توازن الردع .. قراءة تحليلية للصراع الهندي الباكستاني


تمهيد:
ما أشبه الجغرافيا بالتاريخ حين تغدو الأرض ساحةً، والزمن سيفًا، والمصالح سهامًا مصوَّبة لا تخطئ مرماها! وحين تجتمع الأطماع في قلب آسيا، بين جبال كشمير وغبار البنجاب، تتجلى أمامك سنة التدافع في أبهى صورها، كأنما هي قدر محتوم، لا يرده شعار، ولا تُنهيه نداءات السلام.
ليس الصراع بين الهند وباكستان من تلك النزاعات التي تُقاس بخط فاصل على خريطة، بل هو شِجار الحضارات إذا اصطدمت، وصراع الهويات حين تلتبس، وتصارع الإرادات حين تشح الموارد وتتعاظم التطلعات. وهذا ما عبّر عنه توماس هوبز[1] حين شبّه العالم بغابة، لا يسودها العدل إلا إذا قام على قدم القوة.
أما كلاوزفيتز[2]، فقد لخّص فلسفة الحرب كلها بقوله: "الحرب ليست سوى امتداد للسياسة بوسائل أخرى"، كاشفًا بذلك عن مكنون الواقعية السياسية التي تُغلف هذا النزاع المعقد.
في جذور الصراع الهندي-الباكستاني:
منذ انبثاق فجر الاستقلال عن التاج البريطاني عام 1947، وُلدت باكستان من رحم الخوف، لا من الاستعمار، بل من الجار الذي تقاسمهما الأمس، وافترق بهما الغد. وقضية كشمير كانت ولا تزال الشرارة التي تشعل الهشيم. لم تكن كشمير أرضًا فقط، بل كانت عنوانًا لهوية، وشرفًا عسكريًا، وحدًا فاصلًا بين أمتين: واحدة هندوسية تُريد فرض سيادتها، وأخرى إسلامية تدافع عن وجودها.
وقد نُسجت حول كشمير ثلاثة حروب صريحة (1947، 1965، 1999)[3]، وسلسلة لا تنتهي من الاشتباكات والخدع والرهانات. ولم يكن هذا المشهد خارجًا عن منطق الواقعية السياسية[4]، فالهند -صاحبة النزعة التوسعية والاقتصاد الصاعد -ترى في باكستان خصمًا لا بد من تحييده. بينما ترى باكستان في نفسها حارسًا لهوية الأمة في جنوب آسيا.
تحالفات تتقاطع ومصالح تتشابك:
في خضم هذا الصراع، تتبدى تحالفات كأنها رقعة شطرنج تُحرّكها أصابع الغايات. من جهة، نجد التحالف الرباعي [5](QUAD)، الذي يجمع الولايات المتحدة واليابان وأستراليا والهند، وهو تحالف استراتيجي يهدف إلى تطويق الصين وكبح صعودها في المحيطين الهندي والهادئ. ومن ثم، تصبح باكستان -حليفة الصين -هدفًا ضمنيًّا لهذا الطوق.
في المقابل، توثّق باكستان علاقتها بالصين لا على صعيد السلاح والسياسة فحسب، بل عبر مشروع استراتيجي غيّر المعادلات الجغرافية
ممر الصين-باكستان الاقتصادي [6](CPEC) الذي يصل غرب الصين بميناء جوادر المطل على بحر العرب. لم يكن هذا الميناء سوى كسر للحصار البحري المفترض، وطريقًا اختصر آلاف الأميال من أجل الصين. ولذلك، ترى بكين في باكستان بوابةً وحصنًا، وترى باكستان في الصين سندًا سياسيًا واقتصاديًا لا غنى عنه.
أما الولايات المتحدة، فبينما تقيم شراكة استراتيجية مع الهند، تُبقي على خيوط مفتوحة مع باكستان، خشية أن تدفعها كليةً إلى أحضان بكين. فهكذا تُملي الواقعية السياسية ألا تمنح العدو ما يريده كاملاً.
انتصار جزئي أم معادلة جديدة؟
في مايو 2025، انتهت جولة جديدة من المواجهة العسكرية بين الهند وباكستان بوساطة أميركية، وأُعلنت نهاية المعركة بانتصار جزئي لباكستان. وعلى وفق ما قرره كلاوزفيتز، فإن النصر لا يُقاس بالضربات، بل بمدى تحقق الأهداف الاستراتيجية.
ورغم بقاء كشمير المحتلة تحت الهيمنة الهندية، فإن باكستان استطاعت إحداث اختراقات على الأرض، وأجبرت الهند على وقف إطلاق النار دون مكاسب حقيقية، مما يعني أنها نجحت في فرض معادلة ردع جديدة، ورسّخت لنفسها موقعًا تفاوضيًا أقوى.
مكاسب باكستانية على الصعيدين الداخلي والخارجي:
داخليًا:
- تجددت الروح الوطنية وارتفعت أسهم المؤسسة العسكرية.
- تراجعت النزعات الانفصالية مؤقتًا، كما في إقليم بلوشستان.
- تحقّق تعزيز أمني في الحدود مع إقليم البنجاب الهندي، خاصة مع تعاطف السيخ ورفضهم للحرب.
خارجيًا:
- رسّخت باكستان موقعها كقوة إقليمية معتبرة في جنوب آسيا.
- تطورت علاقاتها مع الصين وتركيا في مجالات الدفاع والطاقة والتقنية.
- جنت مكاسب اقتصادية من حيث فرص التصدير، واستثمارات البنية التحتية المرتبطة بـCPEC.
في مهب سنة التدافع
لو قُدّر للأمم أن تحيا بلا صراع، لكانت الجغرافيا تكتبها أقلام الشعراء لا سيوف الجيوش. ولكن التاريخ علمنا أن البقاء لا يكون للأضعف صوتًا، بل للأقوى حجة وسيفًا.
وقد قال ابن خلدون: "الملك لا يقوم إلا بالقهر"، ولم يقصد الظلم، بل الحاجة إلى الردع والتوازن في عالم لا يؤمن إلا بلغة القوّة والمصالح.
وها هي باكستان تجد نفسها اليوم بين سندان التحالفات ومطرقة المصالح، لكنها ما تزال تقرأ في كتاب السنن، وتعلم أن التدافع قدر، وأن من لم يكن جزءًا من معادلة القوة، فسيكون حتمًا ضحية في ميزانها.
-------------------------------------------------------------------------------------------------
[1] فيلسوف إنجليزي (1588–1679)، عُرف بنظرية العقد الاجتماعي، وشبّه العالم الطبيعي بـ"غابة" لا يسودها النظام إلا بالقوة.
[2] جنرال ومنظر عسكري ألماني (1780–1831)، صاحب كتاب "عن الحرب"، حيث قال: "الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى".
[3] صراعات متكررة بين الهند وباكستان حول الإقليم المتنازع عليه.
[4] نظرية ترى أن العلاقات بين الدول تحكمها المصلحة الوطنية والقوة، لا المبادئ الأخلاقية أو القيم الإنسانية.
[5] تحالف أمني غير رسمي بين الولايات المتحدة، اليابان، أستراليا، والهند، يهدف إلى موازنة النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
[6] مشروع استثماري ضخم يربط الصين بميناء "جوادر" الباكستاني، جزء من "مبادرة الحزام والطريق"، ويعزز نفوذ الصين في المنطقة