أصل النزاع الديني على إبراهيم عليه السّلام وحقيقة الملة الإبراهيمية
رابطة علماء أهل السنةتنازعت الطوائف الدينية في إبراهيم – عليه السلام -، فكل طائفة ادّعت انتسابها إليه وسيرها على طريقته، وما ذلك إلا لمنزلة إبراهيم عليه السلام في التاريخ والدين والحياة فهو أمة، وجعله الله إماماً وجعل في ذريته النبوّة والكتاب.
وأشهر الطوائف التي ادعت انتسابها إليه ثلاث: اليهود، والنصارى، والعرب المشركون، مع أن هذه الطوائف الثلاث بعيدة عن دين إبراهيم عليه السّلام.
ويدّعي اليهود الانتساب لإبراهيم؛ لأنهم أبناء إسحاق عليهما السّلام، ويدّعي النصارى الانتساب إليه؛ لأنهم يزعمون أنهم على دينه، ويدّعي العرب الانتساب إليه لأنهم أبناء إسماعيل ويحجّون البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام، وقد تحدثت آيات القرآن عن هذا الموضوع، وسجّلت بعض مزاعم اليهود والنصارى والمشركين ثم نقضتها وردّت عليها وبينت حقيقة دين إبراهيم والذين ينتسبون إليه حقاً، ويسيرون على طريقه فعلاً [صلاح الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، (1/451)].
كان إبراهيم عليه السّلام حنيفاً مسلماً، وأوصى بنيه بذلك وساروا على نصيحة والدهم وكذلك حفيده يعقوب عليه السلام وأولاده، فقد كانوا جميعاً مسلمين، وليسوا كما ادّعى اليهود والنصارى فيما بعد، أنهم كانوا يهوداً أو نصارى، لقد كذب اليهود عندما قالوا للناس كونوا يهوداً أو تهتدوا وكذب النصارى عندما قالوا للناس كونوا نصارى تهتدوا.
والخلاصة التي بيّنتها الآيات الكريمة في سورة البقرة: { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 67]؛ أن الطوائف الدينية السابقة تتنازع في إبراهيم عليه السلام، وتدّعي كل واحدة أن إبراهيم كان منها وعلى دينها وكلهم كاذبون في ذلك، فإبراهيم وأبناؤه (الأنبياء) لم يكونوا يهوداً، ولم يكونوا نصارى، ولم يكونوا مشركين، وإنما كانوا مسلمين حنفاء، وكل منهم كان يوصي أولاده وهو على فراش الموت بالإسلام.
وكذلك جاءت آيات كريمة في سورة آل عمران في جدال ومحاجة اليهود والنصارى، الذين زعموا أنهم على طريق إبراهيم عليه السلام ودينه وأبطلت الآيات هذا الزعم وبينت من هم أولى الناس بإبراهيم، قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)} ]آل عمران:65-68[.
وإن هذه الآيات تنكر على أهل الكتاب من اليهود والنصارى جدالهم بشأن إبراهيم عليه السلام وتبطل انتسابهم إليه وتكذبهم في زعم أن إبراهيم منهم، وقد بيَّنت الآيات الكريمة أن التوراة أنزلت على موسى عليه السلام، وموسى جاء بعد إبراهيم بعشرات السنين إن لم تكن مئات السنين، فكيف يزعم اليهود أن إبراهيم كان يهودياً وإبراهيم قبلهم بمئات السنين[القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث (1/454)].
أفلا يعقل اليهود ويتخلون عن هذا الزعم الذي يكذبه التاريخ؟ وألا يعقل النصارى أيضاً ويتخلون عن هذا الزعم: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} ]آل عمران:65[.
وصرّحت الآيات الكريمة بتكذيب اليهود والنصارى في مزاعمهم، ونفي كون إبراهيم من أي الطوائف الثلاث الكافرة، اليهود والنصارى والعرب المشركين وتقرر بصراحة أنه كان حنيفاً مسلماً، وأن دينه هو الإسلام: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ]آل عمران:67[.
وبعد أن تجرد الآيات الطوائف الثلاث – اليهود والنصارى والمشركين- من الانتساب إلى إبراهيم، وأنهم ليسوا معه ولا على طريقه ولا متبعين لدينه، وأنهم كافرون ضالّون، بعد هذا تبين من هم أتباعه الحقيقيون، المنتسبون إليه فعلاً، الذين على دينه الحنيف وتحصرهم بأنهم ثلاثة أضاف: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} ]آل عمران:68[.
إنَّ أولى الناس بإبراهيم عليه السلام هم الذين اتبعوه، أي هم المؤمنون الصالحون الذين عاصروه، وعاشوا معه، واستجابوا لدعوته ودخلوا في دينه، سواء كانوا في المرحلة الأولى من دعوته في العراق أو في المرحلة الثانية من دعوته في فلسطين [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، (1/456)].
واللام في قوله: {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} هي اللام المزحلقة، التي انتقلت من اسم {إِنَّ} إلى خبرها: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}، وأصل الجملة هكذا: لأولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه، فدخلت لام التوكيد على المبتدأ {أَوْلَى} لكن لما دخلت {إِنَّ} على الجملة، دخلت على المبتدأ {أَوْلَى} و{إِنَّ} تدل على التوكيد، واجتماع حرفين للتوكيد في محل واحد غير ممكن، فلا بُدَّ أن ينتقل الحرف الأضعف إلى مكان آخر، ليحلّ محلّه الحرف الأقوى، وبهذا تنتقل اللام – أو تُزحلق- من المبتدأ إلى الخبر، وبهذا تسمّى اللام “اللام المزحلقة” وقوله {لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} تركيز على موضوع الاتباع الصحيح الصادق للنبي، لا يكفي مجرد الانتساب الجنسي الوراثي، بل لا بد من حسن الاتباع.
والصنف الثاني الأولى بإبراهيم هو {وَهَذَا النَّبِيُّ} والمراد به رسول الله محمد صلّى الله عليه وسلّم، والصنف الثالث الأولى بإبراهيم هم: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا} والمراد به المؤمنون الصالحون أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم، إنهم هذه الأمة الإسلامية، أمة الشهادة والرسالة والخلافة والدعوة حتى قيام الساعة، وهم أولى الناس بإبراهيم لأنهم على دينه، فهم مسلمون حنفاء، وإبراهيم حنيف مسلم، وهم متبعون لخاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم، والرسول الذي بشّر به إبراهيم عليه السّلام [القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، (1/458)].