الخميس 25 أبريل 2024 11:17 مـ 16 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    إطلاق وصف الشهيد على أشخاص معينين

    رابطة علماء أهل السنة

    قرأت لعدد من المشايخ المعاصرين، وسمعت من بعضهم على الفضائيات، اعتراضهم على إطلاق لفظ الشهيد والشهداء على أشخاص معينين ممن يُقتلون في معارك جهادية وقضايا عادلة. وقال بعضهم: "لو رأينا رجالا يقاتلونويقولون: نحن نقاتل للإسلام دفاعا عن الإسلام، ثم قتل أحد منهم، فهل نشهد له بأنه شهيد؟

    فالجواب: لا، لا نشهد بأنه شهيد...". وقال: "هذا حرام، فلا يجوز أن يُشهَد لكل شخص بعينه بالشهادة" (الكلام للشيخ العثيمين رحمه الله، من موقعه الإلكتروني). 
    وأهم دليل يستدلون به على هذا الاعتراض والمنع من إطلاق وصف الشهادة على أشخاص معينين، هو قول الإمام البخاري في صحيحه: "باب لا يقول فلان شهيد. قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله."
    وفي الباب حديث طويل، نتيجته وحكمه العام في قوله عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة"
    كما يستدلون بحديث الإمام مسلم - وغيره - عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا فُلاَنٌ شَهِيدٌ، فُلاَنٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلاَّ، إِنِّى رَأَيْتُهُ فِى النَّارِ فِى بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ».
    ويستدلون أيضا بقول لعمر رضي الله عنه في هذا المعنى...
    وقبل الرد على هذا الرأي وما بني عليه من فهم، لا بد من تقرير أمر متفق عليه، حتى لا يبقى في محل النزاع والنقاش، وهو: أن مقام كل واحد وحقيقتَه عند الله، ومآلَه في الدار الآخرة، لا يعلمه يقينا إلا الله تعالى. فهو سبحانه - وحده - الذي يعلم المؤمن حقا، والشهيد حقا، والسعيد حقا. ويعلم وحده من هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار، ومن هو المغفور له وغير المغفور له. وحتى أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فلا علم لهم بشئ من ذلك، إلا ما أعلمهم إياه وأوحى إليهم به.
    فهذا لا نزاع فيه.
     ولكن هذا لا يمنع من إطلاق وصف الشهيد على شخص معين أو جماعة معينة من الناس. بل إن هذا الإطلاق موافق للشرع عموما وللسنة النبوية خصوصا. وبيان ذلك وأدلته ما يلي.
    1.حديث عمر المتقدمُ ذكرُه، وفيه: " ... أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا فُلاَنٌ شَهِيدٌ، فُلاَنٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلاَّ، إِنِّى رَأَيْتُهُ فِى النَّارِ فِى بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ». فالحديث صريح في أن الصحابة - وهم يستعرضون نتائج المعركة - سموا شهداءهم في معركة خيبر، وأنهم فلان وفلان وفلان... ولم يعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على واحد فقط ممن سموهم، وذلك لِما علمه من حاله وحقيقة فعله. بمعنى أن الرسول لم يعترض على وصف صحابة معينين بالشهداء، بل أقر ذلك، فهي بذلك سنة تقريرية. لكنه اعترض على حالة معينة لها سببها الذي عَلمَه بوحي من الله تعالى.
    2.ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه "عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن أباه استشهد يوم أحد، وترك ست بنات وترك عليه دَينا، فلما حضر جُدادُ النخل  أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد علمتَ أن والدي استشهد يوم أحد..." الحديث. ففي هذا الحديث أيضا وصفُ الصحابي لوالده عبد الله الأنصاري بكونه شهيدا، وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. فهي سنة تقريرية كذلك.
    3.ما شاع عند الصحابة فَمَن بعدهم من تسمية مَن قتلوا في سبيل دينهم بالشهداء، ومنهم سمية أم عمار رضي الله عنهما، التي توصف دائما بأنها أول شهداء الإسلام. ففي مصنف ابن أبي شيبة "عن مجاهد قال: أول شهيد استشهد في الاسلام أم عمار ، طعنها أبو جهل بحربة في قُبُلها". 
    وفي مصنف ابن أبي شيبة أيضا "عن سعد بن عبيد القارئ يومَ القادسية: إنا لاقُو العدوِّ غدا إن شاء الله، وإنا مستشهَدون، فلا تغسلوا عنا دما ولا نكفن إلا في ثوب كان علينا". 
    ومن هنا قال الحافظ ابن حجر "أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء". ومعلوم أن هؤلاء الشهداء معروفون بأعيانهم، ومذكورون بأسمائهم.
    4.من المعلوم أن للشهداء القتلى أحكاما خاصة في تغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم، وتفاصيل ذلك مبينة في كتب الحديث والفقه... ومراعاة هذه الخصوصيات تتوقف ضرورة على إعطاء صفة شهيد لهذا الميت أو ذاك.
    فكل هذه الأدلة تفيدنا أن إطلاق وصف الشهيد على أشخاص معينين جائز في مواضعه، وقد يكون متعينا، وأنه قد جرى العمل به من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم.
    وأما الآثار التي يتعلق بها المعترضون، فالمقصود بها التنبيه على أن هناك حالات يكون باطن أصحابها على خلاف ظاهرهم، فلا ينبغي الجزم على ما هو غيب عند الله. وإنما نحن نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر. فالحكم بأن فلانا شهيد، أو بأن هؤلاء شهداء، إنما هو من باب حسن الظن والبناءِ على ظاهر الأمور، فهو جائز لا إشكال فيه. وأما الاسترسال فيه بلا ضابط، والجزمُ بذلك رجما بالغيب، فهذا لا يصح ولا ينبغي. وفي هذا جاء ما جاء عن عمر رضي الله عنه، وعليه يحمل كلام الإمام البخاري. ولذلك قال الحافظ ابن حجر في الفتح "قوله (أي البخاري): باب لا يقال فلان شهيد؛ أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي ... وإن كان مع ذلك يعطَى حكمَ الشهداء في الأحكام الظاهرة". 
    وفي حاشية السندى على صحيح البخاري: "قوله: (باب لا يقول فلان شهيد) أي: بالنظر إلى أحوال الآخرة ، وأما بالنظر إلى أحكام الدنيا فلا بأس".

    ومعلوم أن تحسين الظن بظواهر الناس وتركَ سرائرهم لربهم، أصل مكين ومسلك أمين. وفي مستدرك الحاكم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: إذا رأيتم الرجل يلزم المسجد فلا تَحَرَّجوا أن تشهدوا أنه مؤمن؛ فإن الله يقول: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله}.
    والواقع أن من يعمر المسجد قد يكون مؤمنا وقد لا يكون. فالمسجد يعتاده المؤمنون وهو الغالب والظاهر، وقد يعتاده منافقون، وقد يعتاده جواسيس من اليهود والنصارى والملحدين... وحتى المسجد الحرام قد يدخله بعض هؤلاء لأغراضهم المختلفة. ولكن هذا كله لا يمنعنا من وصف كافة رواد المساجد بالمؤمنين والشهادةِ لهم بالإيمان. لكننا لا نقطع لهم بذلك. فهكذا أمر الشهادة والشهداء...