الخميس 2 مايو 2024 01:25 صـ 22 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    أمام الاستبداد أيهما أولى.. الشريعة أم الحرية؟

    رابطة علماء أهل السنة

    أحيانا تدفعنا الحماسة، فنتحرك في معارك فاضلة، ومهمة ونبيلة، لكن ترتيبها قد يكون ليس الأول، ومن ذلك احتدام النقاش بين كثير من الشباب في الحراك الثوري الآن: هل المعركة الآن: الحرية أولا، أم القضايا المهمة التي لا تقل عنها أهمية، كالشريعة والهوية، وبقية القضايا التي لا يختلف على أهميتها وعظمها أحد، وهو نقاش أثير قبل ثورة يناير، وبعده، وزاد النقاش فيه الآن،

    وأرى أنه كي تحقق أي ركن مهم ديني أو اجتماعي أو سياسي لن يكون بدون توافر الحرية ومناخها توافرا كاملا، وهذا ما يجعلنا ننادي الجميع: أن معركتنا الأولى في هذا الحراك هي: الحرية، وإنهاء الاستبداد بكل أشكاله، فمن يريد الشريعة، فلن تكون بغير حرية، ومن يريد القصاص للشهداء، فلن تكون بدون حرية وإنهاء الاستبداد، الحرية بمعناها الشامل والكامل، بكل جوانبها وأدواتها وأساليبها.

    لقد كان مطلب الرسول صلى الله عليه وسلم من الجميع: خلوا بيني وبين دعوتي، أي اتركوا لي حرية التحرك بدعوتي، دلالة على أهمية الحرية هنا بالنسبة للدين، ولمقومات حياة الإنسان الأخرى.

    بل إن الغاية من إعلان الجهاد، والهدف منه لم يكن قتل الناس، كما يفهم البعض خطئا، بل الهدف الأكبر منه تحقيق الحرية للدعوة للإسلام، والانطلاق به بين الناس، ليختار كل منهم ما يحب أن يختار، فيؤمن عن طواعية، لا عن قهر، أو كبت في إطار قوله تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) الكهف: 29
    وقوله: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256.

    ولماذا جعل الإسلام حدا من حدوده اسمه حد الحرابة، وهو حد من يصادر على الناس حريتهم في الحياة، فيعيث في الأرض فسادا، ويحرمهم من الأمان، ويسفك دماءهم، ويهتك أعراضهم، ويقض مضاجعهم، فجعل الله عقابه كما ذكر في كتابه: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض) المائدة: 33.

    بل إن القرآن الكريم الذي استفاض في ذكر قصة نبي الله موسى، والتي كادت تصل إلى ثلث القرآن في حديثه عنه وبني إسرائيل، وصراعه مع فرعون، ركز القرآن الكريم على أن دعوة نبي الله موسى في صراعه مع فرعون ركزت على أمرين مهمين: طلب الحرية وتخليص هذا الشعب من الاستعباد والإذلال أولا، ثم دعوتهم للإيمان بالله تبارك وتعالى، وكان مطلبه ذلك واضحا جليا في آيات عديدة، ومنها: يقول سبحانه: (وَقَالَ مُوسَى يَا فِرعَونُ إِنِّي رَسُولٌ مِن رَبِّ العَالَمِينَ. حَقِيقٌ عَلَى أَن لَا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلَّا الحَقَّ قَد جِئتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِن رَبِّكُم فَأَرسِل مَعِيَ بَنِي إِسرَائِيلَ) الأعراف: 105.

    وفي آية أخرى يقول تعالى: (فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم) طه: 47.

    يقول الشيخ الشعراوي في تفسير الآية: (والحق سبحانه وتعالى عندما أرسل موسى وهارون بآية دالة على صدقهما إلى فرعون كانت مهمتهما الأساسية أَخْذ بني إسرائيل، وإنقاذهم من طغيان فرعون، وجاءت المسألة الإيمانية تبعية، أما أصل مهمة موسى فكان: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ). [1]

    ويقول أيضا رحمه الله: (فالأصل في لقاء موسى بفرعون أن ينقذ بني إسرائيل من العذاب، ثم يُبلِّغهم منهج الله، ويأخذ أيديهم إليه، وجاءت دعوة فرعون للإيمان ونقاشه في ادعائه الألوهية تابعة لهذا الأصل). [2]

    وليس طلب نبي الله موسى منه بإرسال بني إسرائيل لإخراجهم من مصر بإبعادهم، بل طلب تحريرهم، كما يوضح ذلك الإمام الألوسي فيقول: (والمراد بالإرسال إطلاقهم من الأسر وإخراجهم من تحت يده العادية لا تكليفهم أن يذهبوا معهما إلى الشام كما ينبىء عنه قوله سبحانه وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي بإبقائهم على ما كانوا عليه من العذاب). [3]

    وبعد أن نجاهم الله من هذا الاستبداد، ذكرهم نبي الله موسى بهذه النعمة الكبرى، نعمة نيل الحرية، والتحرر من نير الظلم، وأنها نعمة كبرى أنعم الله عليهم بها، فقال تعالى: (وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم) البقرة: 49.

    وهو ما جعل الإمام المودودي رحمه الله يفهم أمرا آخر في طلب بني إسرائيل (فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها، قال: أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير) البقرة: 61
    لم يفهم المودودي أن المقصود هنا حياة البصل والعدس وطعام أهل مصر، في قوله: (الذي هو أدنى بالذي هو خير) بل قال المقصود هنا: أتستبدلون حياة الحرية بحياة الذلة والاستبداد، وهو ما يهواه البعض من الحنين لعيش العبودية والذل بعد نعمة الحرية.

    ومن النماذج الفقهية الرائعة ما دار من نقاش في المذهب الحنفي، في إحدى مسائل المذهب: لو اختلف رجلان على طفل، أحدهما مسلم، والآخر غير مسلم، فقال المسلم: هذا عبدي (أي الطفل)، وقال غير المسلم: هذا ابني. حكم فقهاء المذهب الحنفي لغير المسلم بأن يأخذ الطفل، قالوا لأن الحرية مقدمة على الرق (العبودية)، فسيكوسن الطفل مع غير المسلم حرا، ولكنه مع المسلم سيكون رقيقا (عبدا) وفي ذلك إعلاء لمبدأ الحرية عند فقهاء المسلمين.

    هل خوض معركة الحرية أولا من الدين والشريعة، أم تراه أمرا آخر يختلف؟ نعم خوض معركة الحرية هو أمر ديني لا ينفك عن الشريعة والدين نفسه، وقد أوضحت فيما ذكرت ذلك، بل لن تصل كما ذكرت للثانية قبل خوضك الأولى، والنجاح فيها، وإزالة كل العقبات التي تمنع ذلك، والدليل الواضح من القرآن أن كل جهاد ونضال لأجل الحرية هو جهاد في سبيل الله قوله تعالى: (وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان)
    النساء: 75

    يقول الإمام الزمخشري في تفسيره: (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ فيه وجهان أن يكون مجروراً عطفا على سبيل اللَّه أى في سبيل اللَّه وفي خلاص المستضعفين،
    ومنصوبا على اختصاص يعنى واختص من سبيل اللَّه خلاص المستضعفين). [4] وهو نفسه ما قاله الإمام محمد عبده: (وأخص من سبيل الله إنقاذ المستضعفين من ظلم الأقوياء الجبارين) [5]

    ويقول الشيخ الشعراوي: (أي أن القتال يكون في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وفي ذلك استثارة للهمم الإنسانية حتى يقف المقاتل في سبيل رفع العذاب عن المستضعفين، بل إننا نقاتل ولو من باب الإنسانية لأجل الناس المستضعفين في سبيل تخليصهم من العذاب). [6] 
    فالله تبارك وتعالى جعل الدفاع عن المستضعفين من أهل الضعف من الرجال والنساء والأطفال، مساويا للدفاع في سبيل الله، أجرا ومثوبة، وأنه رسالة للإنسان المسلم، لا يصرفه عن ذلك إلا من يريد أن يصرفه عن فهم دينه فهما صحيحا.

    وهو ما فهمه مرشد الإخوان المسلمين حسن الهضيبي أن حرية الناس تقدم، وأنهم عند اختيارهم تطبيق الشريعة يجب أن يكون في إطار من الحرية، فعندما أعلن الرئيس اللواء محمد نجيب إلغاء الدستور المصري سنة 1952م بعد قيام الثورة ببضع شهور، وقد كانت النيات المعلنة تتجه إلى إعلان تطبيق الشريعة، وأن الدستور الجديد سيستند في كل ما فيه للشريعة الإسلامية، فصرح الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين: أنه يرى أن تستفتى الأمة أولا في دستورها الجديد؛ وهل هي تختار شرائع الإسلام أم شرائع الغرب،

    فإذا رأت الأمة أن تُحكم بالإسلام، كان على اللجنة التي تشكل لصياغة الدستور أن تنفذ ذلك، وأن تلتزم به، ولم تعد مطالبتها بالتزام الشريعة استجداء لا يليق بالإسلام، ولا بالأمة المسلمة، وإذا رأت الأمة أن تُحكم بشرائع الغرب، وهو رأي لا يمكن أن يقول به مسلم، عرفنا أنفسنا، وعلمنا الأمة أمر ربها، وما يجب عليها). [7]

    وما قال به الهضيبي هو نفس ما نادى العلامة السلفي المحدث الشيخ أحمد شاكر، الذي يشرح خطته في تغيير القوانين في مصر لتتوافق مع الشريعة الإسلامية، وهو سبيل يقوم على الحرية بالأساس، والاختيار الحر، فيقول: (وإذ ذاك سيكون السبيل إلى ما ينبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السليم: أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها، ونجاهد بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخابات، ونحتكم فيها إلى الأمة، ولئن فشلنا مرة فسنفوز مرارا، بل سنجعل من إخفاقنا ـ إن أخفقنا في أول أمرنا ـ مقدمة لنجاحنا بما سيحفز من الهمم، ويوقظ من العزم، وبأنه سيكون مبصر لنا مواقع خطونا، ومواضع خطئنا، وبأن عملنا سيكون خالصا لله، وفي سبيل الله.

    فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب إذا فاز أحدها في الانتخاب، ثم نفي لقومنا إن شاء الله بما وعدنا من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة!). [8]

    إنني أكثرت في النقول لأن المقام ربنا يؤدي إلى جدل، فاضطررت للنقل من كل مدرسة، ليكون الكلام واضحا بينا جليا، فهل نعي الدرس جيدا، ونعرف أولوياتنا الحقيقية، حتى لا يختل ميزان المطالب لدينا؟!

    يا معشر الثوار من كل الفئات: توحدوا على نيل الحرية، ومقاومة الطغيان والاستبداد بكل ألوانه، فبغير الحرية لن يمارس أي منا ما يؤمن به، فالحرية هي الضمانة التي تحقق للجميع حق ممارسة ما يعتقد، وما يؤمن به.

    ___________

    المصادر:

    [1] انظر: تفسير الشعراوي (15/9287).

    [2] انظر: تفسير الشعراوي (17/10552).

    [3] انظر: روح المعاني للألوسي (8/511).

    [4] انظر: الكشاف للزمخشري (1/534).

    [5] انظر: تفسير المنار (5/211).

    [6] انظر: تفسير الشعراوي (4/2417).

    [7] انظر: مجلة (المسلمون) الشهرية العدد الثاني من السنة الثانية الصادر في ربيع الآخر سنة 1372هـ ـ ديسمبر سنة 1952م. ص: 103.

    [8] انظر: الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين للشيخ أحمد شاكر ص 41،40، طبعة  مكتبة السنة بالقاهرة.

    الاستبداد تليمة الشريعة الحرية

    مقالات