الذي يقول به المالكية — والقرطبي منهم — هو ما عبر عنه عبد الوهاب بقوة التهمة، وهو نفسه مقصود القرطبي بالخوف. فالمراد بالخوف قوة الظن، التي تنشأ من كثرة إفضاء الوسيلة إلى المفسدة، ومن كثرة التذرع بها عند الناس. وتزداد قوة الظن — فيزداد الخوف وقوة التهمة — عندما يصبح استعمال الذريعة المشروعة للوصول إلى الممنوع، هو الغالب عند الناس. فها هنا يصبح كل استعمال لتلك الذريعة متهما، ويُخاف من إفضائه إلى ارتكاب المحظور. فهذا هو الخوف الذي يعنيه القرطبي، ولا يصح أن يفهم غيره من إطلاقه الخوف، في قوله “يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع”.

    فليس هذا تقصيرًا أو تساهلا من القرطبي، في التعبير والتعريف. بل تعبيره صحيح، وهو استعمال قرآني أصيل، على ما سيأتي بعد قليل. كما أن هذا التوضيح الذي قدمته ليس دفاعًا عن القرطبي، أو تكميلًا لنقص في تعريفه، وإنما قدمته تمهيدًا لبيان الخطأ الذي وقع فيه الأستاذ محمد هشام البرهاني، حين ذهب يستدرك على تعريف القرطبي، حيث قال عنه: “.…..فإنه يجعل من الذرائع، كل وسيلة يتصل بارتكابها خوف، أيُّ خوف، لأنه لم يقيد الخوف بحد معين. فقد يكون مجرد وهم، أو شك، أو احتمال ضعيف، وهذا لا يتفق مع حقيقة الذريعة بالمعنى الخاص. فليس أي خوف من الإفضاء، يدعو إلى سد الذريعة. بدليل إباحة زراعة العنب، مع كونها مفضية في بعض الأحوال إلى الخمر، وإباحةِ التجاور في البيوت، مع كونه مفضيًا كذلك إلى الزنى، فلا بد إذاً من غلبة الظن، أو التحقق، من أن الوسيلة مفضية إلى المفسدة، أو الأمر المحظور..“[8].

    وهذا الخطأ في فهم مقصود القرطبي، إنما جاء من إغفاله لمعاني الخوف واستعمالاته سواء في القرآن الكريم، أو في كلام العرب. فاستعمالات الخوف شبيهة باستعمالات الظن فكلاهما استعمل بمعنى الاعتقاد الراجح، وبمعنى مطلق التوقع والاحتمال، وبمعنى الوهم.

    إلا أن الخوف يتضمن معنى زائدا عن معنى الظن، وهو أن الخوف يعبر به عن المظنونات المكروهة والمحذورة. قال ابن عاشور: “والخوف توقع ما تكرهه النفس، وهو ضد الأمن… وترادفه الخشية“[9].

    والذي يهمني الآن من معاني الخوف، هو توقع الشيء المكروه وظنه، بدرجة قوية أو راجحة. وقد ورد هذا المعنى في مواضع عديدة من القرآن الكريم.

    من ذلك قوله عز وجل: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أن تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شيئًا إلا أن يَخَافَا ألا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ ألا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ…) [البقرة: 229].

    قال ابن عاشور : “وقال بعض المفسرين: إن الخوف هنا بمعنى الظن، يريد ظن المكروه، إذ الخوف لا يطلق إلا على حصول ظن المكروه“[10]

    فبمقتضى الآية، وبمقتضى هذا المعنى للخوف، فإن الزوج لا يحل له أن يأخذ من زوجته الراغبة في الطلاق، عوضا عن تطليقه لها، إلا إذا أصبح واضحًا وراجحًا أن الحياة بينهما لن تستقيم وفق حدود الله وأحكامه. فإذا ظهر من خلال الوقائع والقرائن والأحوال، ومن محاولات الصلح، رجحان الإخلال بالحدود والأحكام الشرعية إن استمرت الزوجية بينهما، فحينئذ يحق للزوج أن يأخذ العوض عن الطلاق، ما دامت الزوجة هي التي طلبته وأصرت عليه، من غير إضرار من جهة الزوج.

    ومن هذا الباب أيضا قوله سبحانه: (وَإِنْ خِفْتُمْ ألا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ.…) [النساء: 3].

    نقل القاضي ابن عطية، عن أبي عبيدة إن: “خفتم هنا، بمعنى أيقنتم، واستشهد بقول الشاعر:

    .….….….….….….….….… فقلت لهم خافوا بألفَيْ مدجج”

    ولكنه رد عليه بقوله : “وما قاله غير صحيح، ولا يكون الخوف بمعنى اليقين بوجه، وإنما هو من أفعال التوقع. إلا أنه قد يميل الظن فيه إلى إحدى الجهتين، وأما أن يصل إلى حد اليقين فلا“[11].

    وفي نفس الآية نجد قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ ألا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً…} [النساء: 3]، فمعنى الخوف الثاني في الآية هو معنى الخوف الأول. الخوف الأول يسمح بالتعدد، والخوف الثاني يدعو إلى الامتناع عنه. وفي الحالتين فالمقصود بالخوف ما يَقوَى أو يترجح، بناء على أسباب ملموسة مأخوذة بعين الاعتبار، لا على مجرد التوهم والتخمين.

    وعن الخوف الثاني في الآية — وهو الخوف من الوقوع في عدم العدل بين الزوجتين أو الزوجات — يقول الشيخ ابن عاشور : “فلا جرم أن يكون خوفه في كل مرتبة من مراتب العدد، ينزل به إلى التي دونها“[12]، وقال :” فتكون الآية دليلًا على مشروعية سد الذرائع إذا غلبت“[13].

    ومن هذا الباب أيضًا قوله تعالى (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أو إِثْمًا فأصلحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إثم عَلَيْهِ…) [البقرة:182] .

    وقد تقدم في موضع سابق قول القرطبي: “في هذه الآية دليل على حكم بالظن“[14]، وهذا يعنى أن الخوف في الآية هو الظن الراجح، لاحتمال وقوع الجنف والإثم.

    ومن أوضح الآيات في استعمال الخوف للدلالة على ما ترجح وقوعه من المفاسد والمكاره، قوله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ على سَوَاءٍ…) [الأنفال: 58].

    والآية تتعلق بالمعاهدين من الأعداء، إذا ظهر من أقوالهم وأحوالهم وتصرفاتهم ما ينبئ عن عزمهم على نقض العهد، والإقدامِ على مهاجمة المسلمين. ففي هذه الحالة لا ينبغي للمسلمين أن يبقوا متغافلين، متكلين على المعاهدة والأمان، حتى يباغتهم العدو في عقر دارهم، بل يجب أن يأخذوا بعين الاعتبار مقدمات الخيانة وبوادرها، فيضعوا حدًا للاتفاقية ويُعلموا الطرف الآخر بذلك، ثم يأخذوا أنفسهم بالاستنفار والاستعداد، وربما المبادرة بالردع إذا كانت ضرورية.

    والشاهد في الآية هو أن خوف الخيانة يبيح للمسلمين فسخ المعاهدة، وإنما هو الخوف الذي ترجحت فيه خيانة العدو المعاهد، وظهر ذلك بأسبابه ومقدماته، وليس مجرد الاحتمال المحض. فهذا وارد من يوم عقد المعاهدة، فلا يبيح فسخها.

    قال ابن عطية في تفسير الآية: “وخوف الخيانة: بأن تبدو جنادع[15] الشر من قِبل المعاهدين، وتتصل عنهم أقوال، وتتحسس من تلقائهم مبادئ[16] الغدر. فتلك المبادئ معلومة، والخيانة — التي هي غايتهم — مخوفة لا متىقَّنة — حينئذ يُنبَذ إليهم على سواء. فإن التزموا السلم على ما يجب وإلا حوربوا.… وقال يحيى بن سلام[17]: تخاف في هذه الآية بمعنى: تعلم، وليس كذلك“[18].

    وفي القرآن الكريم آيات أُخَرُ، جاء فيها الخوف مستعملًا في توقع المفاسد والمكاره، توقعًا قويًا توحي به الأحوال والعلامات.

    وبهذا المعنى أيضًا يستعمل لفظ “الخشية” وقد تقدمت قصة موسى وهارون مع عبَدَة العجل، وفيها قول هارون لموسى، كما قال الله تعالى: {إِنِّي خَشِيتُ أن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94]

    ومنه قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء :25].

     

    وهذه الآيات ونحوها في القرآن تشهد لمبدأ سد الذرائع، وتجعل منه أصلًا أصيلًا للتشريع الإسلامي، ولم أجد من استشهد له بدلالة هذه الآيات، باستثناء الإشارة الخاطفة التي قدمتُها للشيخ ابن عاشور.

    والحقيقة أن مغزى الآيات ودلالتها العامة أبعد وأوسع من مجرد الدلالة على مشروعية سد الذرائع. إنها تدل على وجوب التوقي والاحتياط لما يتوقع ويخشى من المفاسد. وتدل على وجوب المبادرة إلى منع المفاسد وهي في مهدها وأول ظهورها. وهذا يفرض على المسلمين — أفرادًا ومجتمعات، وعلماء وولاة — أن يكون سلوكهم العام مطبوعًا بهذا الطابع، وهو طابع اليقظة والاحتياط والوقاية والمبادرة. وما سد الذرائع — وهو مسلك تشريعي — سوى جانب من هذا السلوك العام الذي تحتمه الآيات المذكورة ونظائرها.

    على أن هذا السلوك لا ينبغي أن ينبني على مجرد الهواجس والوساوس، وعلى مجرد الأوهام والتخيلات، ولا حتى على الفلتات والاستثناءات، بل يجب أن يُبنى على معطيات واقعية ملموسة، وعلى توقعات راجحة، أو قوية على الأقل، خاصة وأنه قد يتضمن منع المباحات والمطلوبات، أو تقييد الحريات…

    وتَوَقُّع إفضاء الوسيلة المشروعة إلى المفسدة، يتفاوت ويختلف. ويمكن ترتيب احتمالات الإفضاء إلى الدرجات التالية:

     

    1– الإفضاء المحقق

    2– الإفضاء القريب من القطع

    3– الإفضاء الغالب

    4– الإفضاء الكثير

    5– الإفضاء القليل.

    6– الإفضاء النادر.

     

    والعلماء حين ينظرون في حكم الذرائع وما يسد منها وما لا يسد، فإنهم ينظرون إليها من خلال هذه الدرجات، دون أن يغفلوا — طبعا — المعايير الأخرى للتغليب بين المصالح والمفاسد.

    .….….يُتبع.….….…..

    ********************

    هوامش

    [1] — ـ الفروق: الفرق 58.

    [2] — إعلام الموقعين 3⁄135.

    [3] — قواعد الأحكام 1⁄3.

    [4] — قواعد الأحكام 1⁄3.

    [5] — قواعد الأحكام 1⁄3.

    [6] — الإشراف 1⁄275.

    [7] — الجامع لأحكام القرآن 2÷57−58.

    [8] — سد الذرائع في الشريعة الإسلامية 80.

    [9] — ـ التحرير والتنوير : 2⁄409.

    [10] — التحرير والتنوير 2⁄409.

    [11] — المحرر الوجيز: 4⁄13.

    [12] — التحرير والتنوير 4⁄225.

    [13] — نفسه 223.

    [14] — الجامع لأحكام القرآن 2⁄271.

    [15] — الجنادع : دواب صغيرة تكون في جحور اليرابيع، تخرج إذا دنا الحافر من قعر الجحر، فيقال: بدت جنادع الضب. ويضرب مثلا لمن يأتي شره قبل أن يرى. والمقصود هنا: العلامات والأخبار التي تنبىء عن نية الخيانة والغدر.

     

    [16] — المقصود بالمبادئ : المقدمات والبدايات الأولى للإقدام على الغدر.

     

    [17] — يحيى بن سلام التميمي، توفي سنة 200 للهجرة، صاحب أقدم تفسير كامل للقرآن يوجد اليوم. وقد أعلن عن وجوده بتونس الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في كتابه (التفسير ورجاله).

    بحوث ودراسات