الأربعاء 24 أبريل 2024 09:45 صـ 15 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    خطب ودروس

    تعريف الكبيرة وعلاماتها

    رابطة علماء أهل السنة

     

    اختلف أهل العلم في تعريف الكبيرة على أقوال، والقولُ المختارُ والراجحُ عندي - والله أعلم - وعليه أكثرُ العلماء هو أن الكبيرة هي: "ما كان فِيهِ حد فِي الدُّنْيَا، أَو جَاءَ فِيهِ وَعِيد فِي الْآخِرَة؛ بالعَذَاب، أَو الغضب، أَو كان فيه تهديدٌ، أَو لعنٌ لفَاعلِه".

     

    عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَى أَدْرَكَهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَى الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَى اللِّسَانِ الْمَنْطِقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ" [1].

     

    وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "اللَّمَمُ: مَا دُونَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ" [2].

     

    وعن ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: زِنَى الْعَيْنَيْنِ: النَّظَرُ، وَزِنَى الشَّفَتَيْنِ: التَّقْبِيلُ، وَزِنَى الْيَدَيْنِ: الْبَطْشُ، وَزِنَى الرِّجْلَيْنِ: الْمَشْي، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ أَوْ يُكَذِّبُهُ، فَإِنْ تَقَدَّمَ بِفَرْجِهِ كَانَ زَانِيًا، وَإِلَّا فَهُوَ اللَّمَمُ [3].

     

    وعَنْ قَتَادَةَ رحمه الله قال: اللَّمَمُ: مَا كَانَ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الدُّنْيَا وَلَا حَدَّ الْآخِرَةِ، مُوجِبَةٌ قَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لِأَهْلِهَا النَّارَ، أَوْ فَاحِشَةٌ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا" [4].

     

    قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْكَبِيرَةُ: مَا أَوْجَبَ الْحَدَّ أَوْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ الْوَعِيدُ.

    وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: تحرير القول في الكبائر أنها كل معصية يوجد فيها حد في الدنيا، أو توعد بنار في الآخرة، أو لعنة.

     

    وقَالَ العز بن عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله: وَقَدْ ضَبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكَبَائِرَ بِأَنَّ كُلَّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ.

     

    قال القرطبي أبو عبد الله المفسر رحمه الله: كُلُّ ذَنْبٍ عَظَّمَ الشَّرْعُ التوعد عليه بِالْعِقَابِ وَشَدَّدَهُ، أَوْ عَظُمَ ضَرَرُهُ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ وَمَا عَدَاهُ صَغِيرَةٌ.

     

    وقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أبو العباس شارح مسلم رحمه الله: والصحيحُ إنْ شاء الله تعالى: أنَّ كلَّ ذنب أطلَقَ الشرعُ عليه أنَّهُ كبيرٌ، أو عظيمٌ، أو أخبَرَ بشدَّةِ العقابِ عليه، أو علَّق عليه حَدًّا، أو شَدَّدَ النكيرَ عليه وغلَّظه، وشَهِدَ بذلك كتابُ اللهِ أو سنةٌ أو إجماعٌ فهو كبيرة.

     

    وقد استحسن ابن حجر العسقلاني هذا التعريف فقال: وَمِنْ أَحْسَنِ التَّعَارِيفِ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ... ثم قال: وَعَلَى هَذَا فَيَنْبَغِي تَتَبُّعُ مَا وَرَدَ فِيهِ الْوَعِيدُ أَوِ اللَّعْنُ أَوِ الْفِسْقُ مِنَ الْقُرْآنِ أَوِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَالْحَسَنَةِ، وَيُضَمُّ إِلَى مَا وَرَدَ فِيهِ التَّنْصِيصُ فِي الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ وَالْحِسَانِ عَلَى أَنَّهُ كَبِيرَةٌ، فَمَهْمَا بَلَغَ مَجْمُوعُ ذَلِكَ عرف مِنْهُ تَحْرِير عَددهَا.

     

    وقال النووي رحمه الله: وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: كُلُّ ذَنْبٍ كَبُرَ وَعَظُمُ عِظَمًا يَصِحُّ مَعَهُ أَنْ يُطْلَقَ عليه اسم الكبيرة وَوُصِفَ بِكَوْنِهِ عَظِيمًا عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالَ: فَهَذَا حَدُّ الْكَبِيرَةِ، ثُمَّ لَهَا أَمَارَاتٌ: مِنْهَا: إِيجَابُ الحد، ومنها: الإيعاد عَلَيْهَا بِالْعَذَابِ بِالنَّارِ، وَنَحْوِهَا فِي الْكِتَابِ أَوِ السُّنَّةِ، وَمِنْهَا: وَصْفُ فَاعِلِهَا بِالْفِسْقِ نَصًّا، وَمِنْهَا: اللَّعْنُ.

     

    وقال النووي: في حد الكبيرة أوجه أحدها: أنها المعصية الموجبة لحد، والثاني: أنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهم إلى ترجيح الاول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر.

     

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أَمْثَلُ الْأَقْوَالِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْقَوْلُ الْمَأْثُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَحْمَد بْنُ حَنْبَلٍ، وَغَيْرُهُمَا؛ وَهُوَ: أَنَّ الصَّغِيرَةَ مَا دُونُ الْحَدَّيْنِ: حَدُّ الدُّنْيَا وَحَدُّ الْآخِرَةِ. وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: كُلُّ ذَنْبٍ خُتِمَ بِلَعْنَةِ أَوْ غَضَبٍ أَوْ نَارٍ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ. وَمَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ: وَلَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ.

     

    وقال: وكُلُّ ذَنْبٍ تُوُعِّدَ صَاحِبُهُ بِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَا يَشُمُّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَقِيلَ فِيهِ: مَنْ فَعَلَهُ فَلَيْسَ مِنَّا، وَأَنَّ صَاحِبَهُ آثِمٌ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الْكَبَائِرِ.

     

    وقال: الْكَبَائِرُ هِيَ: مَا فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ كَالزِّنَا، وَكَالذُّنُوبِ الَّتِي فِيهَا حُدُودٌ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ الْوَعِيدُ الْخَاصُّ؛ مِثْلُ الذَّنْبِ الَّذِي فِيهِ غَضَبُ اللَّهِ، وَلَعْنَتُهُ، أَوْ جَهَنَّمُ، وَمَنْعُ الْجَنَّةِ. هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَة، وَأَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ.

     

    وقال الذهبي رحمه الله: وَالَّذِي يتَّجه وَيقوم عَلَيْهِ الدَّلِيل أَن من ارْتكب شَيْئا من هَذِه العظائم مِمَّا فِيهِ حد فِي الدُّنْيَا؛ كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَة، أَو جَاءَ فِيهِ وَعِيد فِي الْآخِرَة؛ من عَذَاب، أَو غضب، أَو تهديد، أَو لعن فَاعله على لِسَان نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَبِيرَة.

     

    وقال ابن أبي العز رحمه الله: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الصَّغِيرَةُ مَا لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَلَا وَعِيدٌ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَعِيدِ: الْوَعِيدُ الْخَاصُّ بِالنَّارِ أَوِ اللَّعْنَةُ أَوِ الْغَضَبُ، فَإِنَّ الْوَعِيدَ الْخَاصَّ فِي الْآخِرَةِ كَالْعُقُوبَةِ الْخَاصَّةِ فِي الدُّنْيَا، أَعْنِي الْمَقْدِرَةَ، فَالتَّعْزِيرُ فِي الدُّنْيَا نَظِيرُ الْوَعِيدِ بِغَيْرِ النَّارِ أَوِ اللَّعْنَةِ أَوِ الْغَضَبِ. وَهَذَا الضَّابِطُ يَسْلَمُ مِنَ الْقَوَادِحِ الْوَارِدَةِ عَلَى غَيْرِهِ [5].

     

    وقيل أقوال أخرى، فالله أعلم [6].

     

    علامات الكبيرة

    فتلخَّص لنا من ذلك أنَّ من علامات الكبيرة:

    1- أن يصف الله الذنب بأنه كبيرٌ، أو يذكره نبيُّه صلى الله عليه وسلم في الكبائر:

    وهذا كقول الله تعالى: ﴿ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا ﴾ [النساء: 2]، وقولِه صلى الله عليه وسلم: "الكَبَائِرُ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَاليَمِينُ الغَمُوسُ"، ونحو هذا.

     

    وهلْ ما ذكرَه بعضُ الصِّحابةِ رضي الله عنهم في الكبائرِ له حكْمُ الرَّفْعِ؟

    الظاهر لي - والله أعلم - أنَّ قول الصحابي أنَّ كذا في الكبائر ليس له حكم الرفع، وإنما هو اجتهادٌ منه.

     

    2- أنْ يوصَفَ الذنب بأنَّه من الموبقاتِ:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ".. والموبقاتِ: المهلكاتِ. قال القرطبي رحمه الله [7]: سمَّى هذه الكبائرَ مُوبِقَاتٍ؛ لأنَّها تُهْلِكُ فَاعِلَهَا في الدنيا بما يترتَّب عليها من العقوبات، وفي الآخرة مِنَ العذاب.

     

    3- أنْ يوصف الذنب بأنَّه من أعظمِ الذنوبِ:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم لما سئل: "أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ"..

     

    4- أن يُوصَفَ الذنبُ بأنَّه ظلمٌ عظيمٌ.

    وهذا كقولِ الله تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

     

    5- ما قيلَ فيه أنَّ الله يغضَبُ على فاعلِه:

    وهذا كقولِ الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ﴾ [النساء: 93]، ونحوه. وغضب الله على من فعلَ ذنبًا من أشدِّ التهديدِ والزَّجرِ، وهو علامةٌ ظاهرةٌ على أنَّ هذا الذنبَ عظيمٌ وكبيرٌ، وقد أنَّ أكثر أهل العلم يقولون في تعريف الكبيرةِ: كل ذنب ختمه الله بغضبٍ على فاعلِه.

     

    قال العلماء: غضب الله تعالى من صفات الأفعال لله عزّ وجلّ حقيقةً على ما يليق بجلاله، والمراد بغضب الله تعالى ما يظهر من انتقامِه سبحانه لمن عصاه، وإعراضه عنه، ومعاقبته له، وعقابه وخذلانه له [8].

     

    6- ما قيل فيه أنَّ الله يسخَطُ على فاعلِه:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "يُوشِكُ إِنْ طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَنْ تَرَى قَوْمًا فِي أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ، يَغْدُونَ فِي غَضَبِ اللَّهِ وَيَرُوحُونَ فِي سَخَطِ اللَّهِ"، ونحو ذلك. وسخط الله تعالى على عبدٍ في ذنبٍ دالٌّ على عِظَمِ هذا الذَّنبِ، وأنَّه من كبائرِ الذنوب، والله أعلم. قال العلماء: سخط الله تعالى من صفات الأفعال لله عزّ وجلّ حقيقةً على ما يليق بجلاله، والمراد بسخط الله تعالى عقابُه لمن عصاه، وغضبُه عليه [9].

     

    7- ما قِيلَ أنَّ الله تعالى يحارِبُ فاعلَه:

    وهذا كقولِ الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [البقرة: 278، 279]، ونحو ذلك. وهذا وعيدٌ شديدٌ بالهلاك، وتهديدٌ عظيم، فهو من الكبائر.

     

    قال العلماء: استُشْكِلَ وقوعُ المحاربةَ وهي مفاعلة من الجانبين مع أنَّ المخلوقَ في أسرِ الخالقِ، والجواب: أنه من المخاطبةِ بما يُفهَمُ؛ فإنَّ الحربَ تنشأُ عن العداوةِ، والعداوةُ تنشأُ عن المخالفةِ، وغايةُ الحربِ الهلاكُ، وما عادى الله يُغلَبُ ولا يفلحُ، وكأنَّ المعنى: فقد تعرَّضَ لإهلاكي إيَّاه، فأطلقَ الحربَ وأرادَ لازمَه، أي: أعملُ به ما يعملُه العدو المحارِبُ. قال الفاكِهانِيُّ: في هذا تهديدٌ شديدٌ؛ لأنَّ من حاربَه الله أهلكَه، وهو من المجازِ البليغِ؛ لأنَّ من كَرِه من أحبَّ الله خالفَ الله، ومن خالفَ الله عاندَه، ومن عاندَه أهلكَه [10].

     

    8- وصف فاعل الذنب بأنه مضادٌّ لله تعالى:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ". وهذا يبدو - والله أعلم - زجرٌ شديدٌ لفاعل هذا الذنب، فالظاهر أنه يحتمل أن يكون دليلًا على الكبيرة.

     

    وقد قال العلماء في معنى: "ضادَّ الله في أمرِه": حاربَه وسعَى في ضِدِّ ما أمرَ الله به، وقيل: خالفَ أمره؛ لأن أمره إقامة الحدود. وقيلَ: صارَ ممانعًا لله كما يُمَانِعُ الضِّدُّ ضدَّه عن مُرَادِه. وقيلَ: فقد ضادَّ الله لأنَّ حدودَ الله حِمَاه، ومن استباحَ حمَى الله وتعدَّى طورَه، ونازعَ الله تعالي فيما حمَاه فقد ضادَّ الله [11].

     

    9- وصفُفاعلِ الذنبِ بالخسرانِ:

    وهذا كقولِ الله تعالى: ﴿ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [الأعراف: 99]. وقد نظرت في لغة العرب فإذا الخسران يدور حول: الهلاك، والضلال، والغبن؛ والنقص؛ فالذي يظهر لي - والله أعلم - أنَّ ما وصفَ الله فاعلَه بالخسران ففيه وعيدٌ وزجرٌ شديدٌ، وهو من الكبائرِ.

     

    10- وصفُ الذنبِ أو فاعلَه بالفسقِ:

    وهذا كقولِ الله تعالى: ﴿ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [المائدة: 81]. ووصفُ الذنب أو فاعلَه بالفسق مُشْعرٌ بأنَّه من كبائر الذنوب، وإن كنت لا أجزمُ بذلك على إطلاقِه؛ فإنه لمَّا نظرت إلى معنى الفسوقِ في لغة العرب وجدت أنَّ أهلَ اللغةِ يقولون: الفسقُ هو: العصيانُ، ومجاوزةُ الحدِّ، والخروجُ عن الطَّاعةِ، ومنه قولُ الله تعالى: ﴿ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكهف: 50]، أي: خرجَ عن طاعتِه، وعصَاه. وكذا قال عامَّة أهلِ التفسير فيما أعلم [12]. وقد عن ابن الصلاح أنه ذكر في علامات الكبيرة: وصفُ فاعلهَا بالفسقِ نصًّا، وكذا ابن حجر.

     

    11- أنْ يُتَوعَّدَ فاعلُه بألا ينظر الله إليه يوم القيامة، أو لا يكلمه، أ ولا يزكيه:

    ومن هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ.. وهذا من أشد الوعيدِ والتهديد الوعيدُ، وهو علامةٌ أكيدةٌ على أنَّ هذا الذنبَ كبيرةٌ.

     

    قال العلماء: "لَا يُكَلِّمُهُمْ الله": قيل: لا يُكلِّمُهم تكليمَ أهلِ الخيراتِ بإظهارِ الرِّضَى، بلْ بكلامِ أهلِ السُّخْطِ والغضَبِ. وقيلَ: المرادُ الإعراضُ عنهم. وقيلَ: لا يُكلِّمُهم كلامًا ينفعُهم ويسرُّهم.

     

    "ولَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ": أي: يُعرِض عنهم، ولا ينظرُ إليهم نظرَ رحمةٍ ولطفٍ بهم؛ بل يسخطُ عليهم ويغضب.

    "ولَا يُزَكِّيهِمْ": لا يُطهِّرُهم من دنَسِ ذنوبِهم. وقيل: لا يُثني عليهم [13].

     

    12- أنْ يكونَ في الذنبِ حدٌّ في الدنيا:

    وهذا كالسرقة؛ فإنَّ فيها حدٌّ، وهو قطع اليد. وما كان من الذنوبِ فيه حدٌّ في الدنيا فإنما ذلك لِعظَمِه، فكان الحدُّ لأجلِ التكفيرِ عن هذا الذنب العظيم؛ إذ لا يُكفِّرُه الأعمال الصالحات، وقد يغفرُه الله بالاستغفار والتوبةِ النَّصوح، وقد أنَّ أكثر أهل العلم يقولون في تعريف الكبيرةِ: ما كانَ فيها حدٌّ في الدنيا.

     

    13- أن يُعاقَبَ فاعلُ الذنبِ بمنعِ رزقِه:

    ومن هذا قولُه صلى الله عليه وسلم: "وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ". والظاهر لي - والله أعلم - أنَّ هذه علامةٌ على أنَّ هذا الذنبَ كبيرةٌ.

     

    قال العلماء: "لم يمنعْ قومٌ زكاةَ أموالِهم": أي: التي أوجبها الله، "إلا مُنِعوا القطْرَ من السماءِ": أي: عقوبةً عاجلةً بشؤمِ مَنعهم الزَّكَاة، ويومَ القيامةِ تُكْوَى بها أعضاؤهم [14].

     

    14- أنْ يكون الذنبُ محبطًا للعمل:

    ومن هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ". ولا أعلمُ بين أهل العلم خلافًا في أنَّ حبوطَ العملِ في ذنبٍ وعيدٌ شديدٌ لفاعلِ الذنب، وأنَّه علامةٌ على أنه كبيرة، والله أعلم.

     

    أمَّا الشركُ الأكبرُ والكفر بالله فهو مُحبِطٌ لعملِ صاحبِه جميعًا، ويُخلِّدُه في النار، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ﴾ [البقرة: 217].

     

    وأمَّا غيرُ ذلك من الذنوبِ التي وردَ أنها تُحبِطُ عملَ فاعلِها فقد استدلَّ بها من يقولُ بتكفيرِ مرتكبِ الكبيرةِ من أهلِ التوحيدِ، وقالوا: هو نظيرُ قولِه تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [المائدة: 5]. فردَّ عليهم العلماء؛ فقالوا: مفهومُ الآيةِ أنَّ من لم يكفُرْ بالإيمانِ لم يُحبَطْ عملُه، فيتعارضُ مفهومُها ومنطوقُ الحديثِ؛ فيتعيَّنُ تأويلُ الحديثِ؛ لأنَّ الجمعَ إذا أمكنَ أولى من الترجيحِ.

     

    واختلفَ أهلُ العلمِ في معنى حبوطِ العمل على أقوالٍ:

    1- فقيلَ: المرادُ من فعلِ هذا الفعلَ مُسَتخفًا مستهزئًا.

     

    2- وقيلَ: خرجَ الوعيدُ مخرجَ الزَّجرِ الشديدِ، وظاهرُه غيرُ مرادٍ، ورجَّحه ابن حجر.

     

    3- وقيلَ: هو من مجازِ التشبيه، كأنَّ المعنى: فقد أشبَه من حبِطَ عملُه.

     

    4- وقيلَ: معناه: كادَ أن يَحبَطَ.

     

    5- وقيلَ: المرادُ المبالغةُ في نُقصَانِ الثوابِ؛ إذ حقيقةُ الحبوطِ إنما هو بالرِّدَّةِ، وعبَّرَ بالحُبوطِ وهو البطلانُ للتهديدِ والتشديدِ.

     

    6- وقيلَ: المرادُ بالعملِ عمل الدنيا الذي كان بسببِ فعلِه لهذا الذنبِ، أي لا يستمتعُ به.

     

    7- وقيلَ: المعنى: أُسقِطَتْ حسناتُه في مقابلَةِ سيئاتِه، وسُمِّيَ إحباطًا مجازًا. وقيلَ غير ذلك؛ فالله أعلم [15].

     

    15- أنْ يُعاقَبَ فاعلُه بألَّا تقْبَلَ له صَلاةٌ أو عملٌ:

    ومن هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً". فعدم قبولِ الصلاةِ وردُّها على صاحبِها علامةٌ على عِظَمِ هذا الذَّنبِ، وأنَّه من الكبائرِ.

     

    واختلف أهل العلمِ في معنى عدمِ قبول الصلاة من هؤلاء وعدمِ رفعِها عن آذانِهم:

    1- فقال بعضُ أهل العلم: أي: لا ثواب لَهُم فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَةً فِي سُقُوطِ الفرض عنهم.

     

    2- وقيل: لا تُرفَعُ إلي الله سبحانه وتعالي رفعَ العملِ الصالحِ، بل أدنى شيءٍ من الرفعِ.

     

    3- وقيلَ: لا تُرفَعُ عن آذانِهم فتظلّهم، كما يظل العمل الصالح صاحبَه يوم القيامة [16]. قلت: وكلُّ هذه الوجوه محتملَةٌ إن شاء الله.

     

    16- أن يتوعَّد بألا يقبلً الله منه دعائًه:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم في الرجل يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَا رَبِّ! يَا رَبِّ! وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟. والظاهر - والله أعلم - أنَّ هذا زجرٌ شديدٌ، وهو علامةٌ للكبيرة.

     

    17- أن يعاقبَ الله فاعلَ الذنبِ بتسليطِ الظَّلَمةِ عليه:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمُؤْنَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ". وهذا عقابٌ شديدٌ وتهديدٌ أكيد، وهو علامةٌ على أنَّ هذا الذنب كبيرةٌ.

     

    18- أن يكونَ الذنب سببًا في هلاك وعذاب فاعلِه في الدنيا:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ". فالظاهر لي - والله أعلم - أنَّ هذا علامةٌ على كون هذا الذنب كبيرةٌ.

     

    19- أنْ يُعاقَب فاعلُه بمضاعفةِ الآثامِ:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا". وهذ- والله أعلم - وعيدٌ شديدٌ وعقابٌ عظيمٌ، وهو دالٌّ على أنَّ هذا الفعل من الكبائر. قال ابن حجر رحمه الله [17]: ومُضَاعَفَةُ تِلْكَ الْآثَامِ وَعِيدٌ شدِيدٌ، وَذَلِكَ لِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ الْمُضَاعَفَةَ الْكَثِيرَةَ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا الْحِسَابُ، ولَمَّا سَنَّهَا لِغَيْرِهِ فَاقْتَدَى بِهِ فِيهَا فَحُشَتْ وَتَضَاعَفَ عِقَابُهَا.

     

    20- أنْ يُوصَفَفاعلُ الذنب بالكفر أو الخروج من ملَّةِ الإسلامِ:

    وهذا كقولِ الله تعالى: ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44]، وقولِه صلى الله عليه وسلم: "الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَر". وهذا زجرٌ شديدٌ، وهو علامة على أن هذا الذنبَ كبيرةٌ.

     

    وقد أجاب العلماء عن معنى الكفرِ الوارد في الأحاديث السابقة بأجوبة [18]:

    1- فقيلَ: معناه: أَنَّ فعلَ هذه المعاصي قد يؤول بِهِ إلى الْكُفْرِ.

    2- وقيلَ: أَنَّهُ كُفْرُ النِّعْمَةِ وَالْإِحْسَانِ.

    3- وقيلَ: أَنَّ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَحِلِّ، فإنه يكفرُ.

    4- وقيلَ: أَنَّ هذا مَحْمُولٌ عَلَى الْخَوَارِجِ الْمُكَفِّرِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ.

    5- وقيلَ: أنَّ هذا من الأخلاق والسنن التي عليها الكفار والمشركين.

    6- وقيلَ: أنَّ المرادَ الكفرُ العمليُّ الذي لا يُخْرِجُ صاحبَه من الإسلامِ.

    7- وقيلَ: أنَّ هذا على التَّغليظِ والترهيبِ. قلت: كل هذه الأقوال محتملةٌ ولا يُعارِضُ بعضُها بعضًا، والله أعلم [19].

     

    21- قوله صلى الله عليه وسلم: "ليسَ مِنَّا مَنْ فعلَ كذا":

    هذا وعيدٌ شديدٌ، وتهديدٌ عظيمٌ في الغالب، وقد عن ابن تيمية أن قال في تعريف الكبيرة: كل ذنب قيل فيه: من فعلَه فليس منا. والظاهر لي - والله أعلم أنَّ هذا دليلًا على التحريم في كلِ الأحوال، فضلًا عن كونِ ذلك كبيرة، وإنّما يُنْظَرُ في ذلك إلى القرائنِ والأحوالِ.

     

    فقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَلِمَ الرَّمْيَ، ثُمَّ تَرَكَهُ، فَلَيْسَ مِنَّا" لم يحملْه جماعةٌ من العلماء على التحريمِ، وإنما حملوه على الكراهةِ الشديدة، فضلًا عن القولِ بأنَّه كبيرةٌ [20].

     

    وقولُه صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَفَ بِالْأَمَانَةِ، وَمَنْ خَبَّبَ عَلَى امْرِئٍ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَهُ فَلَيْسَ مِنَّا"، أما الحلف بالأمانةِ - وهو من الحلف بغير الله فهو محرَّمٌ، ولا يجوزُ، على الصحيحِ من قولَيْ العلماء بقرينةٍ أخرى وهي نهيُه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغيرِ الله. وكونُ ذلك من الكبائر - عند من يقول بذلك - فهو بقرينةٍ أخرى؛ وهي قولُه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ".

     

    وأمَّا من خبَّب عَلَى امْرِئٍ زَوْجَتَهُ أَوْ مَمْلُوكَهُ فهو حرامٌ وكبيرةٌ بقرينةٍ أخرى؛ وهي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ".

     

    وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ""لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنَّا من حَلَقَ، وَسَلَقَ، وَخَرَقَ "، فهو على التحريم، وكبيرةٌ عظيمةٌ، لقرائنَ أخرى؛ كقولِه صلى الله عليه وسلم: "أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ". وقولِه: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ:.. وَالنِّيَاحَةُ".

     

    • معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"ليس منا":

    وهذه الأحاديثُ التي يُخْرِجُ ظاهرُها من فعلَها من حظيرةِ الدينِ اختلفتْ كلمةُ أهلِ العلمِ في توجيهِهَا على أقوالٍ، أكثرها قريبةٌ من بعضِها، فيُمكنُ أنْ يُقَالُ: "لَيْسَ منَّا" أي: ليس من المطيعين لنا، ولا من المقتدين بنا، ولا من المحافظين على شرائعنا. وليس من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس من أهل الإيمان الواجب الذي به يستحق الثواب بلا عقاب، وله الموالاة والمحبة المطلقة، وليس على ديننا الكامل.

     

    قال القاسم بن سلام رحمه الله [21]: لَيْسَ مِنَ الْمُطِيعِينَ لَنَا، وَلَا مِنَ الْمُقْتَدِينَ بِنَا، وَلَا مِنَ الْمُحَافِظِينَ عَلَى شَرَائِعِنَا، وَهَذِهِ النُّعُوتُ وَمَا أَشْبَهَهَا. قاله أبو عبيد.

     

    وقال ابن تيمية رحمه الله [22]: فمَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ مُشَارَكَتَهُمْ فِي بَعْضِ الثَّوَابِ، وَمَعَهُ مِنْ الْكَبِيرَةِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ؛ لِنَقْصِ إيمَانِهِ الْوَاجِبِ الَّذِي بِهِ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ الْمُطْلَقَ بِلَا عِقَابٍ، وَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِمْ مُطْلَقًا.

     

    وقال النووي رحمه الله [23]: وَمَعْنَاهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنِ اهْتَدَى بِهَدْيِنَا، وَاقْتَدَى بِعِلْمِنَا وَعَمَلِنَا وَحُسْنِ طَرِيقَتِنَا، كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِوَلَدِهِ إِذَا لَمْ يَرْضَ فِعْلَهُ: لَسْتَ مِنِّي [24].

     

    22- نفْيُ الإيمانِ عن فاعل هذا الذنب:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ". والظاهر لي - والله أعلم - أنَّ هذا لا يدلُّ بمفردِه على أنَّ هذا الفعل كبيرةٌ، وإنما يحتاج لقرائن أخرى معه، وأغلبُ الذنوبِ التي فيها هذا القولُ هي من الكبائر بقرائن أخرى؛ كالزنا، والسرقة، وإيذاء الجار، وشرب الخمر، وقد عن الهروي أنه قال في تعريف الكبيرة: ما ورد فيها وعيدٌ بنفي الإيمان.

     

    قولُه صلى الله عليه وسلم: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ"، هل يدلُّ على أنَّ من لم يُحِبَّ لأخيه ما يحب لنفسه فقد أتى كبيرةً؟لا أقولُ بهذا، وإن كان القرطبيُّ أبو العباس قد علَّقَ على هذا الحديثِ قائلًا [25]: مَنْ يَغُشُّ المسلمَ ولا ينصحُهُ مرتكبٌ كبيرةً. قلت: الغشُّ كبيرةٌ بقرينةٍ أخرى، وقد أفردتها بكبيرةٍ، لكنَّ عدمَ النصيحة، هل يكونُ كبيرةً؟ في ذلك نظرٌ.

     

    وقد اختلف العلماء في معنى هذه الأحاديث [26]:

    والظاهر لي - والله أعلم - أن قوله: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ"، ونحوه معناه: أنَّه حين يفعلُ تلكَ المعاصي يرتفعُ عنه كمَالُ الإيمانِ، وينقُصُ إيمانُه، مع بقاءِ أصلِ الإيمانِ معه، فإن أقلعَ وتابَ رجعَ إليه إيمانُه، فإن كان يفعلُ هذه المعاصي مستحلًّا لها فما هو بمؤمن.

     

    23- وصف فاعلَه بالنفاقِ:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ.."، وقولِه صلى الله عليه وسلم: ""الأَنْصَارُ لاَ يُبْغِضُهُمْ إِلَّا مُنَافِقٌ". والظاهر لي - والله أعلم - أنَّ وصفَ فاعلِ الذنبِ بالنفاق أو أنَّه علامةٌ للنفاق دالٌّ على أنَّ هذا الذنب من الكبائر.

     

    قال النووي رحمه الله [27]: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَفَعَلَ هَذِهِ الْخِصَالَ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِكُفْرٍ، وَلَا هُوَ مُنَافِقٌ يُخَلَّدُ فِي النَّار؛ فَإِنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ صلى الله عليه وسلم جَمَعُوا هَذِهِ الْخِصَالَ، وَكَذَا وُجِدَ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَالْعُلَمَاءِ بَعْضُ هَذَا أَوْ كُلُّهِ وَهَذَا.

     

    واختلفَ أهلُ العلمِ في معنى ذلك:

    1- فقيلَ: معناه أنَّ هذه الخصالُ خصالُ نفاقٍ، وصاحبُها شبيهٌ بالمنافقين في هذه الخصالِ ومتخلقٌ بأخلاقِهم. قال النووي: وهذا الذي قالَه المحقِّقون والأكثرونَ، وهو الصحيحُ المُختَارُ. وقالَ الترمذي رحمه الله: إنما معنى هذا عندَ أهلِ العلمِ نفاقُ العمل.

     

    2- وقيلَ: المرادُ به المنافقون الذين كانوا في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عِياضُ: وإليه مالَ كثيرٌ من أئمتِنا.

     

    3- وقيلَ: معناه التحذيرُ للمسلمِ أنْ يعتادَ هذه الخصالَ التي يُخشَى أنْ تفضِيَ به إلى حقيقةِ النفاقِ.

     

    4- وقيلَ: هو محمولٌ على من غلَبَتْ عليه هذه الخِصالُ، وتهاونَ بها، واستخفَّ بأمرِها، فإنَّ من كانَ كذلك كان فاسدَ الاعتقادِ غالبًا [28].

     

    24- ما وصف من الذنوب بأنه الحالقة:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ". وهذا من الوعيدِ والزَّجْرِ الشديدِ، وهو علامةٌ على أنَّها كبيرةٌ.

     

    قال العلماء: الحالقة: المهلكة. وقيل: تحلق وتستأصل الدين. يقال: حلق بعضهم بعضًا، أي: قتل، مأخوذ من حلق الشعر. قالوا: لأن في تباغضهم افتراق كلمتهم وتشتت أمرهم، وفى ذلك ظهور عدوهم عليهم ودروس دينهم. وقيل: يريدُ أنها لا تُبقِي شيئًا من الحسناتِ حتى يذهبَ بها، كما يذهبُ الحلْق بالشعرِ من الرأس حتى يتركَه عاريًا [29].

     

    25- ما قِيلَ فيه: "من فعلَ كذا بَرِئَتْ منه الذِّمَّةُ":

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "أَيُّمَا عَبْدٍ أَبَقَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". وظاهر هذا التهديدِ الشديدِ، وهو دالٌّ على أنَّ هذا الفِعلَ من الكبائرِ، والله أعلم.

     

    وقوله: "بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ": قيلَ: لا ذمَّةَ له، يعني: لا حقَّ له، وقيل في معناه: لا حُرْمةَ له. وقيلَ: لا ضمانَ، ولا أمانَ، ولا رعايةَ له، وذلك أنَّ الآبقَ كان مصونًا عن عقوبةِ السيدِ له وحبسِه، فزال ذلك بإباقِه، وقيل: زالتْ عصمَةُ نفسه. قلت: وكلُّ هذه المعاني محتملَةٌ. قال ابن منظور رحمه الله: وفي الحديثِ ذكرُ الذِّمَّةِ والذِّمام، وهما بمعنى العهدِ والأمانِ والضمانِ والحرمةِ والحقِّ [30].

     

    26- أن يُتَوعَّدَ بأنْ يختمَ الله على قلبِه:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ". وظاهر هذا - والله أعلم - أنَّه كبيرةٌ، قالَ القاضي عِياض: العقابُ والوعيدُ والطبعُ والختمُ إنما يكونُ على الكبائرِ.

     

    قال العلماء: الختم: التغطية على الشيء والاستيثاق من أن لا يدخله شيء، والختم على القلب: أن لا يفهم شيئا ولا يخرج منه شيء، فلا تعقل القلوب، ولا تعي شيئا. وقيلَ في معنى الخَتْمِ في هذا الحديثِ: إعدامُ اللطفِ وأسبابِ الخيرِ، وقيلَ: هو خَلْقُ الكفرِ في قلوبِهم، قالَ القاضي رحمه الله: وهو قولُ أكثرِ مُتَكلِّمي أهلِ السنةِ، وقيلَ: هو عَلامةٌ جعلَها الله في قلوبِهم لِيَعرفَ بها الملائكةُ الفرقَ بين من يجبُ مدحُه وبين من يجبُ ذمُّه، فالله أعلمُ [31].

     

    27- ما قيل في من الذنوب: "لا تسأل عنه" - أي عن عقوبتِه:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ لاَ تَسْأَلْ عَنْهُمْ: رَجُلٌ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ..". والظاهر - والله أعلم - أنَّ هذا زجر شديدٌ، وهو دالٌّ على أنَّ هذا الذنبَ من الكبائر.

     

    قالَ العلماءُ: معناه: لا تسألْ عن كيفيةِ عقوبتِهم فهي من الفَظَاعةِ بحيث لا يحتَملُها السَّمعُ.

     

    وقيلَ: لا تهتمَّ بهم ولا تسألْ عنهم فهم أحقَرُ من أن تعتنِيَ بشأنِهم، وتشتَغِلُ بالسؤالِ عنهم. وقيل: لا تسألْ الشفاعةَ فيهم؛ فإنَّهم هالِكون [32].

     

    28- ما قيل فيه أنَّ فاعلَه يُكَلَّفُ يومَ القيامةِ بما لا يستطيعُه:

    ومن هذا قولُه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَوَّرَ صُورَةً عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ". وهذ- والله أعلم - وعيدٌ ليس باليسير، وتكليفُ العبدِ بما لن يستطِيعَه من التعذيبِ له، وهذا دالٌّ على أنَّ هذا الفعلَ من الكبائرِ.

     

    قال العلماء: أُلزِم بذلك ولا يقدرُ عليه، وليس مقصودُ هذا التكليفِ طلبُ الامتثالِ، وإنَّما مقصوده تعذيبُ المُكَّلف، وإظهارُ عجزِه عمَّا تعاطَاه مبالغةً في توبيخِه، وإظهارُ قبيحِ فعلِه. قال الصنعاني رحمه الله: وهو وعيدٌ شديدٌ [33]. قلت: وفي بعض الروايات الصحيحة أنهم يُعذَّبون حتى يفعلون ما كُلِّفوا به، ولن يستطيعوا فعلَ ذلك.

     

    29- ما قيل فيه أنَّ الله تعالى أو رسولَه صلى الله عليه وسلم خصيمُ من فعله يوم القيامة:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ..". وهذا - والله أعلم - وعيدٌ شديدٌ، وهو دالٌّ على أنَّ هذا الذنبَ من الكبائر.

     

    قال العلماء: الله تعالى خَصمُ كلِّ ظالمٍ، إلّا أنَّه خصَّ الثلاثةَ لِعظَم جُرمِهم. قال ابن التِّين: هو سبحانَه وتعالَى خَصْمٌ لجميعِ الظالمين، إلّا أنَّه أرادَ التَّشديدَ على هؤلاءِ بالتَّصْريحِ [34].

     

    30- أن يُوصَفَ فاعلُ الذنبِ بأنَّه من أشرِّ الناسِ منزلةً عند الله:

    وهذا كقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ، وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا". وهذ الوصفُ - والله أعلم - دالٌّ على أنَّ هذا الفعل من الكبائر.

     

    31- أن يُعاقَبَ فاعلُ الذنب ببعض العقوباتِ في الآخرةِ:

    ورد في بعضِ الذنوبِ أنَّ فاعلَها يُعاقَبُ يوم القيامةِ ببعض العقوباتِ، هذا والله - أعلم - من الوعيدِ الشديدِ، وهو دالٌّ على أنَّ هذا الذنبَ كبيرةٌ.

     

    فمن ذلك: أنَّ من فرقَّ بين والدةٍ وولدِها في السًّبْي فرَّق الله بينه وبين أحبَّتِه يوم القيامة، ومن كانتْ له زوجتان فلم يعدِلْ بينهما جاءَ يومَ القيامةِ وشِقُّه مائلٌ.

     

    32- أنْ يُتَوعَّدَ فاعلُه بألَّا يدخلَ الجنَّةَ:

    وهذا كقولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ""لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ" "، وقولِه صلى الله عليه وسلم: "مَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ". قال العظيم آبادي رحمه الله: وهذا تشديدٌ وتهديدٌ. قلت: وقد أنَّ أكثر أهل العلم يقولون في تعريف الكبيرةِ: كل ذنبٍ توعد صاحبه بألا يدخل الجنة.

     

    وقد ذهب عامَّة أهل السنةِ والجماعةِ إلى أنَّ هذه الأحاديثِ التي فيها نفي دخولِ الجنة عمَّن فعلَ هذه الذنوب، وأوَّلوا هذه الأحاديث:

    1- فقيلَ: هذا محمولٌ على من يستحلُّ هذا الذنبَ، فهذا كافرٌ لا يدخلُها أصلًا.

    2- وقيلَ: لا يدخلُها وقتَ دخولِ الفائزين إذا فُتِّحتْ أبوابُها لهم، بل يُؤخَّرُ، ثم قد يُجَازَى وقد يُعْفَى عنه فيدخلُها أولًا.

    3- وقيلَ: لا يدخلُ الجنةِ دونَ مجازاةٍ وعقابٍ [35].

     

    33- أن يعاقب بأن يحرم من الاستمتاع به لو دخل الجنةِ:

    ومن هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: مَنْ لَبِسَ الحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الآخِرَةِ". قال ابن عبد البر رحمه الله: وهذا وعيدٌ شديدٌ. وقال ابن العربي رحمه الله: استعجلَ ما أُمِرَ بتأخيرِه، ووُعِدَ به؛ فحُرِمَه عند ميقاتِه؛ كالوارثِ؛ فإنَّه إذا قتلَ مورِّثَه يُحرَمُ ميراثَه لاستعجالِه.

     

    قال العلماء: وليس معنى هذا الحديث أنه يُحرَمُ دخولَ الجنةِ، وإنما أوَّلوا هذه الأخبار:

    1- فقالَ بعضُهم: يُحرَمُ من ذلك في الجنةِ وإن دخلَها.

     

    2- قيل: إنه ينسَى شهوتَه لهذا الأمرِ؛ لأنَّ الجنةَ فيها كلَّ ما يُشتَهَى، قيلَ: لا يشتَهيه وإن ذكرَه، ويكون هذا نقصُ نعيمٍ في حقِّه تمييزًا بينه وبين من أطاعَ أمرَ ربِّه.

     

    3- وقيلَ: لا يدخلُ الجنةَ جزاءً له وعقوبةً، بل يُعذَّبُ ويُعاقَبُ إن شاءَ الله ذلك، أو يُغفَرُ الله له ذنبُه إنْ شاءَ الله ذلك، ثم بعد ذلك يدخلُ الجنَّةَ إن شاء الله، ولا يُحْرُمُ من شُربِها حينذاك.

     

    4- وقيلَ: إنه يُحبَسُ عن الجنةِ ويُحرَمُها مدةً إذا أرادَ الله عقوبتَه، ويكونُ إمَّا من أصحابِ الأعرافِ وأهلِ البرزخِ، وإمَّا أن يُحرَمَ الجنةَ بالكليَّةِ، فالله أعلم [36].

     

    34- أنْ يكون في الذنب لعنٌ:

    قال العلماء: اللَّعنُ من اللَّه تَعَالَى: الطرد، والإبعاد عن الخير، ومِن الخَلْقِ: السَّبُّ، والدُّعاءُ [37]، فما كان من الذنوبِ فيه لعنٌ لفاعلِه فإنما ذلك لِعظَمِ هذا الذنب.

     

    وقد قال القاضي عياض رحمه الله [38]: استدلوا لما جاءت به اللعنة أنه من الكبائر. وقد أنَّ أكثر أهل العلم يقولون في تعريف الكبيرةِ: ما كانَ فيه لعنٌ لفاعلِه.

     

    قال ابن حجر رحمه الله [39]: وَالْمُرَادُ بِاللَّعْنِ هُنَا الْعَذَابُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى ذَنْبِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، وَلَيْسَ هُوَ كَلَعْنِ الْكَافِرِ.

     

    35- أنْ يُتَوعَّدَ فاعلُه بالخسف في الآخرة، أو يُخْسَف به في الدنيا:

    وهذا كقولِه صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَخَذَ مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ خُسِفَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ إِلَى سَبْعِ أَرَضِينَ". وهذا من أشدَّ العقابِ والوعيدِ، فالظاهرُ - والله أعلم - أنَّه يدلُّ على أنَّ هذا الفعلَ كبيرةً.

     

    36- أنْ يُتَوعَّد فاعلُه بالعذاب في قبرِه، أو في الآخرةِ، أو أنْ يدخلَ النارَ:

    توعُّدُ فاعلَ الذنبِ بدخول النار، أو العذاب فيها، أو العذاب في القبر وعيدٌ شديدٌ، وهو دالٌّ على أنًّ هذا الذنب كبيرةٌ، والله أعلم.

     

    عن سَعِيد بْن جُبَيْرٍ قَالَ: "كُلُّ ذَنْبٍ نَسَبَهُ اللَّهُ إِلَى النَّارِ فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ" [40].

     

    وقال ابن حزم رحمه الله [41]: كلّ ما توعد الله عليه بالنار فهو من الكبائر. وقد سبق أنَّ أكثر أهل العلم يقولون في تعريف الكبيرةِ: كل ذنبٍ توعَّد الله فاعلَه بالعذاب في النار.

     

    وقال النووي رحمه الله [42]: كُلّ مَا جَاءَ مِنَ الْوَعِيدِ بِالنَّارِ لِأَصْحَابِ الْكَبَائِرِ غَيْرَ الْكُفْرِ يُقَالُ فِيهَا: هَذَا جَزَاؤُهُ، وَقَدْ يُجَازَى، وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُ، ثُمَّ إِنْ جُوزِيَ وَأُدْخِلَ النار فلا يخلد فيها، بلْ لابُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَحْمَتِهِ، وَلَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَهَذِهِ قَاعِدَةٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.

     

    37- إلحاقُ الذنبِ بذنبٍ كبيرٍ:

    ومن هذا قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "وَمَنْ لَعَنَ مُؤْمِنًا فَهُوَ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ قَذَفَ مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ". والظاهر لي - والله أعلم - أنَّ هذا علامةٌ على كون هذا الذنب كبيرةٌ.

     

    38- الإجماعٌ:

    الإجماعُ حجةٌ، فما صحَّ فيه الإجماعُ على أنه كبيرةٌ فهو كذلك.

     


    [1] أخرجه البخاري (6243)، ومسلم (2657)،

    [2] صحيح: أخرجه الطبري (22/ 67، 68).

    [3] صحيح: أخرجه الطبري (22/ 62).

    [4] حسن: أخرجه الطبري (22/ 68).

    [5] انظر أقوالَهم في: المحرر الوجيز (5/ 204)، "الجامع لأحكام القرآن" (5/ 160، 161)، "الْمُفْهِمِ" (1/ 188)، شرح مسلم" (2/ 85)، روضة الطالبين (8/ 199)، "مجموع الفتاوى" (11/ 650- 655، 658)، "الكبائر" ن1 (89)، "تفسير ابن كثير" (2/ 285، 286)، شرح الطحاوية (2/ 526)، "فتح الباري" (12/ 184)، "الزواجر" (1/ 10، 12)، "نيل الأوطار" (8/ 353).

    [6] فقال بعضهم: أَنَّهَا كُلُّ مَعْصِيَةٍ يَسْتَحِقُّ فَاعِلُهَا بِسَبَبِهَا وَعِيدًا أَوْ عِقَابًا أَزْيَدَ مِنَ الْوَعِيدِ أَوِ الْعِقَابِ الْمُسْتَحَقِّ بِسَبَبِ مَعْصِيَةٍ أُخْرَى. صحَّ هذا عن سعيد بن جبير، ومجاهد.

    وقيل:: أَنَّهَا كُلُّ مَعْصِيَةٍ أَوْجَبَتْ الْحَدَّ. صح عن ابن عباس وقتادة.

    وقيل: كل ما نص الشَّارِعُ عَلَى كِبَرِهِ فَهُوَ كَبِيرٌ، وَمَا عَدَاهُ بَاقٍ عَلَى الْإِبْهَامِ وَالِاحْتِمَالِ.

    وقيل: أَنَّهَا كُلُّ فِعْلٍ نَصَّ القرآن عَلَى تَحْرِيمِهِ.

    وقيل: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مُرْتَكِبِهَا بِالدِّينِ وَرِقَّةِ الدِّيَانَةِ.

    وقيل: كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ كَبِيرَةٌ. صحَّ عن أبي عبيدة.

    وقيل: أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهَا بِحَصْرِهَا يَعْرِفُهُ الْعِبَادُ، وَإِلَّا لَاقْتَحَمَ النَّاسُ الصَّغَائِرَ وَاسْتَبَاحُوهَا.

    وقي: تَعْرِيفِهَا يكون بِالْعَدِّ مِنْ غَيْرِ ضَبْطِهَا بِحَدٍّ؛ واختلف هؤلاء: فصح عن ابن مسعود ومسروق، والنخعي أنها م