السبت 18 مايو 2024 04:11 مـ 10 ذو القعدة 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    القلب بين الموت والحياة

    رابطة علماء أهل السنة

    القلب: هو محل نظر الرب تبارك وتعالى، ولهذا جاء في الحديث: «إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم» (1).
    جعل الله مدار السعادة أو الشقاوة على القلب، فإذا ملئ القلب إيماناً وتصديقاً وفقهاً وإدراكاً لمراد الله ومراد رسوله كان ذلك دليل الصحة والسلامة، وصاحبه ناجٍ في الدنيا من الفتن والشبهات والشهوات، وسالم ناجٍ يوم القيامة {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89].
    تعد القلب
    وهذا القلب إذا لم يتعهده صاحبه بذكر الله تعالى ومراقبته، ودوام الخشية منه، فإن الشهوات سرعان ما تتسرب إليه، وتبدأ بوادر المرض تغزوه بواسطة المعاصي والذنوب والمخالفات فيمرض القلب وقد يموت والعياذ بالله، فإذا لم يتدارك العبد هذا المرض، واستمر على العصيان، فإن القلب يصاب بعدد من العقوبات حيث يقسو ويشتد ويغلف ويطمس ويقفل ويطبع عليه ويزيغ عن الحق، وعندها تكون حالة موت القلب التي هي أسوأ الحالات؛ لأنها تنقل صاحبها من الإيمان إلى الكفر وتجعله في مرتبة هي أحطَّ من البهائم كما قال تعالى عن هؤلاء: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
    ومما يصاب به القلب من العقوبات العمى الذي يصاب به، فلا يكاد صاحبه يرى شيئاً من الحق؛ ولهذا وصف الله قلوب الكفار بالعمى فقال: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46], فالعمى الحقيقي ليس عمى البصر وإنما هو عمى القلب والبصيرة؛ لأن أعمى البصر يستطيع السير في الطريق بالاستعانة بعصا أو دليل، أما أعمى القلب فلا دليل يرشده، فهو يتخبط في كل اتجاه ويقع في كل هاوية ويصطدم بكل شيء فهو في زيغ دائم، وقلبه مقفل مختوم.

    خطورة مرض القلب
    أيها المؤمنون! إن مرض القلوب أكبر بكثير من مرض الأبدان، ولكن الناس لا يحسون بأمراضهم ولا يشعرون، فمريض القلب بالشهوة أو الشبهة لا يدري أنه مريض، ثم إن عاقبة مرض القلوب غير مشاهدة لكثير من الناس والإحساس بالألم هذا المرض قليل بخلاف مرض البدن وأيضاً عدم وجود أو ندرة أطباء القلوب، وأطباء القلوب هم العلماء الربانيون العاملون بعلمهم وراثو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فما أقل هؤلاء وما أندرهم.
    ولخطورة مرض القلب نجد الآيات القرآنية تحذر منه غاية التحذير وتنذر مرضى القلوب بالعذاب الشديد، ويبين الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه بدايات المرض وحذر من مغبته في أحاديث كثيرة منها ما رواه الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن العبد إذا اخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، فإن عاد زيد فيها، حتى تعلو قلبه، وهو الران الذي ذكر الله في كتابه: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]» (2).
    وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: "إن الرجل ليذنب الذنب فينكت في قلبه نكتة سوداء، ثم يذنب الذنب فينكت فيه نكتة أخرى، حتى يصير لون قلبه لون الشاة الربداء يعني السوداء".
    وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "القلب بمنزلة الكف، فإذا أذنب تقبض.. حتى يجتمع، فإذا اجتمع طبع عليه، فإذا سمع خيراً دخل في أذنيه حتى يأتي القلب فلا يجد منه مدخلاً فيخرج، فذلك قوله عز وجل: {كَلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]".
    فهذه الأحاديث تبين بأن كثرة المعاصي وعدم المبالاة بها تجعل القلب يصد أو يسود ويعلوه الران حتى يكون عليه حجاب كثيف يحجب عنه أنوار الهداية والإيمان شيئاً فشيئاً حتى يتبلد ويموت.
    والقلوب لا يدعها الله تعالى حتى يبتليها ويفتنها بالفتن الكثيرة حتى تظهر حقيقتها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصف وصفاً دقيقاً الفتن التي تتوارد على القلب وبين التأثير البالغ الذي تحدثه فتن الأهواء والشهوات كما جاء في صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله عليه وآله وسلم يقول: «تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه»(3)، فالقلب المفتون هو المجخي المائل المنكوس الذي خرج منه كل خير وإيمان، كالكأس إذا انتكس وسكب ما بداخله صار فارغاً إلا من الهواء. وصاحب هذا القلب هو شر الناس وأخبثهم فإنه يعتقد الباطل حقاً والحق باطلاً، لا يوجد بقلبه سوى الهوى والضلال.
     
    أحوال القلوب
    ويشرح حذيفة رضي الله عنه أحوال القلوب بحسب صحتها ومرضها وحياتها وموتها فقال: القلوب أربعة: قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر، وقلب أغلف مربوط عليه غلافه، وقلب منكوس وقلب مصفح. فأما القلب الأغلف فقلب الكافر.
    وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر.
    وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق، مثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والدم، فأي المادتين غلبت على الأخرى غلبت عليه.
     
    فالقلب السليم هو قلب المؤمن المستضيء بنور إيمانه المتجرد في إخلاصه لربه، وأما الفاسق فقد اختلط في قلبه الماء مع القيح المؤذي، فأي المادتين غلبت أحالت القلب إليها، والظاهر أنه يقصد بالقلب المصفح الذي فيه إيمان ونفاق أنه الرياء ونحو ذلك من نفاق الأعمال وليس النفاق الاعتقادي الذي يكون أصحابه في الدرك الأسفل من النار.
    فالقلب إذاً يمرض كما يمرض البدن وشفاؤه في التوبة والحمية من الوقوع في المعاصي والآثام، والقلب يصدأ كما تصدأ المرآة وجلاؤه بالذكر. .
    والقلب يعرى كما يعرى الجسم وزينته ولباسه التقوى والقلب يجوع ويظمأ كما يجوع البدن، وطعامه وغذاؤه وشرابه هو في معرفة الله تعالى وحبه والتوكل عليه والإنابة له سبحانه ودوام طاعته وعبادته.
    فعلى المؤمن أن يضرع إلى الله ويلجأ إليه ويلح في الدعاء بأن يثبت الله قلبه على الإيمان، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكثر من الدعاء ويقول في دعائه «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقال أنس: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» (4).
    وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول: «إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه كيف يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك» (5). وإذا كان رسول الله صلى عليه وآله وسلم يدعو الله بهذا الدعاء فكيف بنا نحن، المقصرون في حق الله المسرفون على أنفسنا. إن علينا جميعاً أن نهتف ضارعين من سويداء قلوبنا سيما في الأسحار وفي السجود قائلين: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران:8] من علامات صحة القلب وسلامته: نفرته من المعاصي وكرهه للذنوب صغيرها وكبيرها، ومن علامات المعصية: تهاونه واستخفافه بها واقتحام المحقرات من الذنوب كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن وادٍ، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود حتى جمعوا ما أنضجوا خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه» (6).
    أسباب غفلة القلب
    ولقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتخوفون من الذنوب، ويستعظمون الوقوع فيها حتى أن أنس بن مالك رضي الله عنه وهو من المعمَّرين من الصحابة كان يقول للتابعين: "إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر إن كنا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات".
    وقال بعض السلف في التحذير من الوقوع في المحقرات: "لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من عصيت" وقال: "كفى كفى به ذنباً أن الله يزهدنا في الدنيا، ونحن نرغب فيها".
    أيها المؤمنون! إن من أسباب غفلة القلب وانحرافه انصراف العبد عن مواطن العبادات وأماكن الطاعات التي أمر الله بعمارتها، وجعل عمارها أهل الإيمان والتقوى وامتدحهم الله بقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [التوبة:18] وقال: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:36-37] فالمحافظة على الصلوات جماعة في المساجد، والحرص على إقامة الجمع هو من الإيمان ودليل سلامة القلب وطهارته. والابتعاد عن المساجد وترك الصلوات بها وترك الجمع دليل الغفلة والشؤم والطبع على القلب كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في التحذير من التخلف عن الجمعة والجماعات كما جاء في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين..» (7).
    وفي سنن الترمذي وأبي داود عن أبي الجعد الضمري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من ترك الجمعة ثلاث مرات تهاوناً بها طبع الله على قلبه»(8) فاحذروا رحمكم الله من التهاون في فرائض الله، وابتعدوا عن محاربة الله فلا تقربوها، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.
     
    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1)  أخرجه مسلم في صحيحه (4/1986), برقم: (2564), وأحمد في المسند (2/284), برقم:(7814), وابن حبان في صحيحه (2/119), برقم: (394).
    (2) أخرجه  الترمذي في سننه (5/434), برقم: (3334), وابن ماجة في سننه (2/1418), برقم: (4244), والحاكم في المستدرك (1/45), برقم:(6), وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3/122), برقم: (3141), وفي صحيح الترمذي (3/127), برقم: (2654).
    (3) أخرجه  مسلم في صحيحه (1/128), برقم: (144), وأحمد في المسند (5/386), برقم: (23328).
    (4) أخرجه الترمذي في سننه (4/448), برقم: (2140), وأحمد في المسند (3/257), برقم:(13721), والحاكم في المستدرك (2/317), برقم: (3140), والبخاري في الأدب المفرد (1/237), برقم: (683), وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/894), برقم: (8932), وفي صحيح الترمذي (3/171), برقم: (2792).
    (5) أخرجه مسلم في صحيحه (4/2045), برقم: (2654), وأحمد في المسند (2/168), برقم: (6569), والنسائي في السنن الكبرى (4/414), برقم: (7739), وصححه الألباني في السلسة الصحيحة (4/261), برقم: (1689).
    (6) أخرجه أحمد في المسند (1/401), برقم: (3818), والطبراني في المعجم الكبير (6/165), برقم: (5872), والبيهقي (5/456), برقم: (7267), وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (1/446), برقم: (4451), وفي صحيح الترغيب والترهيب (2/324), برقم: (2471), وفي السلسة الصحيحة (1/744), برقم: (389).
    (7) أخرجه مسلم في صحيحه (2/591), برقم: (865), والنسائي في سننه (3/88), برقم: (1370), وأحمد في المسند (1/239), برقم: (2132).
    (8) أخرجه مالك في الموطأ (1/111), برقم: (246), والترمذي في السنن (2/373), برقم: (500), وابن ماجة في السنن (1/357), برقم: (1125), وأحمد في المسند (5/300), برقم: (22611), وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1/178), برقم: (728),