السبت 20 أبريل 2024 01:04 صـ 10 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    أسباب اضطراب الفتوى في مسائل الدولة والسياسة (نَظرة فقهية أصولية)

    رابطة علماء أهل السنة

    أولا: عرض المشكلة:

    لا يخفى على المسلمين قيمة الفتوى في دين الله تعالى، وأنها إعلام بالحكم الشرعي دون إلزام للمستفتي، وأنها خاصة به، ولا يستطيع المستفتي أن يلزم الغير بالفتوى، لأنها بناء على سؤال المستفتي، وقد سبق لي أن ميّزت بين الحكم القضائي والفتوى في مجال أحكام الردة عن الإسلام وآثارها، وقد رأيت اليوم أن أميِّز بين مسائل الفتوى، ومسائل الحكم والسياسة الشرعية التي يتناولها الفقهاء بعنوان مسائل الإمامة، ويميزون بين مسائل الفتوى والقضاء والإمامة، ونظرا لعدم التمييز بين طبيعة كل من هذه الحقول الثلاثة التي يتناولها الحكم الشرعي، وقع خلْط شوَّه الحكم الشرعي في مجال شؤون الدولة من حرب وسِلم، حيث تم نقل البحث في مسائل السياسة الشرعية إلى حقل مسائل الفتوى، وخرجت الفتاوى في أمر الدولة والسياسة متضاربة ومتناحرة، إلى أن أصبحت الفتوى الشرعية ضربا من المعارضة أو الموالاة السياسية، وفقَد عامة المسلمين الثقة بالكثير من المتصدِّرين للفتوى بسبب هذا التناقض والصراع، وسبب ذلك ثغرة علمية تتيح لمن هب ودب أن يستثمر في الفتوى في الشأن العام، وتوظيف هذه الفتوى سياسيا وحزبيا، مما أدى إلى مزيد من التوتر في المجتمع إلى حد يهدد استقراره الفكري والأمني، بسبب ظهور أفكار الغلو والإلحاد في مجتمعنا المسلم، بالإضافة النزعة الفئوية المهيمِنة -مع الأسف، وتساءل المسلم هل يعقل أن يكون حكم الله تعالى الشرعي الذي يتناول مسائل الدولة والمجتمع بهذا الاضطراب، وتأتي هذه المقالة لمناقشة أصول المسائل والبحث عن أسباب الاضطراب لا لمناقشة تلك الفتاوى المضطربة، بل للبحث في أصولها.

    ثانيا: طبيعة مسائل الدولة من باب السياسة الشرعية لا الفتوى:

    إن تصرفات الحكام في أمور الرعية هي في مجال النظر في المصالح ودرء المفاسد، وارتكاب المفسدة الدنيا لدرء المفسدة العليا، ومساحة تصرفهم في السياسة الشرعية هي المندوب والمباح والمكروه، أما الفرائض والمحرمات فهي في حدود ما تسمح به الضرورة التي تقدرها الجهة المسؤولة عن تشخيص الواقع والخبرة الشرعية، والتشخيص الفني ممثلا في الخبرة الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية الضرورية لبناء القرار في السياسة الشرعية، وهي تحت يد الحاكم المسلم صانع القرار في السياسة الشرعية،  وهو وخبراؤه الشرعيون والفنيون هم القادرون على تشكيل القرار في السياسة الشرعية الذي يهدف أساسا لحماية المسلمين ومصالحهم، ومن يساكنهم من غير المسلمين.

    ثالثا: المفتي لا يملك إمكانات صناعة القرار في مجال السياسة الشرعية:

    إن المفتي بوصفه ناظرا في حال المستفتي والأحكام الشرعية التي يدرسها المفتي وينزلها على حال المستفتي، غير قادر ضمن مؤسسته أو إمكاناته العلمية والعملية التي بين يديه أن يشخِّص الواقع المتداخل في الاقتصادي والسياسي والمالي والدولي، وتقييم التقارير المعَدَّة من قبل الخبراء المختصين في هذا المجال، وهذه المدخَلات هي التي تشكِّل القرار في السياسة الشرعية في الإسلام، وهذه المدخَلات ليست من شأن الفتوى بتاتا، وعليه فإن الحاكم في السياسة الشرعية ينظر في الشأن العام آخذا بالاعتبار المحدِّدات الشرعية، والأسس الفنية التي على ضوئها يصنع القرار السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي، لاسيما معايير الإسلام الأخلاقية العليا، التي تفتقر إليها الدولة في الفكر اللاديني، التي تم تصنيعها في معامل إلحاد أوروبا، وهو أن السياسة في الفكر اللاديني لا علاقة لها بالأخلاق، والأهم  هو المكاسب الدنيوية الفانية ولو قليلة، ولو كان ذلك على حساب حياة آلاف الأبرياء، لأن السياسة في الفلسفة اللادينية عمل لا علاقة له بالأخلاق، مما ترتب عليه قيام حروب بشعة، حصل فيها من القتل والتدمير ما لم تعرفه البشرية في صراعها الطويل، وذلك بسبب الفلسفة اللادينية التي تنطلق منها الدولة التقليدية حسب النموذج اللاديني الأوروبي.

    رابعا: القرار السياسي في الإسلام أخلاقي ينطلق من الشرع:

    إن النموذج التقليدي للدولة الذي انطلق من اللادينية، وانتهازية المكاسب الدنيوية المؤقته مع امتلاك تقنية الحرب المدمرة، شكَّل نموذجا للوحشية البشرية التي تُـهلك الحرث والنسل، وتستخدم القوة الغاشمة في الاعتداء على الشعوب البريئة، بحجة فلسلفة المصلحة، وهي المنفعة في الفكر اللاديني، وهي تعنى حيثما كانت منفعته فهي حقه، ولو كانت المنافع وراء البحار على حساب الأمم المنكوبة في ضعفها، وهذه فسلفة دنيوية حذر القرآن منها، واعتبر أن الكفر والشرك هما باب هلاك الإنسانية، وإثارة الحروب وإبادة الإنسانية من أجل لُعاعة من الدنيا، وانطوت تحذيرات القرآن الكريم على المتعَدِّين لحدود الله تعالى بالجزاء في اليوم الآخر، لِردْع البشر عن غوائل شهوة التكبر في الأرض, وأن الإيمان بالله واليوم الآخر هما السبيل لصلاح البشرية وحقن دمائها وحماية أموالها.

    خامسا: النموذج الإسلامي الأخلاقي في السياسة الشرعية:

    هناك أحوال كثيرة من أحوال النبوة الخاتمة تبين ذلك، ومع ذلك سأقف عند قصة أسامة بن زيد -رضي الله عنه، عندما كان رجل من المشركين يُعمِل سيفه فتكا بالمسلمين، حتى تبعه أسامة -رضي الله عنه، وعندما علاه أسامة بسيفه، قال الرجل أشهد أن لا إله إلا الله!! ولكن أسامة أجهز عليه بسيفه حتى بَرَد، ولكن أسامة شعر أن هذا الأمر لم يعرفه من أمْر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحرب مع العدو، فرجع إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقص عليه الخبر، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم: «وكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟»(كما ورد في صحيح مسلم)، وكما هو معروف أن الحرب والسلم من شؤون الإمامة (السياسة الشرعية) لا القضاء والإفتاء، وبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم مبدأ مهما،  وهو أن مكسب الإسلام هو الثبات على  العقيدة والشريعة، رغم مغريات المكاسب الدنيوية المؤقته، التي تسعد لها البطون الجرباء التي لا تشبع الذين نَسُوا يوم الحساب، وهذا الخلق الإسلامي الذي يتغلب على الدنيا الفانية أساس من أسس بقاء الإسلام واستمراره في الأمم التي شَرُفت بفتوحات الصحابة -رضي الله عنهم.

    سادسا: صناعة القرار في السياسة الشرعية تجمع بين المصلحة والأخلاق:

    إذن، نرى أن مكونات القرار السياسي الشرعي في مسائل السياسة الشرعية هي حماية المصلحة، ودرء المفسدة مع رعاية الأخلاق، والثوابت الإسلامية العقدية والأخلاقية، وهي تمثل خطوطا حُـمْـرا غيرَ قابلة للطراشة بالألوان الأخرى كما تفعل المراجع البشرية الدنيوية، وثمرة الثوابت في الإسلام هي لمكافحة الانتهازية الدنيوية التي يطفح بها الفكر اللاديني، ومن ثم فلا حاجة في السياسة الشرعية للفتوى، لأن مسائل الإمامة لست محلا لعمل لمفتي، بل الحاكم يتخذ قراره بناء على معايير الشريعة وأسسها في النظر في الشأن العام، والمفتي هنا واحد من الرعية ويجب عليه السمع والطاعة، في مجال السياسة الشرعية، وعليه لا تناقض بين السياسة الشرعية والإفتاء لأن السياسة الشرعية محلها النظر في المصالح العامة التي يقدرها أهل الاختصاص كلٌّ في محله، وخبراء الشريعة حاضرون في صناعة القرار  في السياسة الشرعية، كغيرهم من أهل الاختصاصات الفنية الأخرى، ومن ثم لن يكون هناك أي اضطراب في الحكم الشرعي سواء في مجال السياسة والقضاء والفتوى.

    سابعا: من أين جاء الاضطراب في الفتوى؟

    1-عدم تمييز بعض المفتين بين مسائل السياسة الشرعية والفتوى.

    2-عدم إدخال المعايير الشرعية لاسيما الأخلاقية عند اتخاذ القرار في السياسة الشرعية.

    3-على فرض أن المسألة من باب السياسة الشرعية، فإن المؤهلين للفتوى غير قادرين بمفردهم على الاطلاع على الواقع الاقتصادي والسياسي والعسكري والإعلامي بشكل علمي وحقيقي،  مما يعني أن الاضطراب في الفتوى سيكون راجعا إلى الخطأ في تصور الواقع الحقيقي.

    4- عدم مراعاة طبيعة المدخلات في السياسة الشرعية عن طبيعة المدخلات في الفتوى.

    ثامنا: ضرورة إصلاح السياسة بإدخال المعايير الشرعية في اتخاذ القرار:

    إذا علمنا أن الشرع لا بد أن يكون حاضرا في مرحلة تكوين القرار في السياسة الشرعية وقد كان حاضرا فعلا، فهذا يعني أن الإفتاء لا مدخل لها هنا، لأنه على فرض الموافقه فهو من تحصيل الحاصل، وتحصيل الحاصل عبث، وإن كان معارضا فلا تصح معارضته لأنه لا يملك معطيات تكوين الحكم الشرعية جوازا وتحريما، وكذلك في حالة عدم حضور المعايير الشرعية وثوابت الإسلام في اتخاذ القرار، فإن الموافقة من الإفتاء هنا كعدمها، لأنها غير قادرة على تصور الوقائع وما هو الأصلح، والمراجحة الشرعية بين المصالح في نفسها، أو المفاسد في نفسها، فتبين هنا أن الإفتاء بخصوص القرار حالة ينتابها الكثير من الخلط والقلق، ولا تكاد تسلم من محظور، ولكن ماذا يفعل العلماء ومنهم المفتون في حالة اتخاذ القرار السياسي دون الأخذ بعين الاعتبار معايير الشريعة الفنية والأخلاقية؟

    تاسعا: لا إكراه في الكفر:

    يحاول الفكر اللاديني الأوروبي أن يفرض على المسلمين خيارين: إما أن الإسلام دولة دينية حسب النموذج الأوروبي للدّين، ويروج لذلك أقلية من مقلِّدي الفكر اللاديني، الذين يقومون بدور المرجفين في المدينة، وهو أن الإسلام دولة دينية، حيث تتأسس الدولة الدينية على الكهنوت، كما هو حال الكنيسة في اوروبا في العصور الوسطى، فيفرضون على الإسلام معايير الكنيسة في حكمها الجائر، أو التخلي عن الإسلام لصالح ما يعرف بالدولة المدنية لا تقبل الشريعة الإسلامية في مرجعية الحكم والسياسة، فيضعون المسلمين بين إلحاد الدولة الدينية والدولة المدنية اللادينية، ولكن السياسة الشرعية في الإسلام التي سبق بيانها تعتبر الدولة الدينية أو اللادينية في الشأن العام كلاهما باطل وإلحاد.

    فالسياسة الشرعية في الإسلام ليس فيها كهنوت، وأمر إلهي نزل لرجال الدين،  بل هي نظر عقلي في جلب المصالح ودرء المفاسد، واختيار الأفضل للمجتمع، لكن عبر ثوابت أخلاقية شرعية إسلامية، فهي جامعة للإيمان والمصلحة في وقت واحد، وأن محاولة فرض الكهنوت والسر المقدس على السياسة الشرعية هو فرض لتاريخ أوروبا الديني الكنسي على السياسة الشرعية التي ترفض الحكم المطلق للحاكم أصلا، أو أنه معصوم، بل هو في السياسة الشرعية، معرَّض للمحاسبة من قبل الأمة التي تختاره طواعية، وكذلك السياسة الشرعية أخلاقية أولا على خلاف السياسة التي تعتبر في الفكر اللاديني لا علاقة لها بالأخلاق، وتقيم وفق مكاسب مادية، ولو على آلاف جثث الأبرياء من الشعوب المستضعفة، لذا تعتبر السياسة الشرعية في الإسلام حلا للبشرية ينقذ الإنسانية من تغول الفكر اللاديني، الذي ينظر إلى الآخر الضعيف على أنه حُـزَم من النحاس والنفظ والألماس.

    عاشرا: دور العلماء في حالة تقصير الدولة في معايير السياسة الشرعية:

    قلت إن القرار في السياسة الشرعية مبنيّ على أسس شرعية وفنية سياسية واقتصادية وإعلامية واجتماعية وغير ذلك، ولكن في حال استبعاد المعايير الفنية أو الشرعية الراعية لمصالح المسلمين، هنا يصبح على العلماء إبراز الثوابت الإسلامية، دون إخلال بالتوازن والاستقرار الأمني للمجتمع، كما فعل الصحابة رضي الله عنه مع الحكام الجائرين، ومن هذه الثوابت:

    1-العمل العلمي في الجوانب الفنية والشرعية، وتزويد صانع القرار بالنصح بأصوله الشرعية، والعمل على المحافظة على الاستقرار الاجتماعي.

    2-الالتزام بالقواعد العامة والثوابت: فلو أبيح الربا أو الخمر أو غيرها من الناحية القانونية فيجب البيان الشرعي بالتحريم.

    3-الأخذ بعين الاعتبار قطعيات الأمة في حياتها، ومصالحها، وحريتها، وكرامتها، وأرضها ومقدساتها، وأن هذه كلها ثوابت وخطوط حـُمـْر لا يجوز تعدِّيها بحال، وأن أرض الأمة ومقدساتها حرام على الغزاة والمعتدين.

    4- الإصلاح يكون من داخل المجتمع، وليس بالانشقاق عليه.

    5-حرمة الدماء والأموال والأرض، مهما كانت درجة الاختلاف.

    6-لا يجوز للأفراد استخدام القوة العنيفة بتاتا.

    7-عدم التهاون أبدا في البيان العلمي، وفق أصول البحث في العلوم الشرعية.

    8-التركيز على الحوار العلمي البناء والبعد عن الأسلوب الخطابي التحريضي بين المسلمين أيا كان.

    9-تمثل الإجماعات العقدية والأصولية والفقهية جوامع الأمة (أهل السنة والجماعة) ويحرم خدشها أو التعرض لها.

    10-محافظة الدولة على الحقوق الشرعية للإنسان، خصوصا في الاحتياط لدمه، وحريته، وماله.

    11-رفض أي محاولة لتطويع الشريعة للواقع، أو تحريفها لإرضاء ذوي الأفكار المنحرفة.

    12-عدم التهاون مع المعتدين على الشريعة وتماسك المجتمع وأخلاقه الإسلامية.

    13-التفاف عامة المسلمين حول العلماء المنضبطين بمنهج أهل السنة والجماعة، المشهود لهم بالعلم والصلاح، وفي حال عدم تبين الأمر للعامي، فواجبه التوقف وعدم التسرع.

    14-الاستفادة من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي في نشر المعرفة الفقهية في شؤون المجتمع.

    15- تتبع المنافقين المحرِّضين على الإسلام والطاعنين فيه بالشكوى إلى الدوائر المختصة، وتتبع حقيقتهم وتعريف المسلمين بهم والتحذير من خطورتهم على المجتمع الإسلامي، وخصوصا على الأسرة المسلمة.

    16-إقامة بناء معرفي إسلامي في مجال الاقتصاد والدولة والمجتمع، وعدم الاكتفاء بالعواطف الجياشة بعيدا عن الإصلاح في المجتمع.

    17-تقوية البنية الاجتماعية بالتحذير من الدعوات التي تفرق بين المسلمين بسبب الإقليمية والعصبية والغلو في الدين.

    18-تحقيق التكافل الاجتماعي لتحقيق الاستقرار، وذلك بإحياء فريضة الزكاة للفقراء في أموال الأغنياء.

    19-التربية الإيمانية، وإصلاح مناهج التدريس في العلوم الطبيعية والشرعية، بما ينهض بالأمة ودينها.

    20-الأخذ بعين الاعتبار أن صانع القرار لم يعد شخصا، بل هو هيئة ومؤسسة ولكن يديرها الإنسان، وأن صلاح الإنسان هو ركيزة صلاح المجمتع والعالم.

    مقالات