الفاتيكان يهاجم الإسلام عشية زيارة البابا فرنسيس إلى العراق
رابطة علماء أهل السنةعشية زيارة بابا الفاتيكان، البابا فرنسيس، إلى العراق وهي زيارة تحمل أبعاداً سياسية متعددة، وبينما كان العالم الكاثوليكي الذي يضم نحو 1.13 مليار نسمة يتطلع لزيارة البابا وما يمكن أن تسفر عنه، نشر موقع أخبار الفاتيكان الرسمي تقريراً للكاتبة المتخصصة بالشؤون الكنسية ليزا زنغاريني Lisa Zengarini بعنوان “العراق، لمحة عامة عن الكنيسة والجماعات المسيحية في البلاد”.
وكرّست الكاتبة، وهي معتمدة في هيئة تحرير الموقع كما يبدو من منشوراتها، كرّست تقريرها، المنشور هنا، لاستعراض جوانب من معاناة مسيحيي العراق في أعقاب استباحة تنظيم داعش الارهابي لأرجاء واسعة من البلاد عام 2014، مع إشارة مقتضبة عابرة، تتخطاها حتى عين القارئ الحصيف، إلى ما عاناه أبناء العراق من أتباع الديانة المسيحية بكل طوائفها على يد الميليشيات الشيعية الطائفية الارهابية المدعومة من إيران، طيلة السنوات التي سبقت ظهور تنظيم داعش، وطيلة السنوات التي تلت استعادة مناطقهم من أيدي التنظيم، إذ ما تزال كنائسهم مدمرة، ومدنهم وقراهم مستباحة، بل إن سهل نينوى الذي اعتبرته زنغاريني “مهد المسيحية في بلاد ما بين النهرين” ما يزال محتلاً من قبل ميليشيات إرهابية تمارس جرائمها ضد شعب العراق، ومنه تواصل هجماتها ضد المدنيين في محافظة أربيل المجاورة وضد القاعدة العسكرية الأميركية هناك، كما حدث بالفعل قبل أيام.
معاناة مسيحيي العراق جزء من معاناة كل العراقيين جراء الغزو الغاشم والاحتلال الظالم، وهي المعاناة التي لم يفعل الفاتيكان شيئاً لا لمنع حدوثها، قبل الغزو، ولا لمنع استمرارها، بعد الاحتلال.
والمفارقة أن البابا فرنسيس، الذي يقدم نفسه رسول سلام وداعية محبة، التقى بعدد من زعماء تلك الميليشيات الارهابية ووصفهم بأنهم قادة العراق، وكرّم أحد زعماء تلك الميليشيات وهو ريان الكلداني الذي نفذ جرائم بحق مسيحيي ومسلمي الموصل على حد سواء.
وأغفلت الكاتبة، عن عمدٍ كما يبدو إذ الجهل غير واردٍ هنا، أغفلت الحديث عن كون معاناة مسيحيي العراق إنما كانت جزءاً من معاناة كل العراقيين جراء الغزو الغاشم والاحتلال الظالم، وهي المعاناة التي لم يفعل الفاتيكان شيئاً لا لمنع حدوثها، قبل الغزو، ولا لمنع استمرارها، بعد الاحتلال.
وباعتقادي إن أي عرضٍ لواقع حال مسيحيي العراق وتحليل ما تعرضوا له يُغفل قضية الاحتلال ودور الغزاة في مآسي مسيحيي العراق ودور الميليشيات الطائفية الإيرانية في العراق في تلك المعاناة، وهي مستمرة، إنما يعبر عن نظرة أحادية قاصرة، ليس مبعثها الجهل وعدم توفر المعلومات، فهذا واضح وضوح الشمس، بل عن غرضٍ سياسي مبيّت مسبقاً، وهذا مرفوض.
كل وقائع التاريخ منذ بدء الفتح الاسلامي لأرض العراق، عام 11 للهجرة الموافق للعام 633 للميلاد، تؤكد أن المسيحيين كانوا يحظون برعاية كاملة من الدولة واحترام تام من المجتمع.
بدأت الكاتبة تقريرها بالحديث عن فكرتين خطيرتين، منافيتين لوقائع التاريخ من جهة، وخبيثتين في طريقة عرضهما وتقديمهما للقراء من جهة ثانية، وفي توقيت ذلك من جهة ثالثة.
-
تحدثت زنغاريني في فقرة عنونت لها بما أسمته “تاريخ من الاضطهاد والتمييز” عن كون “المجتمع المسيحي العراقي، المكوّن اليوم من الكلدان والآشوريين والأرمن واللاتينيين والملكيين والأرثوذوكس والبروتستانت، اتسم بالاضطهاد والتمييز منذ وصول الإسلام وحتى بعد استقلال العراق“.
والحقيقة أن كل وقائع التاريخ منذ بدء الفتح الاسلامي لأرض العراق، عام 11 للهجرة الموافق للعام 633 للميلاد، تؤكد أن المسيحيين كانوا يحظون برعاية كاملة من الدولة واحترام تام من المجتمع، وأن عدداً غير قليل منهم تبوأوا مواقع مهمة في الدولة العربية الاسلامية، وخصوصاً الأموية منها أو العباسية، بل يروي لنا التاريخ أن القبائل العربيَّة المسيحيَّة في العراق انضمَّت إلى صُفوف المُسلمين في معارك الفتح، وهذا وحده دليل على تسامح المسلمين الفاتحين مع مسيحيي العراق، وعلى رغبة عرب العراق المسيحيين في التخلص من اضطهاد المحتل الفارسي بالاصطفاف مع أشقائهم العرب المسلمين.
-
الفكرة الثانية مفادها أنه “في ظل نظام صدام حسين العلماني، وجد المسيحيون طريقة مؤقتة تسمح للكنيسة بالقيام بأنشطتها، وكذلك في المجال الخيري“.
وهذه الفكرة خطرة من جانبين:
الأول: أنها تقفز على حقبة تاريخية تمتد على ستة عقود، هي الممتدة بين قيام المملكة العراقية عام 1921 وتسلّم الرئيس صدام حسين الحكم عام 1979. وهي حقبة لم يشهد مسيحيو العراق خلالها معاناة لأسباب دينية على الإطلاق، والقفز عليها مخلٌ بالحقيقة وغير مبرر على الإطلاق.
الثانية: أنها تلمّح إلى أن حقبة الرئيس صدام حسين لم تسمح بحرية حقيقية لأبناء العراق من أتباع الديانة المسيحية، وإنما كانت مجرد (تسوية مؤقتة modus vivendi).
والحقيقة التي يعرفها ملايين العراقيين ممن كانوا يعيشون في العراق في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن العشرين، وحتى سقوط أول صاروخ على العراق عند غزوه عام 2003، تؤكد أن حياة المسيحيين الطبيعية في العراق لم تكن (تسوية مؤقتة modus vivendi) كما يقول التقرير، وإنما كانت قضية راسخة يكفلها الدستور وترعاها الدولة ويحترمها كل العراقيين، لا لكونهم مسيحيين بل لأنهم جزء أصيل من شعب العراق قبل أي انتماء آخر، وهذا ما كان معمولاً به عبر كل الحقب ومهما تبدّلت الأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكم العراق منذ قيام دولته الوطنية الحديثة.
العهدة العمرية التي قدّمها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى “أهل إيلياء من النصارى” وأمَّنهم فيها على “أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم”، ما تزال شاهدة على سماحة الاسلام وعدل حكامه.
-
خلافاً لما هو شائع ولما تروّجه بعض الجهات المتطرفة في محاولة لفرضه على الجميع حول علاقة الاسلام كدين، والمسلمين تالياً، بالمسيحية كديانة وبالمسيحيين كأتباع لسيدنا المسيح، لابد من التأكيد على أن الاسلام يحترم كل الأديان السماوية ويؤمن بها جميعاً، وأن المسلمين يضعون أتباع كل الديانات محل احترامهم وتقديرهم، لا بل إن المؤمن، وهذه من أركان الإيمان التي لا تقبل تهاوناً وهي غير موجودة لدى دينٍ غير الإسلام، يعتقد أنه لا يمكن لإيمانه أن يكون صحيحاً وكاملاً ما لم يؤمن بكل ديانات الله وكتبه ورسله، إيماناً تاماً لا تفرقة فيه ولا شك.
وقصة رفض سيدنا عمر بن الخطاب الصلاة في كنيسة القيامة عند فتحه بيت المقدس عام 638 للميلاد معروفة، والعهدة العمرية التي قدّمها لـ “أهل إيلياء” وأمَّنهم فيها على “أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم“، ما تزال شاهدة على سماحة الاسلام وعدل حكامه.
-
قضية أخرى، إن ما أسمته الكاتبة “تاريخ من الاضطهاد والتمييز” يعني اختزال تاريخ بلاد الرافدين، بعراقتها المعروفة، ببضع سنوات سيطر فيها تنظيم داعش الارهابي على مساحات واسعة من البلاد، في جريمة تواطأ عليها حكام العراق الذين التقاهم البابا فرنسيس، وما تزال غير واضحة المعالم تماماً والكثير من ملابساتها طي الكتمان، وتعني، أيضاً، اختزال ذلك التاريخ العريق في عقدين بعد احتلال العراق، وتغفل عن عمدٍ تاريخاً طويلاً يمتد لأكثر من ألفي عام من العيش المشترك والتسامح التام والجيرة الحسنة بين أبناء العراق بكل طوائفهم ومللهم وأديانهم وأعراقهم. وتعمّد إغفال هذا التاريخ ليس قضية عابرة على الإطلاق ولا ينبغي أن تمرّر على الناس بهذا الشكل المبتسر.
-
وقد يبرر بعض القراء التقرير المنشور على موقع الفاتيكان هذا بأنه مجرد مقال رأي، وأن الموقع لا يتحمل المسؤولية عما ينشر فيه من مقالات.
وربما يكون كلام بعضهم عن أن الناشر لا يتحمل المسؤولية عن مضمون مقالات الكتاب الذين ينشر لهم، مفهوماً، مع أنه ليس صحيحاً في الحقيقة، أقول قد يكون مفهوماً لو كان الموقع شخصياً ولا يحمل هوية جهة ما، فكيف به وهو منشور في موقع أكبر جهة كنسية في العالم، ينتمي لها أكثر من مليار من البشر ويأخذون تعليماتهم وأفكارهم منها؟!
ومع ذلك سأناقش هذه القضية من جانبها المهني بقدرٍ مناسبٍ من التفصيل.
بدءاً، ومع مراعاة اختلاف القوانين من بلدٍ لآخر، لا توجد قاعدة قانونية تقول إن “الناشر لا يتحمل مسؤولية ما ينشره في الوسيلة الإعلامية التي يتولى نشرها“، ولكن جرى العرف غير الملزم، وأكرر عبارة “العرف غير الملزم”، في العقدين الأخيرين، ومع اتساع الصحافة الرقمية، على أن المواقع الصحفية الإلكترونية ذات الصفة الشخصية، وأكرر عبارة “ذات الصفة الشخصية”، تضع عبارة تقول “الكتّاب يتحملون مسؤولية ما يرد في مقالاتهم، والناشر غير مسؤول عن مضمونها” وذلك لتعزيز حرية النشر ولعدم الوقوع في مشاكل قانونية قد تتسبب بها بعض مقالات الرأي، ومع ذلك يبقى الناشر مسؤولاً قانونياً عن ما ينشره من أخبار وتقارير صحفية ومقالات تصدر عن الوسيلة الاعلامية الخاصة به، وقد عزّزت ذلك قوانين تنظيم النشر الإلكتروني ومكافحة الجرائم الرقمية وغيرها، وهذا لازم لضمان احترام الخصوصيات وغير ذلك، وإلا لأصبح الفضاء الإعلامي فوضى بكل معنى الكلمة، ولأتيح لكل شخص أن يهاجم ويتهم كما يشاء، فالحرية لا تعني الفوضى حتماً بل الالتزام والمسؤولية.
وأسأل: إذا كان صدر موقع الفاتيكان الرسمي رحباً هكذا وينشر أفكاراً لا يتبنّاها، هل يسمح بنشر ما يخالف العقيدة الكاثوليكية في موقعه؟ وفي أقل تقدير هل يسمح بنشر تفنيد موثّق لتقرير زنغاريني هذا؟!
في أيلول/ سبتمبر من العام 1993 كنت أعمل محرراً في القسم السياسي بمجلة ألف باء العراقية، وكتبت، في ذكرى العدوان الإيراني على العراق، مقالاً عن العلاقات مع إيران ذكرت فيه أن “بقاء مجموعة من الأسرى العراقيين قيد الاحتجاز في إيران واحد من معوقات تطبيع العلاقات بين البلدين”.
في نفس اليوم فوجئت بخبر على وكالة الصحافة الفرنسية مفاده أن “العراق يطالب إيران بإطلاق أسراه ويعتبر قضية عودة الأسرى من شروط تطبيع العلاقات بين بغداد وطهران”.
توجهت إلى مدير مكتب الوكالة في بغداد، الأستاذ فاروق شكري، وهو حي يرزق، وسألته: كيف تقول إن العراق هو من يطالب إيران بذلك ويعتبر أن إطلاق سراح الأسرى شرطاً لتطبيع العلاقات؟
وأكدت أن “هذا مقال رأي شخصي وليس موقفاً رسمياً، كما أنني بالتأكيد لست ناطقاً باسم العراق“.
فأجاب “نعم هو مقال رأي شخصي ونعم أنت لست ناطقاً رسمياً باسم العراق ولكن مجلة ألف باء هي مجلة العراق الرسمية، والنشر فيها يعني موقفاً رسمياً ولو لم يحصل على موافقة هيئة التحرير لما نشر في المجلة“.
كان هذا واحداً من الدروس الصحفية القيّمة التي تعلّمتها في حياتي المهنية.
وعليه، فإن موقع الفاتيكان الرسمي ليس مجالاً لنشر الأفكار الشخصية والقناعات الذاتية، بل هو تعبير عن موقف المؤسسة التي يصدر عنها.
نشر هذه الفكرة الخبيثة في هذا التوقيت، قبيل زيارة البابا فرنسيس إلى العراق، مهم جداً وبالغ الخطورة.
في الثامن من نيسان/ أبريل عام 1947 حكمت محكمة عراقية على رئيس تحرير صحيفة لواء الاستقلال، الناطقة بلسان حزب الاستقلال، المحامي قاسم حمودي، يرحمه الله تعالى، بالسجن لمدة عام كامل لأنه رفض الكشف عن اسم شاعر هاجم، في قصيدة باسم مستعار (صقر) نشرت في العدد 146 من الجريدة الصادر في 21 آذار/ مارس 1947، هاجم وجود تمثال الجنرال البريطاني ستانلي مود في الكرخ، وظنّت المحكمة أن المقصود تمثال الملك فيصل الأول. مع أن هيئة من كبار الأدباء والشعراء والنقاد، منهم الأساتذة مصطفى جواد ومحمد مهدي الجواهري ومحمد رضا الشبيبي وبشير الصقال وعلي الشرقي ومحمد بهجت الأثري، أكدت ان المقصود هو تمثال مود، ورغم ترافع هيئة دفاع من 70 محامياً، يقودهم الأساتذة فائق السامرائي وعبدالرزاق شبيب وحسن علي التكريتي وعبدالرزاق الظاهر، عن رئيس تحرير الصحيفة، إلا أن الحكم نفذ بالفعل وقضى تسعة أشهر في السجن وخرج بخصم ربع المدة لحسن سلوكه داخل السجن. بالمناسبة كان الشاعر هو الخبير الاقتصادي والدبلوماسي المعروف عبد الحسن زلزلة، يرحمه الله.
-
وللتوضيح والتأكيد، لا يوجد في موقع أخبار الفاتيكان الرسمي قسم للمقالات والآراء، بل إن أقسام الموقع محصورة بـ:
أ. أخبار البابا
ب. أخبار الفاتيكان
ج. مواقف الكنيسة
د. قضايا كنسية من العالم.
وهذا التقرير الذي أتحدث عنه منشور في قسم (مواقف الكنيسة) أي انه ليس مقال رأي ولا تعقيباً من قارئ ليمرَّ بلا اهتمام.
-
كثير منا يشارك في مجموعات تفاعلية على مواقع وبرامج التواصل الاجتماعي المختلفة، ولطالما طالب مسؤولو تلك المجموعات بحذف منشورٍ ما لأنه يتنافى وسياسة مجموعتهم، وحتى لا يسجَّل عليها ما يحمله هذا المنشور من أفكار تتعارض وخطها السياسي والفكري. فإذا كان هذا هو الحال في مجموعات تواصلية محدودة الانتشار والتأثير فكيف بموقع إخباري رسمي للكنيسة الكاثوليكية الأكبر في العالم؟!
-
أخيراً، أرى أن نشر هذه الفكرة الخبيثة في هذا التقرير وفي هذا التوقيت بالذات، قبيل زيارة البابا فرنسيس وبالتزامن معها، مهم جداً وبالغ الخطورة، حيث العالم المسيحي، بمئات الملايين، يتطلع لزيارته وسيتوجه كثيرون إلى موقع الفاتيكان للاطلاع على التفاصيل والتحضيرات، وهنا جاء تمرير هذه الفكرة الخبيثة التي تكذّبها كل وقائع التاريخ التي تؤكد المكانة العالية للمسيحيين في العراق منذ الفتح الإسلامي لهذا البلد وحتى غزوه واحتلاله.
ولعل جهة غيورة على الحقيقة تتصدى لهذا التزوير المتعمّد لحقائق التاريخ ولهذا التحريض المفضوح ضد الإسلام وضد المسلمين، وتنبري للمطالبة بتصحيح ما ورد في هذا التقرير من أباطيل، وإصدار اعتذار رسمي من قبل موقع أخبار الفاتيكان الرسمي، اعتذار للتاريخ أولاً ولأكثر من مليار ونصف مليار مسلم ثانياً، فمن يفعلها يا ترى؟