انهيار بنك سيليكون فالي.. الأسباب العميقة والدلالات البعيدة
الدكتور عطية عدلان - عضو رابطة علماء أهل السنّة ومدير مركز محكمات للبحوث والدراسات رابطة علماء أهل السنةبين عشية وضحاها وقعت الكارثة! كَمْ كانت قوية وعنيفة تلك الصدمة التي تلقاها عملاء بنك “وادي السيلكون” الأمريكيّ! من حقّ العالم أن ينزعج؛ فمنذ أزمة 2008م التي انطلقت شرارتها من بنك “ليمان براذرز” الذي انهار بنفس الطريقة لتتبعه سلسلة تداعيات وانهيارات أصابت البنوك والبورصات؛ منذ ذلك الحين لم يحدث أن انهار بنك بهذه الطريقة السريعة المدوية؛ فليس عجيبا إذن أن يهرع الخلق إلى البنوك ليبكروا بسحب أرصدتهم؛ قبل أن يتسع الزلزال أو يتحول إلى تسونامي كاسح، فما عاد أحد يثق بالمنظومة المالية التي تحكم العالم اليوم، فهل سنشهد في المرحلة القادمة تداعيات اقتصادية كتلك التي عاشتها البشرية قبل عقد ونصف من الزمان؟ أو كتلك التي عصفت بالكوكب الأرضيّ في أواخر عشرينات وأوائل ثلاثينات القرن المنصرم؟ هذا ما يخشاه الجميع ولسانُ حالهم يلهث: اللهم سَلِّمْ.
الأسباب الطافية على سطح الأحداث
لم يكن بنك “سيلكون فالي” بنكا عاديا، لقد كان – برغم تأخر ترتيبه – أحد البنوك الواعدة؛ لكونه صار قبلة شركات التقنية العالية وأصحابها والعاملين فيها، فلم يكن أحد يخطر بباله أنّه يوما سينهار وبهذه السرعة الخاطفة، لكنّ البنك اتبع سياسة ظنّها آمنة، حيث اشترى رقما كبيرا من أذون الخزانة الأمريكية بأرباح منخفضة جدا وعلى مدى زمنيّ ممتد نسبيا، فلم يستطع الوفاء بالسحوبات المطلوبة للعملاء، ومما زاد من الأزمة رفع الحكومة لسعر الفائدة أكثر من مرة في زمن قليل نسبيا، فأعلن البنك عن حاجته لمليار وثمانمائة مليون دولار للوفاء بحاجة العملاء، فأمرت مؤسسة التأمين بغلق البنك.
الأسباب العميقة وراء الأزمات
تلك كانت الأسباب المباشرة التي لا تمثل للحريق الهائل إلا عود ثقاب ما كان يطمع أن يتجاوز تأثيره قطره الضئيل، لولا تجمع أكوام الحطب اليابس ومن تحته الزيت المتحفز للاشتعال، إنّ الأسباب التي فجرت الأزمة هي ذاتها الأسباب التي فجرت أزمة 2008م ومن قبلها الانهيار العظيم خالد الذكر في التاريخ المعاصر، وهي ذاتها الأسباب التي يمكن أن تفجر الأوضضاع في وقت قريب لتأتي على الأخضر واليابس من مقدرات الشعوب ومقررات المجتمع الإنسانيّ، وإنّها لمتوافرة ومتضافرة في أيامنا هذه، وإنّها لمتوفزة ومتحفزة لتفجير أزمة لا قبل للنظام العالميّ كله بها، ولا رادّ لها ولو خفتت أزمة سيلكون.
إنّها أزمة النظام المالي العالميّ ذاته الذي قرر أن يهيمن على أموال الناس وأملاكهم عن طريق (كماشة) ذات فكين قاسيين، الأول: النظام الربويّ الفاحش الفاجر، والثاني: النظام النقدي الذي قام على اعتماد العملة الورقية مفصولة عن قاعدة الذهب ومعتمدة على القرار الظالم للفيدرالي الأمريكي الذي يهيمن على الكوكب الأرضي من خلال سلاحين اثنين، الأول: الدولار، والثاني: القواعد العسكرية الأمريكية بترساناتها المتطورة، ذلك النظام الذي وقع برمته من لحظة ميلاده في قبضة حفنة من المرابين من العائلات المالكة للشركات العملاقة العابرة للقارات، والذي استحوذ على كافة المؤسسات المالية الدولية من لحظة ميلادها، فلا يمثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسة التجارة العالمية إلا أذرع هيمنة في أيدي هؤلاء الأنجاس المناكيد الذين تحكموا في الأنظمة السياسية وأخضعوها.
لذلك لا نستغرب إذا علمنا أنّ الحكيم “توماس جفرسون” كاتب الدستور الأمريكي وأحد الآباء الكبار كان قلقا من هذا الأمر، حتى لقد نقل عنه قوله: “أعتقد أنّ مؤسسة البنوك أكثر خطورة من الجيش المسلح، وإذا ما سمح الشعب الأمريكي للبنوك الخاصة بالتحكم في إصدار العملة فإنّ المصارف والشركات التي يديرها أصحاب هذه البنوك سوف تسلب الناس جميع ممتلكاتهم إلى أن يستيقظ أولادهم فيكتشفوا أنهم بلا مأوى في الأرض التي سبق واحتلها أسلاف هؤلاء”([1])، فلو تصورنا ثورة استقلال أمريكية ثانية قادمة فلن يكون لثوارها وجهة إلا شارع “وول ستريت” بمنهاتن السفلى بنيويورك!
إنّ أخطر مرحلة وصلت إليها المنظومة الربوية هي تلك المرحلة التي تمكنت فيها البنوك من خلق النقود من لاشيء، فقد صارت هذه الظاهرة محلّ انزعاج واستهجان الأوساط الأكاديمية والاقتصادية على حدٍّ سواء، فبحسب “الموسوعة البريطانية الإصدار الرابع عشر” فإنّ “البنوك تخلق القروض، إنّه لمن الخطأ أن نفترض أنّ القرض المصرفيّ مؤلف من المدخرات المالية الموجودة في المصرف”([2]).
وإذا كانت الحكومة الأمريكية مستفيدة بصورة مؤقتة من هذا النظام فإنّ الخسار والبوار لاحق بالمجتمع البشرية كله في الحال والمآل، “فمنذ إلغاء إمكانية تحويل الدولار إلى ذهب عام 1971، لم يعد أمام البنوك المركزية في كل العالم التي لديها فوائض دولارية سوى أن تحتفظ باحتياطياتها في صورة أذون الخزانة الأمريكية، أي إقراض الحكومة الأمريكية، مما أطلق العنان لأمريكا لتمويل العجز المزدوج في ميزان مدفوعاتها وفى ميزانيتها العمومية – وكلا العجزين لهما طبيعة عسكرية إلى حد كبير – وفى حين أن البلدان الأخرى التي تعانى عجزاً في الميزان التجاري وميزان المدفوعات يتعين عليها أن ترفع من نسبة الفائدة لتعيد الاتزان إلى عملتها، فإن الولايات المتحدة الأمريكية قامت بخفض أسعار الفائدة فيها مما مكن البنوك من إقراض المزيد من القروض بضمانات انتفخت قيمتها بصورة مصطنعة([3]).
البديل الذي لا بديل غيره
لا بديل للإنسانية ولا خلاص للبشرية إلا باستبدال ذلك النظام الربويّ الدولاريّ الظالم بنظام الإسلام في الاقتصاد والمال، ذلك النظام الذي يقيم الحياة الاقتصادية على أسس عادلة تعتمد الشركة والمضاربة وسائر قنوات الاستثمار الإسلاميّ وترفض الربا جملة وتفصيلا، وتعتمد قاعدة الذهب والفضة وتربط بها جميع العملات التي تخترعها وتسهل بها تعاملاتا اليومية، منضبطة في ذلك بأحكام الصرف الإسلاميّ.
ولقد أدركنا اليوم أكثر من أيّ يوم مضى كم كان الشرع حكيما عندما أحاط الذهب والفضة بهذه الجملة الكبيرة من الأحكام، التي قصد منها في النهاية الحفاظ على السلعة المعيارية دون ان تضطرب وتخختل فتقع المظالم الاقتصادية والمالية الكبيرة، يقول ابن خلدون: “ثم إنّ الله تعالى خلق الحجرين المعدنين، من الذهب والفضة قيمةً لكل مُتَمَوِّلٍ، وهما الذخيرة والقَنِيّة لأصل العالم في الغالب، وإن اقْتُنِىَ سواهما في بعض الأحيان فإنّما هو لقصد تحصيلهما، بما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق التي هما عنها بمعزل، فهما أصل المكاسب والقنية والذخيرة”([4])، وللإمام كلام كثير مفاده أنّ “للنقود خاصية ترتبت عليها وظيفتان، أمّا الخاصية فهي الثبات النقديّ، وأمّا الوظيفتان فهما: اتخاذها أداة مبادلة، وفي الوقت نفسه اتخاذها أداة ادخار … ولا شكك في أنّ ظاهرة الثبات النقدي كانت السبب الأول في صيرورة الذهب والفضة مستودعين للقيمة، وفي اتخاذهما أداة للادخار والمبادلة”([5]).
ويقول الإمام أبو حامد الغزالي: “فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين ومتوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر الأموال بهما … خلقهما الله تعالى لتتداولهما الْأَيْدِي وَيَكُونَا حَاكِمَيْنِ بَيْنَ الْأَمْوَالِ بِالْعَدْلِ، وَلِحِكْمَةٍ أُخْرَى وَهِيَ التَّوَسُّلُ بِهِمَا إِلَى سَائِرِ الْأَشْيَاءِ لأنهما عزيزان في أنفسهما ولا غرض في أعيانهما ونسبتهما إلى سائر الأحوال نسبة واحدة فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء … “([6])، ويضيف: “وكل من اتخذ من الدراهم والدنانير آنية من ذهب أو فضة فقد كفر النعمة وكان أسوأ حالاً ممن كنز … ومن شرب في آنية من ذهب أو فضة فكأنما يجرجر في بطنة نار جهنم، وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة؛ وظلم لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما؛ إذ لا غرض في عينهما … فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض فى أعيانهما، وموقعهما في الأموال كموقع الحرف من الكلام كما قال النحويون إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره”([7]).
ويقول الإمام ابن القيم: “فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودا مضبوطا لا يرتفع ولا ينخفض؛ إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات … وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره؛ إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض، فتفسد معاملات الناس”([8]).
وإذا تعين هذا طريقا للخلاص وجب أن يكون مفردة من مفردات المشروع الإسلامي الكبير، الذي سيعيد الهيمنة للمنهج الإسلاميّ والسيادة لشريعة الله تبارك وتعالى، المشروع الإسلامي الذي يعد واجب الوقت ويعد هو الفريضة الغائبة في الأمة الإسلامية، فمن لهذا الواجب الكبير؟!
----------------------------------------------------------------------------------
المراجع:
([1]) استعباد العالم – فالنتين كاتاسونوف – ترجمة د. إبراهيم استانبولي – الهيئة العامة السورية للكتاب – ط أولى 2018م صـــ147
([2]) استعباد العالم – فالنتين كاتاسونوف – ترجمة د. إبراهيم استانبولي – الهيئة العامة السورية للكتاب – ط أولى 2018م صـــ184
([3]) الاقتصاد السياسي التطبيقي والنقود الحديثة “في كوكبنا شيطان” – د. صلاح عبد الكريم – مرجع سابق صـــــ70
([4]) مقدمة ابن خلدون صـــ 318
([5]) الاقتصاد الإسلامي مذهبا ونظاما – د. إبراهيم الطحاوي – المطابع الأميرية – القاهرة – ط 1974م صـــ 554-555
([6]) إحياء علوم الدين (4/ 91)
([7]) إحياء علوم الدين (4/ 92)
([8]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (2/ 105)