من المظاهر التي توقفنا على أهميَّة القرآن ودوره في حياة المسلِم: أنَّه يعتني بقلب الإنسان ويهتم به، ويكفينا أنَّ القرآن - بحدِّ ذاته - مؤثِّرٌ قَطْعاً في القلب، ولمَ لا؟ وقد قال الله تعالى: ﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الحشر: 21].
ونحن نعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وجد ما وجد عندما سمع قارئًا يقرأ: ﴿ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 1 - 8]، فارتكن إلى الجدار، ثم عاد إلى بيته يَعُوده الناس شهرًا مما ألمَّ به!
وإنَّه لتَمُرُّ بالمسلم لحظات يكون فيها الكِيان الإنساني متفتحًا لتلقِّي شيء من حقيقة القرآن وأنواره، فيهتزُّ قلبه، ويرتجف فؤاده، ويرتعش بدنه، ويقع فيه من التغيرات والمشاعر ما لا يتذوَّقه إلَّا مَن أحسَّ دبيبَ هذا القرآن في كِيانه وقلبه وروحه.
ومن صِفات المؤمنين أصحاب القلوب الوَجِلة الليِّنة أنهم يزدادون إيمانًا بسماع القرآن، كما حكى الله عن صِفاتهم في أول سورة الأنفال فقال: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [التوبة: 124].
وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا قُرِئ عليهم القرآن كما نَعَتَهم الله تدمَع أعينهم، وتقشعرُّ جلودهم؛ وخصَّ القشعريرة بالذين يَخشون ربهم باعتبار ما سيُردِف به من قوله: ﴿ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ ﴾ [الزمر: 23]؛ كما يأتي، قال عياض: وهي - أي: الرَّوعة التي تلحق قلوب سامعِيه عند سماعه - على المكذِّبين به أعظمُ؛ حتى كانوا يَستثقِلون سماعَه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ﴾ [الإسراء: 46].
وهذه الرَّوعة كما يقول الطَّاهر بن عاشور في تفسيره: "قد اعْتَرَت جماعةً قبل الإسلام؛ فمنهم مَن أسلم لها لأول وهلة، حُكي في الحديث الصَّحيح عن جبير بن مطعم قال: "سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطُّور، فلمَّا بلغ قوله تعالى: ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿الْمُصَيْطِرُونَ ﴾ [الطور: 35 - 37] كاد قلبي أن يَطير؛ وذلك أول ما وَقَرَ الإسلامُ في قلبي".
ومنهم مَن لم يُسلِم؛ رُوي عن محمد بن كعب القُرَظِيِّ قال: "أُخبرتُ أنَّ عتبة بن ربيعة كلَّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم في كفِّه عن سبِّ أصنامهم وتضليلهم، وعرَض عليه أمورًا، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يَسمع، فلمَّا فرَغ قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((اسمَع ما أقول))، وقَرأ عليه: ﴿ حم ﴾ [فصلت: 1]، حتى بلَغ قوله: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ﴾ [فصلت: 13]، فأمسَك عتبة على فَمِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وناشده الرَّحِمَ أن يكفَّ"؛ أي: عن القراءة.
وأما المؤمن، فلا تَزال روعته وهيبته إيَّاه مع تلاوته تُولِيه انجذابًا، وتُكسِبه هَشاشة لميل قلبه إليه، قال تعالى: ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 23]".
يقول: "وإنَّما يبعث هذا اللِّينَ في القلوب ما في القرآن من معاني الرَّحمة، وذلك في الآيات الموصوفة معانيها بالسهولة؛ نحو قوله تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، والموصوفة معانيها بالرِّقة، نحو: ﴿ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ﴾ [الزخرف: 68، 69]"[1].
ولا شك أنَّ القلب اللَّيِّنَ الخاشع المتضرِّع إلى الله، أقربُ إلى اجتِماع الناس وحبِّهم للإنسان، وهذا ما خلَق الله عليه رسولَه صلى الله عليه وسلم، وبيَّن ذلك وآثاره قائلًا: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159].
ونحن نعلم أحوالَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مع هذا القرآن؛ حيث كان يقوم به الليل ويتهجَّد به كما أمره اللهُ تعالى، ويكرِّر الآيات مرارًا؛ لتتجدَّد معانيها في قلبه، وتعمل أثرَها في نفسه، فيظهر ذلك على الجوارح، فتسيل دموعه الشَّريفة حتى يؤذنه بلالٌ رضي الله عنه بأذان الفجر؛ فعن عطاء قال: دخلتُ أنا وعُبَيد بن عُمَير على عائشة، فقالت لعبيد بن عمير: "قد آنَ لك أن تزورنا؟!"، فقال: أقول يا أُمَّه كما قال الأول: زُرْ غِبًّا تَزدَد حُبًّا، قال: فقالت: "دعونا من رَطَانتكم هذه"، قال ابن عُمَير: أخبرينا بأعجب شيء رأيتِه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسكتَتْ ثم قالت: "لما كان ليلة من اللَّيالي، قال: ((يا عائشة، ذَريني أتعبَّدُ الليلة لربِّي))، قلتُ: "والله إنِّي لأحبُّ قُربك، وأحبُّ ما سَرَّك"، قالت: "فقام فتطهَّر، ثمَّ قام يصلِّي"، قالت: "فلم يزل يَبكي حتى بلَّ حِجرَه"، قالت: "ثمَّ بكى فلم يزَل يبكي حتى بَلَّ لحيته"، قالت: "ثمَّ بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، فجاء بلالٌ يُؤْذِنه بالصلاة، فلمَّا رآه يبكي، قال: يا رسول الله، لمَ تبكي وقد غَفَر الله لك ما تقدَّم وما تأخَّر؟ قال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟ لقد نزلَت عليَّ الليلة آيةٌ، ويل لِمَن قرَأها ولم يتفكَّر فيها؛ ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ... ﴾ [آل عمران: 190]))؛ الآية كلها"[2].
يقول الأستاذ سيد قطب: "إنَّ القرآن ليس كتاب علمٍ نظري أو تطبيقي؛ ينتفع به كل من يَقرؤه ويستوعب ما فيه؛ إنَّما القرآن كتاب يخاطِب القلبَ أوَّلَ ما يخاطب، ويسكب نورَه وعِطرَه في القلب المفتوح، الذي يتلقَّاه بالإيمان واليقين، وكلَّما كان القلب نَدِيًّا بالإيمان، زاد تذوُّقه لحلاوة القرآن، وأدرك من معانيه وتوجيهاته ما لا يدرِكه منه القلب الصَّلْد الجاف، واهتدى بنوره إلى ما لا يَهتدي إليه الجاحِدُ الصادف، وانتفع بصُحبته ما لا ينتفع القارئ المطموس!
وإن الإنسان ليقرأ الآيةَ أو السورة مرَّات كثيرة، وهو غافل أو عَجول، فلا تَنِضُّ له بشيء، وفجأة يُشرِق النور في قلبه؛ فتتفتَّح له عن عوالم ما كانت تخطر له ببالٍ، وتصنع في حياته المعجزة في تحويلها من منهج إلى منهج، ومن طريقٍ إلى طريق"[3].