قوانين الأسرة بين إصرار الدولة وثبات المشيخة
رابطة علماء أهل السنةالزواج وبناء الأسرة، والحفاظ على العلاقة الشرعية وثمارها، والتحذير مما يهدد كيانها، من مقاصد الشريعة، وهي أمور منصوص عليها في الكليات الخمس التي أوجب الشارع حفظها، ووصف القرآن الكريم الزواج بالميثاق الغليظ في قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا. وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا}. (النساء: 21 – 22).
وفسر الإمام الطبري المقصود بالميثاق الغليظ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله”.
ونظرا إلى أن تماسك بنيان المجتمع المسلم يقوم على لبنات متراصة هي الأسر، التي ينتظم عقدها بالميثاق الغليظ وهو الزواج، فقد أصبحت هذه اللبنات في مرمى نيران كل من يسعى لتفكيك بنية المجتمع وبعثرة لبناته، وقطع حباله وأوصاله.
وبالنظر إلى الحقب العسكرية من بعد استيلاء الضباط “الأحرار” على الحكم في يوليو 1952، نجد العبث بنظام الأسرة وتغيير قانون الأحوال الشخصية مشهدا متكررا في النسخ العسكرية المتتالية، بما يؤكد أن ذلك أجندة ثابتة، خلْفَها سلطة عليا وجهات نافذة. فقد رأينا كيف ألغى جمال عبد الناصر المحاكم الشرعية، وفي عهد أنور السادات جاءت مشاركة المرأة، وتولت زوجته هذه المهمة فيما عرف إعلاميا بقوانين جيهان، وعلى السنّة نفسها سار حسني مبارك فظهرت تعديلات سوزان، وأصبحنا الآن على أبواب مرحلة جديدة مع حكومة “رشيدة” تريد أن تضع بصمتها وتنفذ تغييراتها في قوانين الأسرة!
واجب الدولة
وأبرز هذه التغييرات التي أثارت موجة سخط عام مع سخرية مرة على عادة المصريين في التعامل مع الكوارث، ما بشر به القانون من صندوق جديد يدفع فيه الراغب في الزواج مبلغا من المال لدعم الأسرة، وهو لم يكوّن أسرته بعد، وغالب ما اشتراه بالدَّين الموجع أو التقسيط المريح، في مخالفة للعقل والتاريخ، لأن من واجبات الدولة مساعدة الشباب على العفاف، وتذليل العقبات التي تؤخر إتمام الزواج، وأن تضع في خطتها ما يعين على ذلك من بناء المساكن وتوفير فرص العمل، أما إثقال كاهل الراغب في الزواج بدفع أموال لصناديق حكومية، وفرض رسوم إضافية، فستكون له نتيجة عكسية في العزوف عن الزواج الرسمي، وتوسيع دائرة الحرام.
جاء في كتاب الأموال للإمام أبي عبيد القاسم بن سلّام: وروى أبو عبيد بإسناده عن سهيل بن أبي صالح عن رجل من الأنصار، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق: أن أخرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبد الحميد: إني قد أخرجت للناس أعطياتهم وقد بقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن انظر كل من أدان في غير سفه ولا سرف فاقض عنه، قال: قد قضيت عنهم وبقي في بيت المال مال، فكتب إليه: أن زوّج كل شاب يريد الزواج، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت”.
وسئل الشيخ محمد بن عثيمين عن إعانة الراغب في الزواج من مال الزكاة فقال: “نعم يجوز أن نزوجه من الزكاة ويُعطى المهر كاملًا، فإن قيل: ما وجه كون تزويج الفقير من الزكاة جائزًا ولو كان الذي يعطى إياه كثيرًا؟ قلنا: لأن حاجة الإنسان إلى الزواج ملحة، وقد تكون في بعض الأحيان كحاجته إلى الأكل والشرب، ولذلك قال أهل العلم: إنه يجب على من تلزمه نفقة شخص أن يزوجه إن كان ماله يتسع لذلك، فيجب على الأب أن يزوج ابنه إذا احتاج الابن للزواج ولم يكن عنده ما يتزوج به”.
والذي يؤكد أن القرارات الأخيرة تدفع باتجاه عرقلة الزواج وتعسير خطواته، عرض الأمر على المحكمة وصدور تصريح من القاضي بإتمام العقد، ومعلوم حال القضاء المصري وتكدس القضايا وعدم البتّ فيها وتأجيلها لسنوات، مع إثقال كاهل القضاة بما ليس من اختصاصهم، وما سيدفعه الشاب من رسوم التقاضي والمرور على الصناديق القديمة، وكأن الدولة تحولت إلى مولد كبير، تعددت فيه صناديق النذور، بما يضمن رفاهية سدنة الضريح.
وإذا أصبح الصندوق كالصداق من ضرورات إتمام الزواج، فلابد من صندوق آخر للطلاق، وربما تشهد الأيام القادمة صناديق فرعية عن المراحل البينية التي تقع بين “القسيمتين” ليصبح الزواج شراكة أقانيم مثلثة، بين الأب والأم والحكومة المقدسة.
صحة وقوع الطلاق الشفهي
ولست أدري سببا للإصرار على التدخل الخشن في قضية الطلاق، وعدم اعتبار وقوع الطلاق الشفهي، وهي قضية علمية فقهية بحتة، دار سجال سابق حولها مع مشيخة الأزهر الشريف، التي كونت لجنة من شيوخ القضاء وأعلام الفقهاء، وأخرجوا دراسة فقهية في مجلدين كاملين عن صحة وقوع الطلاق الشفهي، وأنه حكم ثابت من عهد النبوة حتى الآن، وخرج بذلك بيان من هيئة كبار العلماء، لكنهم طرحوا الأمر من جديد، دون النظر في عواقبه الوخيمة شرعيا وأخلاقيا، لأن بقاء الزوجية “حكوميا” بعد تلفظ الزوج بالطلاق حتى يتم التوثيق القضائي، يجيز للزوج معاشرة زوجته وهي مطلقة شرعا، ولو مات الزوج ورثته ولا علاقة قرابة بينهما، وعاد الأزهر الشريف فأكد على موقفه الأول من مغبة الافتئات على المشرع وتبديل الحكم الشرعي، في بيان جاء فيه: “يؤكد الأزهر على الرأي الشرعي الثابت من وقوع الطلاق الشفوي المكتمل الشروط والأركان، والصادر من الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، وهو ما استقر عليه المسلمون منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يوم الناس هذا، ويجب على المطلق أن يبادِرَ في توثيق الطلاق فوْرَ وقوعه؛ حفاظًا على حقوق المطلقة وأبنائها”.
هل أوضاع مصر الحالية تؤهلها لهذا الترف القانوني، وتَحمُّل تبعات تغيير الثوابت والمحكمات، وتجدد الخصومة مع أهل الاختصاص ورموز المؤسسات؟
إصلاح منظومة التعليم وهيكل الصحة، وملف مياه النيل، وانهيار العملة أولى بالاهتمام، أما التضييق على الناس في الزواج والطلاق، فسيقودهم حتما إلى باب الخلع.