الخميس 25 أبريل 2024 08:04 مـ 16 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    فتاة للزواج!!

    رابطة علماء أهل السنة

    تيسير الغرب وتعسير الشرق

    تعجبت حين قال لي أستاذ أكاديمي عربي أن أستاذة بإحدى الجامعات الغربية تتعجب من تأخر سن الزواج بالدول العربية. فرد عليها: يبدو أنك لا تقدرين الظروف الحياتية للشباب، وما يتطلبه الزواج من تكاليف مادية مرهقة. فردت مندهشة: وما دخل التكاليف المادية بالزواج؟ إننا بالغرب – والكلام لها- إذا أراد رجل أن يتزوج امرأة وثق العقد وانتقلت المرأة إلى بيت زوجها دون تلك التكاليف!
    ويبدو أن القوم أدركوا سنة أسلافنا الصالحين في الزواج، وتعلقنا نحن بالمظاهر الكاذبة والخادعة.
    وحدثني من أثق به أن هناك من المسلمين في استراليا من يتزوجون على ما مع الزوج من القرآن الكريم، فبدا لي أن المشكلة ليست في اعتقادات الشعوب من الناحية الدينية، ولكن المشكلة تكمن في عادات الشعوب العربية التي غلب عليها الترف، وإن لم ننكر أن هناك عقلاء في مجتمعاتنا يضربون بتلك التقاليد البالية عرض الحائط، وأن نداءات تيسير تكاليف الزواج باتت مطلبا جماهيريا.

     ونحن لا ننكر ما يتطلبه الزواج من متطلبات مادية ونفسية، وهذا ما عناه حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج".. غير أن هذا لا يعني الاستغراق في الماديات حتى يتأخر الزواج سنوات بين خاطب ومخطوبة، وليس الزواج سلعة، فبقدر ما يدفع المرء بقدر ما يجد حاجته ويسرع في الحصول عليها، ولكنه توافق بين شخصين، ورغبة في بناء شركة اجتماعية، وليكن الزوج غنيا فليدفع ما يقدر عليه ولو ملايين، (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا)  [النساء : 20] وليدفع الفقير مهرا على قدره، وليجهز قدر ما يستطيع (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).  [النور : 32].

    مصاحبة لا زواج

    ولا شك أن تأخر سن الزواج بات أمرا معقدا، وأن ما يغلب على كثير من مجتمعاتنا أنهم بين إفراط وتفريط، بين من يتركون الحبل على الغارب بحجة التعارف، وبحجة جذب الأزواج، فنرى صورا من الاختلاط السافر الذي لا يقره شرع، ولا يقبله عقل، والأعجب من هذا أن الشباب الذين يصاحبون فتيات ويخرجون معهن، ويخلون بهن، وربما يقعون معهن في المعاصي والآثام، وتقبل الفتاة تحت ذريعة أنه إن رأى منها فربما تزوجها، نجد أن مثل هذا الشباب لا يقبل الزواج – غالبا- بهؤلاء الفتيات.
    وقد سألني أحد هؤلاء الشباب عن معرفتي بفتاة يتزوجها، فرددت عليه قائلا: إنني أعرف عنك – كما أسمع- أنك تعرف فتيات كثيرات، وتصاحبهن، فتسألني أنا عن فتاة للزواج؟ فقال لي: أنا لا أقبل أي فتاة قبلت أن تصاحبني، فهذه لن تكون زوجتي، فكما قبلت أن تصاحبني وأنا لست زوجها، فستقبل أن تصاحب غيري، إنما أبحث عن فتاة صالحة لم يكن لها سابق معرفة بالشباب مطلقا!!
    وعلى الجانب الآخر هناك من الناس من لا يقبل أن يوجد رجل وامرأة، أو رجال ونساء في مكان واحد، ولو كان عاما نظيفا، فكم من الشباب الفضلاء يبحثون عن فتيات فضليات، وكم من فتيات فضليات ينتظرن شبابا صالحا، ولكن هؤلاء في واد، وأولئك في واد آخر، وليس هناك وسائل تقرب المعرفة بين الطائفتين.

    الرؤية الشرعية

    ومن هنا بات ملحا في السؤال والفتيا: هل يمكن للفتاة أن تعرض نفسها على شاب ترى أنه زوج صالح لها؟ وهل مثل هذا الفعل لا يخدش حياءها، ولا يسقطها في عينه وفي عين المجتمع؟
    والإجابة عن مثل هذا السؤال يتحدد من زاويتين: الزاوية الشرعية، والزاوية الاجتماعية.
    أما من حيث الحل والحرمة، فمن العجب أن الإسلام ييسر في الأمر تيسيرا لم ييسره الناس على أنفسهم، رغم أنه من المشتهر عند الناس أن الناس في عاداتهم وتقاليدهم ييسرون ما يرونه أنه تضييق من الشرع عليهم، بدافع الحرية، رغم أن الشرع لم يكن يوما من الأيام مضيقا على الناس، ولكنه كما قال تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا . يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء : 27 ، 28]، فالإسلام يجيز للنساء والفتيات أن يعرضن أنفسهن للزواج على من يرينه زوجا صالحا لهن.
    والأدلة على ذلك متوافرة، من أهمها:
    ما تقرر في القواعد الأصولية أن أمر العادات على الإباحة والجواز، مالم يرد نص بالتحريم، وليس في كتاب الله، ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يدل على حرمة أن تعرض الفتاة نفسها للزواج، ولما كانت قواعد الشرع وأحكامه الكلية والجزئية مبنية على المصلحة، وكان الزواج من المصالح التي حث عليها الشرع، كانت كل وسيلة إليه جائزة شرعا.
    ونجد أن القرآن الكريم ذكر في معرض ما يحل للنبي صلى الله عليه وسلم من النساء قوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب : 50]، وقد استشهد به أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة؛ لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمّته سواء في الأحكام إلاّ فيما خصّه الدليل ، وقال الشافعي : لا يصحّ ( تفسير الكشاف للزمخشري، ج5/341). والراجح عندي جواز أن تهب المرأة نفسها للغير، شريطة أن يتزوجها بمهر، أما النبي صلى الله عليه وسلم، فحقه إن وهبت امرأة نفسها له أن يتزوجها دون مهر، وألا يتزوجها أحد بعده، بخلاف غيره من حيث حل الزواج من المطلقة أو المتوفى عنها زوجها.
    وفي الآية دليل على أن تعرض الفتاة نفسها على من تراه زوجا صالحا لها.
     ودليل جواز أن تعرض المرأة  من السنة ما ورد في كتب السيرة من عرض السيدة خديجة – رضي الله عنها- نفسها للزواج على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    ونقصد من بيان الحكم الشرعي هنا ألا تجد الفتاة في نفسها حرجا أن تعرض نفسها للزواج على من تراه مناسبا، هذا من الناحية الشرعية.

    النظرة الاجتماعية وحل المعضلة

    أما من الناحية الاجتماعية، فيكاد يكون الأمر مرفوضا، وحسب استطلاعات رأي متعددة انقسم من استطلعت آراؤهم بين قابل ورافض، وإن كان الرفض أكثر من القبول، والرفض من الفتيات أكثر من غيرهن، ولعل هناك أسباب متعددة لهذا الرفض، منها الخوف الاجتماعي من أن ينظر أن هذه امرأة لا قيمة لها، أو أنها تذل نفسها، أو غير ذلك من دوافع الرفض التي ربما تكون مقبولة عقلا.
    فنحن إذن إزاء إباحة شرعية، ورفض اجتماعي، والحل من وجهة نظري هو محاولة التوفيق بين كلا الجهتين وذلك على النحو التالي:
    أن عرض الفتاة نفسها بشكل مباشر لشاب، وأن تقول له: أنا أريد الزواج منك لا يحبذ غالبا، وإلا إذا كانت الفتاة تثق ثقة كبيرة في هذا الشخص أنه أمين عليها، وأن هذا سر لن يفشيه لأحد، وأن هذا لن يصغرها في عينه، أي لا يترتب على ذلك العرض ضرر، وإلا فعدم العرض أولى، صونا للمرأة ومكانتها ومنزلتها في عين الرجال وعيون المجتمع.
    ولكن يمكن للفتاة أن تعرض نفسها بطريقة غير مباشرة، مما يفهم منه رغبتها في الزواج من ذلك الشاب أو الرجل، فتصل إليه المعلومة بشكل ذكي، وربما كان من الرجال من تكون عنده الرغبة في الزواج من فتاة قريبة منه، لكنه لم يملك الشجاعة خوفا من الرفض، فإذا وجد من الفتاة ما يشجعه على ذلك أو يزيل اللبس  والتوهم عنده، سارع إلى طلبها.
    وربما قام بهذا الدور غيرها، وهو أولى، كما حصل مع السيدة خديجة – رضي الله عنها-، فإنها لم تعرض نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، بل أرسلت إليه من ترشحها للزواج له، وكأن الأمر ليس من خديجة وإنما من الواسطة، فيكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو الطالب، وخديجة – رضي الله عنها- هي المطلوبة، وإن كان الأمر في حقيقته غير ذلك.
    ولعل من المناسب هنا أن أسوق كيفية عرض السيدة خديجة – رضي الله عنها- نفسه على النبي؛ إذ يعد تجربة واقعية هامة يمكن الإفادة منها، والقصة كما يرويها أصحاب السير:
    عن نفيسة بنت منية قالت: كانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي امرأة حازمة جلدة شريفة مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير، وهي يومئذ أوسط قريش نسبا وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا، وكل قومها كان حريصا على نكاحها لو قدر على ذلك قد طلبوها وبذلوا لها الأموال. فأرسلتني دسيسا إلى محمد بعد أن رجع في عيرها من الشام، فقلت: يا محمد ما يمنعك أن تزوج؟ فقال: ما بيدي ما أتزوج به. قلت: فإن كفيت ذلك ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ألا تجيب؟ قال: فمن هي؟ قلت: خديجة. قال: وكيف لي بذلك؟ قالت: قلت علي. قال: فأنا أفعل. فذهبت فأخبرتها، فأرسلت إليه أن أئت لساعة كذا وكذا وأرسلت إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها. (الطبقات الكبرى لابن سعد  ج 1 /131).
    فهذا نموذج للمرأة الذكية التي استطاعت ألا تفوت فرصة عظيمة لها، وفي نفس الوقت ليس في فعلها ما يحرجها اجتماعيا.
    كما أن على المجتمع دور كبير في هذا، فقد شاع بين الناس ( امش في جنازة، ولا تمش في  جوازة، (زواج)، وهو قول خاطئ  يخالف أصول قواعد الدين، فنحن نشيع الجنازات، ونسعى في الزيجات أيضا، وكلاهما عمل محمود شرعا، على أن يفهم من يرشح له أن هذا من باب الترشيح، وعليه هو التحري الجيد، وأخذ القرار المناسب.

    وسائل حديثة

    كما أن مجتمعنا بحاجة إلى إيجاد وسائل تعارف بين الشباب والفتيات في بيئات نظيفة لا يرتع فيها الشيطان، وتكون مراقبة الله تعالى هي الضابط والحامي.
    ولعل من المناسب أيضا رصد التجارب الناجحة في قضية عرض الفتاة نفسها للزواج، حتى يمكن الإفادة منها، على أن تختار كل فتاة ما يناسبها من تلك التجارب، وليكن هذا عبر صفحة من صفحات الإنترنت، أو تنشر في كتاب، أو تكون مادة لبرنامج اجتماعي، أو غيرها من وسائل الإعلام الحديثة.
    رب هب الصالحين للصالحات، وزوج اللهم شباب وبنات المسلمين، ولا تبق شابا أو فتاة تأخرت سنه عن الزواج إلا أقررت عينه بالزواج الصالح والذرية الصالحة، وأن تدخل السعادة في قلوب عبادك المؤمنين (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان : 74].