الأربعاء 24 أبريل 2024 09:26 صـ 15 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    رمضان شهر القرآن

    رابطة علماء أهل السنة

     

       ها قد أقبل رمضان ببركاته وأنواره، وخيراته وجلاله، وهو خير شهور السنة وأعظمها، وسر عظمته نزول القرآن فيه، قال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ }، وقال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }، وقال جل من قائل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } فهذا الشهر شُرف وعظم بإنزال القرآن فيه، هذا الكتاب العظيم الذي أخرج العرب الأوائل من الظلمات إلى النور، ومن العتو والنفور إلى الطاعة والإقبال، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن التعلق بسفساف الأمور ودناياها إلى مصاولة جلائلها وعظائمها، ولم يكن هذا التغيير قاصراً على العرب فقط بل إن كل أمة استضاءت بنور القرآن وهديه كان لها نصيب جليل من التغيير بقدر ما أقبلت على هذا الكتاب العظيم.

     

    وقد كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع القرآن في رمضان أن يعارض به جبريل في ورد سنوي جليل، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن على جبريل عليه السلام ثم يقرأه جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يعرف في علوم القرآن بالعرضة، وسنّ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه قيام الليل جماعة بالقرآن وقد أمّ بهم بضع ليال صلى الله عليه وسلم.

     

    ولما كان زمان خلافة الفاروق رضي الله عنه جمع الصحابة على عشرين ركعة يؤمهم فيها أبيّ بن كعب وتميم الداري رضي الله عنهما فيما عُرف بصلاة التراويح، وقد كان السلف يقبلون على القرآن في رمضان ما لا يقبلون على غيره، وكان مالك الإمام رحمه الله تعالى إذا جاء رمضان أقبل على القرآن وترك ما سواه، وقد ثبت من وجوه عن الإمام الشافعي أنه ختم القرآن في رمضان ستين ختمة، وقد كان الإمام الكبير ابن عساكر رحمه الله تعالى قد اعتكف طوال رمضان ليصل إلى ما وصل إليه الإمام الشافعي فلم يقدر إلا على تسع وخمسين ختمة، وهذا الإمام ابن الحداد المالكي الإسكندري يقرأ القرآن في رمضان أربعين مرة، والأخبار عن سلفنا في الإقبال على القرآن والإكثار من قراءته كثيرة جداً وحسبي أن أختمها بما قالته صفية زوج عبد الله بن عمر رضي الله عنهم لما سُئلت عن حال ابن عمر في رمضان فقالت: لا تقدرون عليه، إنما هو القرآن ينشره ويقرأ فيه.

     

    والناظر لحال الناس في هذه الأزمان في رمضان يرى عجباً، فهذه المساجد تمتلئ بالمصلين الذين يحرصون على البقاء فيها مدة طويلة بين الصلوات وقبلها وبعدها لقراءة القرآن، وأكثر هؤلاء قلّ ما يرون في المساجد في غير رمضان!! وصلاة التراويح تجمع الناس على وجه عجيب وربما امتلأ بهم المسجد وكثير من هؤلاء لا يؤمون المساجد إلا لماماً في غير رمضان وهذا من بركة هذا الشهر العظيم.

     

    وهناك مسألة مهمة وهي الإكثار من الختم في رمضان والتنافس فيه، فإن كثيراً من الناس يختم مرة ومرتين وثلاثاً وربما ختم بعض الناس أكثر من ذلك فهل هذا هو الأفضل والأحسن؟

     

    إني أرى -والله أعلم- أن يقتصر المرء على ختمة واحدة في رمضان يتلوها بتدبر وتمهل ومُكث، وينظر في المعاني والتفسير، وينظر في شأنه مع أوامر القرآن ونواهيه، فذلك خير له من ختمات متتابعات لا يكاد يلوي على شيء من التدبر والتفكر والتفهم، وقد سئل أحد السلف عن عنوان القرآن فقيل له: إن لكل كتاب عنواناً فما عنوان القرآن؟ فقال وأحسن رحمه الله: عنوان القرآن هو قوله تعالى: { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } فالتدبر هو عنوان القرآن الأول والأعظم، وبه ساد الأوائل وفازوا، وبه وضعت الأسس العظيمة للحضارة الإسلامية الجليلة، وما الفائدة التي تعود على المرابي وهو يقرأ قوله تعالى مرة ومرتين وثلاثاً في رمضان: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } يقرأها ويسمعها مراراً ثم هو لا يرعوي ولا يكف، وما الفائدة التي تعود على شارب الخمر وهو يقرأ قوله تعالى ويسمعه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ } ثم لا ينتهي ولا يرعوي، والشيء نفسه يقال عن الزاني والعاق إلخ ...

     

    والأمة اليوم بحاجة إلى إحسان قراءة القرآن في رمضان، وإلى جودة النظر في آياته، وإلى الانتقال من النظر إلى العمل، ومن القراءة باللسان إلى العمل بالأركان، وقد أحسنت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها جواباً حين سألها السائل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. فقالت: كان خلقه القرآن، صلى الله عليه وسلم.

     

    فأين نحن من هذا؟ إن القرآن يحثنا على مكارم الأخلاق وكثير منا ساءت أخلاقه!!

     

    والقرآن يحثنا على النظر في الكون والأمة الإسلامية اليوم تعاني من التخلف عن الركب ومن التبعية لغيرها في كل شؤونها تقريباً!!

     

    وإن القرآن الكريم ينهى المسلمين عن الوقوع في الفواحش وأكثر عواصم بلاد الإسلام اليوم تعج بالموبقات والفواحش من خمر وزنا وربا!!

     

    وإن القرآن الكريم يأمرنا بتحقيق عقيدة الولاء والبراء وكثير من المسلمين حكاماً ومحكومين ضعفت هذه العقيدة في نفوسهم حتى والوا الكفار وعادوا الصالحين والمجاهدين!!

     

    وإن القرآن العظيم يأمرنا بوضوح أن نعد العدة، وأننا لن تتغير أحوالنا إلى الأحسن والأفضل حتى نغير ما بنا : {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ }، { وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ } ثم نحن هؤلاء لا نتغير إلا قليلاً، ولا نعد لأعدائنا ما ينبغي من عدة، ولا نقيم مجتمعنا على ما يجب أن نقيمه عليه من الدعائم القويمة.

     

    إن الناظر للناس اليوم في إقبالهم على صلاة التراويح وفي إقبالهم على قراءة القرآن في المساجد قد لا يرى فرقاً كبيراً في ظاهر أمرهم بين حالهم وحال سلفنا رضي الله عنهم، لكن الفرق الهائل هو التدبر والتفكر والتفهم ثم العمل بهذا التدبر والتفكر والتفهم والوقوف التام عند حدود القرآن وتعظيم شأنه إلى الغاية من التعظيم، هذا هو الفرق الذي يلوح لي، وإلا فماذا نقول عن هذه الملايين الكثيرة التي تفـزع إلى المساجد صلاة وقراءة للقرآن ونرى خشوعاً ونسمع بكاء فما هو الشيء الذين ينقص هذه الجموع إذن؟! إني أراه في التدبر والتفكر والتفهم والعمل بعد ذلك والوقوف عند حدود الله تعالى.

     

    إن الأمة الإسلامية قد استيقظت بعد غفوة طويلة فيما يُعرف بالصحوة الإسلامية الأخيرة، وانتقلت من طور إلى طور، وهي مقبلة على خير عظيم إن شاء الله تعالى لكن ينبغي أن تجعل القرآن إماماً لها وهادياً، وأن تحكمه في كل شؤونها، وأن تتفكر في قوله تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } فهذا الكتاب العظيم يهدي لما هو أقوم في كل شيء: في العقيدة، في العمل، في الفكر، في التصورات، فأين المسلمون من هذا الهدي؟!

     

    ثم إني لا بد لي من كلمة للدعاة والعاملين والصالحين الذين هم صفوة الأمة ولُباب القوم: إنكم تريدون إصلاح المجتمع ودعوته إلى الخير والرشد والطهارة والعفاف، وهذا أمر جليل عظيم، فاتخذوا من القرآن عوناً وقوة وسنداً، وأقبلوا عليه وانهلوا من معينه، وكونوا أول آخذ بأوامره، وأول منته عن نواهيه، فأنتم الذين ترنو إليكم الأنظار، وترمقكم الأبصار، فاللهَ اللهَ في الذي استُأمنتم عليه واستحفظتموه، واعلموا أنه لا مخرج لنا جميعاً ولا كاشف لما نحن فيه إلا العمل بهذا القرآن العظيم.

     

    وكلمة للحكام: إن الله استرعاكم رعية فماذا صنعتم في رعيتكم؟ إن الملايين التي تحكمونها اليوم ستقف غداً بين يدي الله تعالى تشكوكم إن لم تحكموهم بالقرآن ولم تأخذوهم بهديه، فلن ينفعكم الاحتفال بليلة القدر إن أعرضتم عن القرآن سائر أيام السنة.

     

    وكلمة لقادة الجماعات الإسلامية: إن القرآن يأمر بالاجتماع والاعتصام بحبل الله تعالى والبعد عن كل أسباب النـزاع والفرقة، ويبين بوضوح أن هذا هو سبيل النصر: { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } فاتقوا الله تعالى في هذه الأمة، وكونوا أول آخذ بهذا القرآن ومعتصم به فإنه يقيكم من الزلل في التصورات والأعمال والأفكار، ويعصمكم من مؤامرات أعدائكم وتربص خصومكم.

     

    أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قرأ هذا الكتاب فأحسن العمل، واتقى الخلل، وقَصّر من الأمل، واستعد للأجل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

     

    رمضان القرآن شهر

    مقالات