مثلث النّهوض والفرصة السانحة
رابطة علماء أهل السنةهل تعلم أنّ أمتنا – برغم كل ما تعانيه – قادرةٌ على الإقلاع الحضاري السريع؟ وأنّ كُلفةَ هذا الإقلاع أقلُّ مما يبذل في تحويل دفّة السفينة لتسلُكَ سبيلها إلى غايتها التي حجبتها عنها الغيوم؟ إنّ هذه اللحظة من عمر الحضارة المعاصرة هي الأنسب على الإطلاق لمن شاء أن يحقق انطلاقةً وَثّابة، مستثمرا ذلك الهامش الذي يوفره انشغال القوى الكبرى بعضِها ببعض، فإذا كنّا نَرُومُ ذلك فليس علينا إلا أن نَشاءَهُ معًا؛ ليتحولَ بنا المسار إلى الغاية المنشودة، حينئذٍ سوف يَبْرُزُ لنا مثلث النهوض الذي رسمه الحديث الشريف، وسيكون الصعودُ به سهلا ميسورا.
رسالةٌ من مفكر استراتيجي إلى حاكم طموح
لن تجد صعوبة – إذا قرأت الحديث – لتَتَبَيَّنَ أنّ معاوية قد وَجَدَ ضالته عند المغيرة، ولن تتردد في وصف الأول بالطموح الحضاري والثاني بالعمق الاستراتيجي، روى الشيخان عن ورَّادٍ كَاتِبِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قال: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ، أن اكْتُبْ إِلَيَّ بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَتَبَ إِلَيْهِ، أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثاً: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»، لا ريب أنّ اختيار المغيرة الذي جاء موافقا لحاجة معاوية كان اختيارا موفَّقًا غاية التوفيق، كأنّ المغيرة قرأ عقل معاوية، فرأى في مُخَيّلته التَّوَّاقة للمعالي صورةً لدولةٍ ناهضة قوية مزدهرة، تؤسس نهضتها على أساس الدين؛ فاختار له مما يحفظ من السنة هذا الحديث الفذّ.
ما من شكٍّ في أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أَبْلَغَ الناس وأحكَمَهم، والبليغُ الحكيمُ – ولاسيما إذا كان رسولا – لا يقول كلاما غير متماسك ولا يُسْدِي من النصائح ما لا رابط بينها، فما هو الرابط المعنويّ بين هذه الثلاثة؟ إنّ المتَتَبِّعَ لطريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أنّه كان كثيرا ما يذكر الشيء ويُنَبِّه به على أمثاله، وهذه طريقة في كلام العرب مُتَّبَعة، وهي من أساليب القرآن والسنة، فعبارة “قيل وقال” ترمز إلى إضاعة الوقت؛ إذْ كان الحَكْيُ والسَّرْدُ يومها أداةَ التسليةِ وحرقِ الوقت، وعبارةُ: “كثرة السؤال” ترمز إلى تبديد الموارد البشرية؛ لأنّ ذروتها تكمن في الطاقة الذهنية، وكثرة السؤال فيما لا يجدي ولا يفيد على طريقة الشكاك والسوفسطائيين كان يومها الأسلوبَ الأخطر لتبديد هذه الطاقة الخلاقة، وعبارة: “إضاعة المال” ترمز إلى تبديد الثروات وتضييع الموارد الطبيعية، وهذه الثلاثة: إضاعة الوقت، وتبديد الموارد الطبيعية، وإهدار الموارد البشرية تمثل مثلث الانهيار الاقتصادي، وضدها – بلا ريب – يمثل مثلث النهوض الاقتصادي.
مَكروهاتٌ تُسْلِم إلى مُوبقات
فإن كنت في ريب مما أقول فهذه رواية للحديث عند الشيخين أيضا، ترتبط فيها هذه المكروهات بثلاثٍ محرمات؛ ارتباط الْمُدْخَلات بالْمُخْرَجات، فعَنِ المُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ: عُقُوقَ الأُمَّهَاتِ، وَوَأْدَ البَنَاتِ، وَمَنَعَ وَهَاتِ، وَكَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ»، فانظر كيف أفضت المكروهاتُ إلى الموبقات؟ لكنْ: ما العامل المشترك بين المحرمات الثلاثة؟ إنّه الفقر، الذي تسببت فيه المكروهات الثلاثة، فوأد البنات كان سببه الفقر والإملاق، ومنع وهات عبارة عن حالة من الشح والحرص متبادلة بين الناس بجنون وهوس سببها الفقر والمضيعة، وعقوق الأمهات غالبا ما يكون بسبب الفقر أيضا؛ لأنّه لم يقل: “وعقوق الوالدين” كَكُلّ مرة؛ لأنّ من يحتاجون للنفقة إذا كبروا تكون نسبتهم من الأمهات أكثر.
إنّه الاقتصادُ السياسيّ بِعَيْنِهِ
وسوف تعجب إذا وجدت هذا المثلث يتعانق مع مثلث آخر؛ لتتطابق عوامل النهوض الاقتصادي مع مقومات الرشد السياسي، والمجالان يزدادان مع الأيام امتزاجا والتحاما، حتى إنّه صار لدينا علم الاقتصاد السياسي، فعند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعا: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثاً، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثاً: يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، ويَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ»، وما من شك في أنّ مناصحة الحكام والأخذ على أيديهم، مع الوحدة وعدم التفرق؛ من أهم أسباب القوة السياسية، وعليه فإنّ عبادة الله وحده تفهم في هذا السياق على أنّها اتخاذ شريعته وحدها دستورا ومنهجا ومصدرا للتشريع، وقد قَرَنَ القرآن بينهما في مواضع عديدة، فَكَمُلَ – إذن – مثلث الرشد السياسي بالتطابق مع مثلث النهوض الاقتصادي.
فرعان باسقان على جذر مكين
وإذا كان المجالان الاقتصاديّ والسياسيّ يعتمدان في كل حضارة على أصل عقديّ؛ فهل يمكن أنّ نجد لهذا المثلث العبقريّ اتصالا مع جذر عقديّ؟ أجل؛ فها هو البخاريّ ينفرد برواية من نفس الحديث: عَنْ وَرَّادٍ، كَاتِبِ المُغِيرَةِ، أنّ المغيرة كتب إلى معاوية: إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ: «لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» وإِنَّهُ «كَانَ يَنْهَى عَنْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةِ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ المَالِ …»، والذي نكاد نجزم به أنّ كل ذلك كتبه المغيرة إلى معاوية، لكنّ العبقرية هنا تتمثل في اختياره لهذه الأحاديث، في هذا التوقيت الذي كانت فيه أحلام معاوية متجهة إلى بناء نهضة فَتِيَّةٍ تأخذ بأسباب القوة في كل الميادين، أمّا الإعجاز فيتجلى في هذا التماسك في المعاني مع العمق في النصائح الواردة في الحديث.
ليس بيننا وبينها إلا أن نَشاءَها
لو شاءت أمتنا لفعلتها، لو شاءت لتوحدت على رؤية منبثقة من عقيدتها وشريعتها، وانطلقت اليوم تنشد النهوض؛ بما حباها الله من موارد طبيعية: أرض وماء ونفط وطاقة وثروات ومعادن وموقع استراتيجي وجو سياسي متميز، وثروة بشرية تتمتع في الأعمّ الأغلب بسلامة القلب وقوة النفس وحب الخير، والاستعداد الدائم للبذل والعطاء، ولا ينقصها إلا الأمل لتثب وثبتها الكبرى، لو نشاء لتوقفنا عن تبديد الثروات والطاقات والأوقات، لو نشاء لأوقفنا الإفناء وبدأنا البناء؛ فهل آن لنا أنْ نَشاء؟!