سيد قطب .. التجديد والإحياء
رابطة علماء أهل السنةبسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل يوجد في أمتنا الإسلامية في العصر الحديث مثلُه؟ هل يوجد مثلُه في سمو عقله ونضوج فكره ووضوح وسلامة رؤيته؟ هل نجد له شبيها في عمق الفهم ورقيّ الأسلوب معًا؟ من ذا الذي يدانيه فضلا عن أن يساميه أو يساويه في حلاوة العبارة وطلاوة الأسلوب وجمال العرض ودقة السبك؟ كيف يستطيع إنسان من لحم ودم مثلنا أن يؤول كله بلحمه وشحمه، بروحه وجسده، بشبابه وهرمه، أن يؤول إلى فكرة تحيا يوم أن يموت، وتنمو وتترع يوم أن يذبل كيانه ويبلى جثمانه؟ ما أحوجنا في هذا الزمان إلى عبقريّ يفري فريّة، أو إلى فذٍّ يحي الأمة بتراثه الفريد! كم نحن بحاجة إلى التجديد والإحياء على طريقة سيد قطب!
إنّ سيد قطب ليس واحدا من هؤلاء الذين أحسنوا وأجادوا؛ فقيل لهم لا تثريب عليكم فيما أخطأتم به؛ فإنّ سيئاتِكم مغمورةٌ في بحر حسناتكم، وإنّ مضارَّكم مطمورةٌ تحت جبال منافعكم، وإنّما هو – على الرغم من كونه بشرًا يخطئ ويصيب ويؤخذ منه ويرد عليه – لا يقال له مثل هذا؟ ولا يوضع في موضع المتهم الذي يقوم مثلي مخاصما فيه ومجادلا عنه، ما هكذا تتعامل أمّة الإسلام مع مجدد عظيم مثله في زمان مثل زماننا؛ هي أحوج ما تكون إلى رشده الذي ضلت عنه، وطريقته القويمة التي زلت عنها.
إنّ التركة التي خلفها لنا الشهيد سيد قطب رحمه الله طاقةُ إحياء وبعث، فأجدر بنا بدلا من توجيه سهام النقد إليها أن ننطلق بها ومنها؛ لبناء رؤيتنا ووضع مشروعنا الكبير للتغيير والتمكين، فمن الظلال ننفذ إلى ما في القرآن الكريم من هدايات وبينات، ومن المعالم نتخذ المنارات الكبرى على الطريق، ومن خصائص التصور الإسلامي ندرك بعمق عظمة هذا الدين، ومن التصوير الفني نحاول أن ننفتح على جمال القرآن وروعة إعجازه، ومن المستقبل لهذا الدين نستمد الأمل المدعوم بالبراهين.
لم ننظر إلى هذه القمة الشامخة نظرة التواق إلى المعالي المشتاق إلى الرقيّ والصعود، وبدلا من الاستفادة والاستزادة رحنا نمارس التقييم والتقويم، وليتنا إذْ اجترأنا على صعود هذا المرتقى الصعب وحاولنا بهذا التطاول أن نطاول طودا شامخا كهذا، ليتنا إذ فعلنا ذلك انطلقنا من منهجية علمية سالمة ومتجردة، ولكنّنا ويا – للأسى والحزن – افتقدنا ذلك كله، وافتقدنا كذلك المؤهلات والمقومات؛ فأتينا بالمضحكات المبكيات، أَسَيّدٌ من يقال فيه هذا يا أبناء الحركة الإسلامية؟!
أَسَيّدٌ من يقال عنه إنّه كَفَّر المجتمع؟! ثم يُعتذر عنه باعتذارات أقسى من الاتهمات نفسها، فيقال إنّ الرجل تعرض لما لم يتعرض له أحدٌ في مثل سنه وظروفه الصحية؛ فانعكس هذا على طرحه! أسيدٌ من يحمل هذه النفسية الضئيلة التي يحركها رد الفعل الآنيّ؟! أليس من يغوص في كتبه يجد نفسه تبحر في أقطار نفس الكاتب؛ فيتجلى له من مكامن العظمة ما يستحيل معه تصور مريض كهذا الذي لا يرد إلا في أدمغة القاعدين الذين يُنَظِّرون في الغرف المكيفة وهم يخفون خورهم خلف عبارات كالدخان؟!
ألم يكن جديرا بهم قبل أن يُحَمِّلوا كلامه ما لا يحتمله من المعاني المضادة لاتجاهه العام في التفكير أن يقرأوا ولو بعض المؤلفات الصغيرة في البلاغة؛ ليعرفوا كيف يُفهم كلام كتب بلغة الأدب وليس بلغة الفقهه والقانون والأحكام؟! ألم يتعلموا أن يردوا كلام الأستاذ بعضه إلى بعض؛ ليتجلى لهم هناك ما اعتاص على فهمهم هنا؟ لماذا لم يفهموا بسرعة وتلقائية أنّهم إنّما يفكرون بعقلية الأسرى وهو يفكر بعقل حر طليق؟ وأنّهم يحيون تحت سقف النظام العالميّ وداخل صندوقه يعتاشون على ما يلقيه إليهم من فتات الأفكار “المضروبة” بينما هو يخرق السقف ويثقب الجدار؟!
ينكرون عليه أنّه عَبّر عن الواقع البشريّ اليوم بالجاهلية؛ فلْيَكُونوا – إذن – على مستوى المسئولية العلمية والشرعية ولْيقولوا لنا ما هو التوصيف الصحيح لهذا الواقع؟ لَمْ يقل لنا الأستاذ سيد قطب إنّ هذا الوصف يلزم منه أن يكون كل الأفراد الذين يعيشون تحت مظلة هذا الواقع كفارًا، وبدون أن يكلف نفسه القول فإنّه من المعلوم أنّ وصف الجاهلية لا يلزم منه بالضرورة ذلك؛ فلا قيمة إذن لوساوس الشكاك؛ فليفرغوا للإجابة على هذا السؤال: إذا كنتم تعترضون على وصف الواقع البشريّ اليوم بالجاهلية فبم تصفونه؟ أهو إسلام؟ أم شيء بين الجاهلية والإسلام لا نعرفه؟ وهل يلزم من وجود مسلمين يشكلون أغلبية في بلاد المسلمين وأقلية في غيرها لنفي وصف الجاهلية عن المجتمع البشريّ اليوم؟! وهل تستطيعون بما أوتيتم من قدرات كلامية أن تميزوا بين دار الإسلام ودار الكفر في هذا الزمان؟ أليس الواقع الآن يستعصي على التكييف ويتأبّى على التصنيف، أليست الأرض كلها اليوم دارا واحدة يحكمها نظام عالميّ واحد، يعيش تحت مظلته غير الإسلامية المسلمون والكفار، فلا حكم لشريعة الله ولا إقامة لحدوده؟! أليست الفتنة هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في الأرض كلها؟! تعيش وتنمو وتتحرك تحت مظلة الطاغوت الذي لم يشهد الكوكب الأرضيّ أعتى منه؟!
وتحت وقع الإرهاب الفكريّ ينسحق الصغار؛ فبدلا من أن يحملوا النظام العالميّ المجرم وما يدور في فلكه من أنظمة أشد إجراما مسئولية نشوء التطرف ونموه كالسرطان في جسد الأمة، ينثنون إلى تراث سيد قطب، ويتهمونه بأنّه هو السبب في ميلاد العنف والتطرف، وهذا – لعمري – خَرَفٌ ما بعده خرف! فهل نسي هؤلاء المنهزمون عقليا ونفسيا أنّ الخوارج الأجلاف اعتمدوا في كل ما أتوا به من الفظائع على نصوص قرآنية، كقول الله تعالى: (إن الحكم إلا لله)؟ فهل يُتَّهم القرآن لهذا بأنّه يؤصل للتطرف والإرهاب ويؤسس للتكفير والتفجير؟! إنّ زيغ الزائغين في فهمهم وتأويلهم للخطاب لا يأتي على أصل الخطاب بالتنقيص أو العيب، إنّما العيب فيمن فهم الفهم الخاطئ، وفيمن شايعه عليه.
ولا يعيبني أن أتهم من اتهموا سيد قطب بهذه التهم الخرقاء التي منها تهمة التكفير مع تهم أخرى غاية في البعد والسفه كتهمة القول بالحلول ووحدة الوجود، لا يعيبني أن أتهمهم بقصر النظر وسوء الفهم وضحالة الفكر وضآلة النفس وانحطاط الهمّة؛ لا يعيبني لأنّهم كذلك حقًا، ولأنّهم لا يمكن أن يرتقوا إلى القمة التي تسنمها سيد قطب؛ لأنّهم أسرى، وهو حر طليق، وهكذا كلماته حرة طليقة محلقة لا تعرف سقفا ولا سجنا، بينما هم يصولون ويجولون في المساحات الآمنة، و”بالكاد” يمسكون أنفسهم.
إنّ تراث سيد قطب تجديد وإحياء وبعث، إنّه ينادينا ويهتف بنا، فلننطلق به إلى آفاق المجد والعزّ والتمكين، ولنتخذ من صاحب هذا التراث قدوة وأسوة في البذل والتضحية والفداء، ولننتفع به في تجديد فهمنا للإسلام ودوره في الحياة، وللشريعة وحاكميتها وسلطانها، وللأمة الإسلامية ووظيفتها، بل في تجديد الفهم لحقيقة الألوهية والربوبية، وما يترتب عليهما في واقع الناس، إنّ سيد قطب بشر يخطئ ويصيب، ليس نبيا ولا رسولا، وإنما هو كسائر من اجتهد في هذا الدين يؤخذ من قوله ويرد، لكنّه مع ذلك إمام مجدد وقدوة تحتذى، وليس بالذي يحاكم فكره ويوضع في قفص الاتهام؛ إذْ إنّ المحاكمة والاتهام بهذا السياق يحول دون الاستفادة والاستزادة منه؛ وذلك هو المقصود من أعداء الحق جميعًا.