الجمعة 26 أبريل 2024 12:43 مـ 17 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    العقل بين التحرر والعبودية

    رابطة علماء أهل السنة

     

    25/2/2015 ميلادي - 16/5/1437 هجري

     

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد ..

    مع كثرة المدخلات والكم الهائل من المعلومات عبر الوسائل المسموعة والمرئية ومواقع التواصل الإجتماعي وغيرها كان لا بد من توفر آلية تمييز بين الغث والسمين أو بين الوقائع والأكاذيب هذا على أساس أن مصادر المدخلات متباينة المصداقية والإحترافية والشفافية بشكل واضح ، ولكن عندما نتحدث عن آلية التمييز فإننا نتحدث عن منهج فكري وعقل ناقد يحلل وينقد نقداً بنّاءً يُعرض عليه هذا المدخل فيقوم بمعالجته ..

    وضمن هذا السياق يأتي الحديث عن غسيل المخ وتغييب الوعي وخطورة الإعلام الموجّه وهو حديث نجده كثيراً في عدة مناسبات ، ولكن السؤال الذي يخطر ببالي: ماذا لو كان هذا الحديث حديثاً مؤدلجاً يخدم توجهاً بعينه ؟؟

    فمجرد الحديث عن غسيل المخ يمكن أن يعطي المتلقي شعوراً بالنباهة ورجاحة العقل ويعطي في نفس الوقت صاحب الحديث مصداقية عند المتلقي على أساس أن صاحب الحديث قدّم لكلامه بالتحذير من غسيل المخ وتغييب الوعي الأمر الذي يعني ان كل ما سيطرحه لاحقاً فوق الشبهات ولا جدال في صحته ..

    غالباً ما يكون تساؤل كهذا نوعاً من السفسطة عند الكثيرين ولكن قد يعيد هؤلاء النظر إذا تذكروا أن مجرد معرفة وجوب تحرر العقل وعمق الوعي ليست وحدها سبباً في حدوث الإنتاج المعرفي النافع وأنه إذا أردنا أن نُعمل عقولنا ونفكر وننقد فإن ما يقدّمه الداعي لهذا يجب أن يكون اول ما يجب محاكمته لهذه المعايير ، ولا تعجب إن قيل لك أن هناك من يطرح الكلام عن التفكير والنقد وإعمال العقل لإستقطاب الجمهور فهناك مثلاً من ظل يدندن كثيراً عن العقل والتفكير والوعي وعرض كل شيء .. كل شيء .. حتى العقيدة والإله على العقل ثم يسقط هذا الداعي نفسه عند المحك الحقيقي عندما إستفزه أحد المغردين عندما قال بأن شهادته الأكاديمية مزورة إذ وجدناه يستنكر ويخرج عن وقاره ويقول: لا يجوز التشكيك في كل شيء ..

    مثل هذه السقطات المدوية لا تجد التأمّل عند الكثير من الناس الذين تلقّوا خطاب غسيل المخ بل وهناك من يختلق الأعذار لهذا السقوط ولهذا لا تستغرب إن قلنا أن الكثير من خطابات التنوير والعقلانية هي في الحقيقة عمليات إستقطاب يجمع صاحبها من خلال إلقائه بأبدع الأسلوب والخطابة مع إمتلاك (الكاريزما) اللازمة لتحقيق المطلوب ، كما أن هناك أيضاً من نحسب فيه الصدق والإخلاص في رسالته التوعوية من خلال المادة التي توجد فيها العديد من الفوائد ووجود الفوائد لا يعني إنتفاء وقوع الأخطاء والتي قد تصل أحياناً لمستويات بعيدة والوقوع في العديد من المغالطات ..

    الأمثلة كثيرة وهذه المساحة ليست لحصرها وإنما للتنبيه على امر هام وهو تبيان الحد الذي يفصل بين النظرية والتطبيق ، فمعرفة المباينة بين مساحة التشريع والقانون ومساحة الممارسة وتفعيل المواد على الأرض أمر هام جداً يتسنّى من خلاله فهم الكثير من الأمور التي يقع فيها الخلط وسوء الفهم ، فعند عَقْد هذا الفصل نفهم المسألة المعروفة عند العلماء بـ(الحكم على المعيّن) فوجود الحكم النظري على فعل ما لا يعني بالضرورة إسقاط الحكم مباشرة على ما نرى منه الفعل ففي التطبيق على الواقع تبرز مسألة إستيفاء الشروط وإنتفاء الموانع وهذه تحتوي العديد من التفاصيل وتختلف بإختلاف الحالات والحيثيات المصاحبة ، ولو فهمنا ذلك لعلمنا مدى الغلط الذي يقع فيه الكثير من الناس في المعتركات الحوارية في مواقع التواصل الإجتماعي وغيرها من سائر المنتديات الذين يخلطون بين الحكم العام والتخصيص ..

    لقد عرّجتُ على مسألة الحكم على المعين هذه لأنها (برأيي) أهم منفذ يمكن أن نفهم من خلاله قضية التفريق بين النظرية والتطبيق ، كما ان من خلالها يمكن إعادة صياغة الكثير من المعايير التي نعود إليها عند إصدار حكم على الناس أو حتى تصور بخصوص مسألة او امر ما حتى في معاملاتنا اليومية ناهيك عن القضايا الكبرى ، كما ستعطينا أيضاً طريقاً أقرب لتحرر العقل الحقيقي من أي قيود تعطل حركة الفكر والنقد البنّاء ..

    للأسف فالكثير من نتاج خطب الوعي والعقلانية ليس سوى تقديم لفروض الولاء والطاعة والإنصياع الأعمى الأمر الذي يدل على غياب المنهج العلمي الصحيح الذي يجب إتباعه ، بل قبل ذلك يجب أن تكون دعوة الوعي والعقلانية دعوة تحرر وإستقلال فكر وتكوين عقل ناقد لا يعرف إلا الحق ولا يسعى إلا إليه ولا يطلب إلا إياه ، فحتى مخالفة صاحب خطاب الوعي والعقلانية لما دعا إليه ليست المشكلة الأساسية لأن الخطأ أمر وارد الحدوث وإنما المشكلة الأساسية هي في جعل خطابه جسراً يتم به تبرير الأخطاء والمخالفات التي تقع منه سواءً في الكليات أو الجزئيات وهذا هو صريح الإنصياع والخضوع وتسليم العقول ..

    القيود التي يجب كسرها والتحرر منها هي الولاءات للكاريزما والجاذبية وسحر البيان وبلاغته طلباً للحق والحق فقط ، ومع وجود الصدق والإخلاص في هذا المسعى فالله يهدي المجاهدين في سبيله لطرق الحق ومسالكه .

    مقالات