يس بخافٍ على كل ذي بصيرة أن من أهم عوامل خروج المسلمين مما هم فيه من الذل والهوان وتسلط الأعداء هو اجتماع كلمتهم على الحق، وائتلاف قلوبهم على الإيمان، وتوحد صفوفهم على التوحيد، وهذا الأمر - ألا وهو الاجتماع والائتلاف -
عوضاً عن كونه ضرورة شرعية؛ فهو مطلب ملح إزاء هذا الواقع المرير الذي تكالب علينا فيه أعداؤنا من يهود ونصارى ومشركين، وسامونا سوء العذاب، في سلسلة من الأحداث المتعاقبة والمتسارعة، كي تكون الأمة في مستوى هذه الأحداث، وقادرة على ردع العدوان، ودفع صيال المعتدين.
والنصوص الشرعية متضافرة من الكتاب والسنة في الأمر بهذا الأصل العظيم، وتثبيت هذه القاعدة الكبرى، ويكفي من ذلك أن نعلم أن من أبرز خصائص الجيل الأول - جيل الصحابة - تحقيق هذا المعلم: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم"، "هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم".
بل جيل النصر والتمكين - الطائفة المنصورة - من أجلى خصائصه الاجتماع على الحق "لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله"، "يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلةٍ على المؤمنين أعزةٍ على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم".
إن الاجتماع الذي تصبو إليه الأمة، وينشده المصلحون، اجتماع أساسه العلم بالحق، فالعلم وحده هو سبيل الاجتماع، لأن العلم فرقان بين الحق والباطل، ومميز بين الأصيل والدخيل، فيمحو الخلاف أو يضبطه بضوابطه الشرعية.
ولا نريد بالعلم هنا المعرفة المجردة، وإنما مرادنا العلم النافع الذي يورث الإيمان والخشية كما قال الله عز وجل: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، فالعلم المذكور بالصفة السالفة هو الذي يكون أصحابه على بصيرة بالحق وانقياد له، ودعوة إليه، واجتماع عليه: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون".
وعليه فإن قادة هذا الاجتماع، ورؤوس هذا الائتلاف هم العلماء، أولوا الأمر حقاً، وهم الجماعة، وهم الإجماع، وهم رأس الطائفة المنصورة، وكبراء الفرقة الناجية، وباجتماعهم تجتمع الأمة، وباختلافهم تختلف القلوب، فتحدث الفرقة، ويقع الشقاق والتصدع في الأمة، ولا نعني بالاجتماع الإجماع وأن تكون أقوال العلماء وآراؤهم واجتهاداتهم متفقة غير مختلفة فإن هذا ما كان ولن يكون إلا في قضايا محددة ومحدودة، ولكننا نعني باجتماع العلماء وحدة أصولهم على منهج أهل السنة والجماعة، وائتلاف قلوبهم على الأخوة الإيمانية، وتكامل جهودهم في نصرة قضايا الأمة الإسلامية.
إن العلم والعلماء هما مادة هذا الاجتماع، وعنصره القوي، ولا يظن ظان أننا نقصد الأمة بجميع صنوفها، واختلاف قدراتها، وتعدد ملكاتها ومواهبها على العلم والعلماء فحسب، ولكنَّما العلماء هم قلب الأمة النابض، وعقلها المدبر، وباجتماعهم يتحد تفكير الأمة، وتتوحد مشاعرها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ضرب لنا مثلاً عظيماً لهذه الأمة حين قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، فهذه الأمة جسد واحد يجب على أبنائها أن يعيشوا جميع قضاياها – قضاياهم - بروح الجسد الواحد، وكل جسد له قلب وأركان، وسمع وبصر ولسان، وهذه الأعضاء وغيرها لابد أن تخدم هذا الجسد الواحد.
ومما لا شك فيه أن من أدوى أدواءنا، وأعظم مشاكلنا؛ أننا نعيش بروح العضو الواحد لا بروح الجسد الواحد، والسبب الرئيس في هذا أننا لم نفهم الإسلام بحقيقته الشمولية، فانغلقت كل فئة منا على جزء من الدين، وشعيرة من شعائره، فوالت وعادت على هذا الجزء، وأحبت وأبغضت على تلكم الشعيرة، والإسلام دين شامل كامل كما قال الله تعالى:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" فلا يحق لنا بحال من الأحوال أن نشطر الدين إلى أشطار وأجزاء ثم ننحصر في جزء من أجزائه أو شطر منه، ونجعل الدين هو هذا الجزء فحسب، أو ذلك الشطر فقط، ثم ننقسم إلى فئات وطوائف لكل منه شريعة، ولكل طائفة فريضة، نوالي ونعادي، ونحب ونبغض على ما اختصت به، غير أن هذا لا يعني أن يمنع بعض الناس من أن يختص بجانب من الدين أو قضية منه فيبرع فيها ويبدع، فإن أبوب الجنة ثمانية، والناس قدرات ومواهب، وأبواب الخير والبر رزق يقسمه الله بين الناس كما يشاء.
فلا بد إذن من إدراك حقيقة الإسلام بين الشمول والتخصص كما ندرك أن الجسد الواحد ليس كله يدا فقط، أو عيناً فحسب أو لساناً، أو فؤاداً، ولكن من كل ما ذكر يكون الجسد الواحد.
وإن مما يجدر ذكره حقيقة يجب أن تبقى ماثلةً نصب أعيننا وهي أن هذا الجسد لن ينتصر على أعدائه إلا إذا كان صالحاً: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون"، ولن يكون صالحاً إلا إذا صلحت قلوب وأفئدة أبنائه "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب".
فحياة القلب وإيمانه، واستقامة إرادته، وصلاح عمله وحركته أصل كل خير، وبها يصلح القلب، ومن ثم يصلح الجسد، فإذا استقامت القلوب على الإيمان والتقوى والعمل الصالح ألف الله بينها، واجتمعت على نصرة كتاب ربها، وسنة نبيها - صلى الله عليه وسلم - فأتاها نصر الله: "ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور"، وإذا أتاها نصر الله فلا غالب لها "إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، وأما إذا أبت هذه القلوب إلا أن يغان عليها، وتظلم بالران، أو تموت فذلك مادة كل شر وفساد، وبه يحل الذل والصغار على الأمة، ومن ثم الفرقة والشتات، وحينها يصدق فينا قول الله - عز وجل -:"بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون".