الخميس 22 مايو 2025 12:03 مـ 24 ذو القعدة 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مدخل إلى علم السياسة الشرعية

    رابطة علماء أهل السنة

    الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وبعد،،،،
    فإن انخراط الحركة الإسلامية في العمل السياسي بعد ما عرف بثورات الربيع العربي بحاجة إلى ضابط يضبطها فيما تعتقده من آراء، وما تتخذه من قرارات، وما تقوم به من أعمال. وهذا يجعلنا بحاجة إلى قراءات متانية فيما عرف بالسياسة الشرعية، إذ هذا الميدان ميدان وعر وشائك؛ وهو كما يقول ابن القيم: موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه.
    وقريبا من هذا قال صحاب كتاب (معين الأحكام) : السياسة باب واسع تضل فيه الأفهام ، وتزل فيها الأقدام ، وإهمالها يضيع الحقوق ،ويعطل الحدود ، ويجري أهل الفساد، ويحين العناد، لأن في إنكار السياسة الشرعيةرداً للنصوص، وتلغيطا للخلفاء، قال الله تعالى: ( اليَومَ أَكْمَلتُ لَكُمْ دِينَكُم )( المائدة : 3 ) فدخل في هذا جميع مصالح العباد، الدينية والدنيوية على وجه الكمال.

     

    والحديث عن السياسة الشرعية يتطلب التعريف بمصطلحات مهمة، وفي مقدمتها:

    السياسة: قال صاحب لسان العرب: السوس: الرياسة. ويقال: ساسهم إذا رأسهم. ويقال: سوسوه إذا أسوه. وساس الأمر سياسة: قام به. والجمع ساسه وسواس.وقيل سوس الرجل أمور الناس: إذا ملك أمرهم.وقال صاحب (المصباح المنير للرافعي) يقال: ساس زيد الأمر يسوسه: دبره وقام بأمره.وقال صاحب تاج العروس: تطلق السياسة بإطلاقات كثيرة ومعناها في جميع إطلاقاتها يدور على: تدبير الشئ والتصرف فيه بما يصلحه. تقول: ساس فلان الدابة: إذا راضها وتعهدها بما يصلحها. وساس الأمر سياسة: عالجه وبذل همه في إصلاحه. وساس الرعية: ولي حكمها وقام بالأمر والنهي وتصرف في شئونها بما يصلحها.
    وهذا يعني أن السياسة تدور حول معان متعددة أهمها: 
    1-الملك والرياسة والولاية.
    2-التدبير والإصلاح والرعاية.
    وأما في الإصطلاح: فعرفت السياسة بتعريفات عدة، فقيل: فن إدارة المجتمعات الإنسانية.
    وقيل: هي فن الممكن.
    وقيل: هي فن المستحيل.
    وعرفها المعجم القانوني بأنها أصول أو فن إدارة الشؤون العامة.
    وقديما عرفها البجرمي بأنها: إصلاح أمور الرعية، وتدبير أمورهم.
    وقال ابن عقيل الحنبلي: السياسة ما كان فعلا يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يضعه الرسول ولا نزل به الوحي.
    السياسة الشرعية:
    درج الفقهاء من القديم على وصف السياسة المراد تطبيقها بالشرعية، وجاء في ذلك تعريفات عدة، منها:
    قال ابن نجيم الحنفي: السياسة الشرعية هي : فعل شئ من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بهذا الفعل دليل جزئي .
    وقال عبد الرحمن تاج: السياسة الشرعية هي: اسم للأحكام والتصرفات التي تدبر بها شئون الأمة في حكومتها وتشريعها وقضائها وفب جميع سلطاتها التنفيذية والإدارية وفي علاقاتها الخارجية التي تربطها بغيرها من الأمم.
    وقال عبد الوهاب خلاف: السياسة الشرعية هي : تدبير الشئون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية وإن لم يتفق وأقوال الأمة المجتهدين.
    وقال يوسف القرضاوي: هي السياسة التي تتخذ من الشرع منطلقاً لها ترجع إليه, وتستمد منه, كما تتخذ تحقيقه في الأرض،  وتمكين تعاليمه, ومبادئه بين الناس هدفاً لها وغاية, وكما تتخذه غاية تتخذه منهجاً وطريقاً, فغاياتها شرعية ومناهجها شرعية.
    وهذا يعني أن السياسة في منظور الإسلام ينبغي أن تكون:
    أ‌-شرعية المنطلقات.
    ب‌-شرعية الغايات.
    ت‌-شرعية التوجهات.
    أنواع السياسة:
    ومما سبق يتضح لنا أن السياسة تنقسم إلى نوعين: 
    سياسة وضعية (عقلية): وهي التي يضغها البشر، وهي لا بأس بها ما لم تخالف نصا.
    سياسة شرعية: وهي التي تنضبط بالوحي والشرع، فتحقق للناس مصالحهم دون مخالفة لنص.
    ومن أول من قال بهذا التقسيم ابن خلدون حين قال: فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية. 
    ولهذا فرّق ابن خلدون بين الملك السياسي والخلافة فقال: الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها.
    ويذهب ابن القيم إلى تقسيم السياسة إلى نوعين:
    أ‌-سياسة ظالمة.
    ب‌-سياسة عادلة.
    يقول ابن القيم: فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها. وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها.
    ويؤكد ابن القيم على تحقيق الشريعة للسياسة العادلة فيقول: ومن له ذوق في الشريعة واطلاع على كمالها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح؛ تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من أحاط علما بمقاصدها، ووضعها موضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها ألبتة.
    ولا يفهم من هذا أن السياسة يشترط لشرعيتها دليل من كتاب أو سنة؛ لا. بل السياسة الشرعية كما عرفها ابن عقيل الحنبلي ما كان فيها:
    أ‌-درء مفسدة أو تحقيق مصلحة.
    ب‌-عدم معارضة نص.
    حتى وإن لم يكن لها دليل مشروعية، لأنها أصبحت في منطقة العفو التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم:" مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ حَلَالٌ، وَمَا حَرَّمَ فَهُوَ حَرَامٌ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَاقْبَلُوا مِنَ اللَّهِ عَافِيَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُنْ لِيَنْسَى شَيْئًا" ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64] ".
    سبب وصف السياسة بالشرعية:
    لما طرأ على أفعال الولاة ما طرأ من الظلم والبطش والاستبداد؛ اتجه العلماء إلى وصف السياسة بالشرعية للتفريق بين أفعال الحكام وأحكام الشرع،  ولعل أول من أطلق ذلك هو شيخ الإسلام ابن تيمية، وتبعه في ذلك تلميذه ابن القيم، وسلك الفقهاء والعلماء هذا المسلك إلى وقتنا هذا.
    وألمح إلى ذلك ابن تيمية حين قال: لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده، من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا، في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين، حتى صار يقال: الشرع، والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع، وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع، والآخر بالسياسة، والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة، إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال، وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي، من غير اعتصام بالكتاب، والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى، وتحر العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى، ويحابون القوي، ومن يرشوهم.
    وللحديث بقية......

    المدير التنفيذي لرابطة علماء أهل السنة
    عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
    د: أكرم كساب