قراءة في كتاب “العادات السبع”
الدكتور عطية عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنة“خُذْ بزمام المبادرة.. استصحب الغاية من البداية.. ابدأْ بالأهم قبل المهم.. اجعل المنفعة تبادلية.. اسع لفهم الآخرين قبل أن تسعى لأن يفهموك.. انتهِج التكاتف والتعاون الخلاق.. اشحذ المنشار” هذه هي العادات السبع، التي تفنّنَ “ستيفن كوفي” في عَرْضِها من خلال مؤلَّفِهِ الرائع: “العادات السبع للناس الأكثر فاعلية”.
والعادات -التي هي سلوكياتٌ تَتَجَذَّرُ بالاعتياد- تُعَدُّ مشتركًا إنسانيًّا؛ وهنا يقال: “الحكمة ضالة المؤمن”.
وقد استعرض المؤلف هذه العادات السبع بعد مقدمة متينة بيّن فيها مفتاحين وأداة، فأمّا المفتاحان فالأول: أنّ الانطلاق من الداخل إلى الخارج هو الطريق الصحيح للتغيير، والثاني أنّ التغيير يبدأ من تصحيح التصورات الفكرية، وأمّا الأداة فهي التدرج والمرحلية.
هل نظر كوفي في القرآن والسنة؟
ولئن كان “ستيفن كوفي” قد وُفِّقَ في اختيار المفتاحين والأداة؛ ليكون التغيير جذريًّا، فإنّه قد وفق كذلك عندما اختار العادات السبع على هذا النحو وبهذا الترتيب؛ ليتحقّق بثلاثٍ منها النصر الشخصيّ، وبثلاثٍ أخرى النصر العام التكامليّ، ويُؤَمِّنَ بالسابعة الديمومة والاستمرار؛ فهل كان الرجل على اطلاع بالمنهج الإسلاميّ في التربية؟ أم أنّ المرء إذا نشد غاية نبيلة وبذل وُسْعَهُ لبلوغها فإنّ الله يعطيه من التوفيق بقدر ما يبذل على أنّه لا يبلغ تمام الرشد إلا باتباع الوحي؟
أيًّا ما كان الأمر فإنّه من الواضح أنّ الكتاب قد جاء بكثير من الحقّ الكامن في المنهج الإسلاميّ في بناء الإنسان، وأنّه من الواضح كذلك أنّنا بحاجة إلى إعادة صياغة علوم التربية والتزكية بأسلوب عصريّ كهذا الذي يكتب به أمثال كوفي وكارنيجي وميرفي وأمثالهم من رواد التنمية البشرية.
حَقِّق النصر الذاتيّ بترسيخ العادات الثلاث الأولى
هل تذكر آخر مرة حضرت فيها تأبين أحد الموتى؟ وهل تذكر شيئًا مما قيل عنه بعد رحيله؟ ماذا قال عنه أولاده وزوجته وأقاربه، وماذا قال عنه أصدقاؤه؟ وماذا قال عنه جيرانه وزملاؤه في العمل؟ حاول أن تتذكر ذلك، ثم قل لنفسك: ما الذي أحب أن يقال عنّي عند رحيلي؟ هذه هي التي يراها “كوفي” غاية تستحقُّ أن يستصحبها طالب التغيير الجذريّ في شخصيته، وإنّها لغاية نبيلة حقًّا، وإنْ كان القرآن قد ارتقى بالإنسان إلى غاية أسمى، وهي الفوز في الآخرة بالجنة والرضوان، والتحقيق لوظيفتي العبادة والخلافة، فما أجمل استصحاب الغاية من البداية!، وحتى لا يتأخر الابتداء لا بد من الأخذ بزمام المبادرة، وهنا تأتي النصوص القرآنية والنبوية لتحقق سبقًا وتفوقًا: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}، {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، “بادروا بالأعمال فِتَنًا…”، “بادروا بالأعمال سَبْعًا…”؛ ولأنّ الواجبات كثيرة والمصالح متفاوتة والعمر قصير وغير مضمون كان لابد من ترتيب الأولويات.
من النصر الشخصي إلى النصر العام
“عندما نضع التصور الذهنيّ لرصيد بنك المشاعر في حسباننا سنكون مستعدين للانطلاق إلى عادات النصر العام، أي النجاح في العمل مع الآخرين، وبينما نقوم بهذا نرى هذه العادات وهي تعمل معًا لخلق اعتماد متبادل فعَّال”؛ كلماتٌ ختم بها كوفي سلسلة من المقدمات، تحدث فيها عن بنك المشاعر وما يجب أن يودع فيه من المشاعر الإنسانية الراقية، ومهّد بها للعادات الثلاث التي يتحقق بها النصر العام، وقد وُفِّقَ عندما اختزل هذه المقدمات في الحكمة القائلة: “عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به”، وهي حكمة مطابقة لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: “وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه”، ثم انطلق ليقرر في ترتيب موفق وأسلوب محكم العادات الثلاث، وبدأها بعادة “التفكير بطريقة: مكسب/مكسب” وقصد بها “اجعل المنفعة تبادلية”؛ لأنّ “التفكير بطريقة: مكسب/خسارة” سترتدُّ عليه من الآخرين بنفس المنطق: خسارة/مكسب؛ وبذلك يخسر المجموع.
اشحذ المنشار
“مرّ حكيم برجل يقطع شجرة، فرآه منهكًا مكدودًا، لا يكاد المنشار يثبت في قبضته من شدة الإعياء، تتلاحق أنفاسه حتى لكأنّ روحه تخرج مع أنفاسه، فناداه الحكيم: يا هذا اجلس قليلًا واشحذ المنشار”، تخيل: لو أنّه -بذريعة الجدية- مضى فيما هو فيه؛ فهل تتوقع أن ينجز عمله ويبلغ غايته في وقت أقصر مما لو استراح قليلا ريثما يشحذ المنشار؟ بالقطع لا؛ إذن فمن الضروريّ أنْ تشحذ المنشار كلما بَرَدَ وأصابَتْهُ البلادة.
بهذه الطريقة حاول كوفي إقناع قرائه ومتابعيه بهذه العادة المحورية، التي ختم بها العادات السبع، وقد أوفى الرجل على الغاية في الإبداع عندما تحدث عن الأبعاد الأربعة للكينونة الإنسانية باعتبارها وجوهًا للمنشار الذي يجب على الشخص أن يشحذه كلّما برد وتبلد، وهي: البعد الروحي، والبعد البدني، والبعد العقليّ، والبعد الاجتماعي العاطفيّ، وقد تفنن في استعراض الوسائل والأساليب التي يشحذ بها المنشار في كل وجه من هذه الوجوه الأربعة التي سماها الأبعاد الأربعة.
انظر ماذا صنع القرآن؟!
كنت كلما قرأت صفحة من هذا الكتاب وردت على خاطري الآيات القرآنية التي تفوقت في بعثها وقدرتها على صياغة الإنسان، فما أكثر الآيات بل والسور الكاملة التي تفيض بالمناهج التربوية العالية في التربية الفردية والجماعية، والتي تبني الشخص وتبني به وبأمثاله المجتمع! وسأكتفي فقط ببعض الآيات التي تدعو إلى شحذ المنشار، فقد تكررت في كتاب الله أوامر من هذا القبيل مثل: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}، {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}، وغيرها من الآيات التي وجهت الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى شحذ المنشار في البعد الروحيّ.