الثلاثاء 8 أكتوبر 2024 10:04 مـ 4 ربيع آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    شبهات وقضايا

    الرد على من أنكر مشروعية جهاد الكافرين لكفرهم وبيان الحكمة والرحمة في الجهاد

    رابطة علماء أهل السنة

                             

     

    السبت 17 جمادى الأولى 1437 الموافق 27 فبراير 2016

     

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

    فقد اطلعت على مقال للدكتور محمد المختار الشنقيطي (المفكر السياسي) يقول فيه: "الجهاد ليس موقفا اعتقاديا ضد الكافرين، بل هو موقف أخلاقي ضد الظالمين،.. لم يجعل الإسلام اختلاف الدين مسوغا شرعيا للقتال، فالجهاد في الإسلام ليس قتال الكافر، بل هو قتال الظالم مسلما كان أو كافرا، فهو موقف أخلاقي مع العدل والحرية ضد الظلم والقهر، والمجاهد يقاتل الظالم لظلمه لا لعقيدته أو مذهبه".

     

    وهذا الكلام وإن أراد به قائله تصحيح بعض أخطاء المجاهدين المتحمسين الذين قد يفسدون في الأرض باسم الجهاد، لكنه كلام مبتدع لا يعرفه أهل الإسلام، وهو إفساد للعقيدة الإسلامية باسم الجهاد على بصيرة، حيث جعل الجهاد موقفا أخلاقيا فقط، وضد الظالمين فحسب، وأنكر مشروعية قتال الكافرين لكفرهم، ويكفي للرد عليه آية من كتاب الله، وهي قوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]، ويكفي أيضا للرد عليه حديث واحد من سنة رسول الله، وهو ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»[1]، فكلامه مناقض لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل إن كلامه متناقض في نفسه، فإن من أسوأ الأخلاق الكفر بالله ورسله، ومن أعظم الظلم الشرك بالله، فكيف ينكر مشروعية الجهاد ضد الكافرين لكفرهم وهم مصرون على أسوأ الأخلاق وأعظم الظلم؟!

     

    وهذا ردٌ مفصل على هذا الكلام المحدَث المتناقض، ذكرت فيه أهداف الجهاد في الإسلام، والحكمة من مشروعيته، وأتبعته ببيان الرحمة في الجهاد، ليكون هذا المقال جامعا في الرد على من فرّط وجفا فأنكر مشروعية قتال الكافرين لكفرهم، وعلى من أفرط وغلا فجعل الجهاد بلا رحمة، كتبته بيانا للحق، ونصحا للمسلمين، والله الهادي والموفق للصواب.

     

    قال ابن خلدون في مقدمته: "اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، ويتعصب لكل منهم أهل عصبية، وهو أمر طبيعي في البشر، إما غيرة ومنافسة، وإما عدوان، وإما غضب للمُلك وسعي في تمهيده، وإما غضب لله ولدينه"[2].

     

    والجهاد في الإسلام هو لإعلاء كلمة الله، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 38 - 40].

     

    قال الإمام المفسر ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا ﴾ [الأنفال: 38] أي: عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد، ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة، ﴿ يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38] أي: من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم، ﴿ وَإِنْ يَعُودُوا ﴾ [الأنفال: 38] أي: يستمروا على ما هم فيه ﴿ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ ﴾ [الأنفال: 38] أي: فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة" [3].

     

    وقال الإمام المفسر ابن جرير رحمه الله: "فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض، وهو الفتنة، ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39] أي: وحتى يكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره، قال ابن جريج: أي: لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد لله خالصاً ليس له فيه شريك، ويخلع ما دونه من الأنداد. وأما قوله: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ [الأنفال: 39] فمعناه: فإن انتهوا عن الفتنة وهي الشرك بالله، وصاروا إلى الدين الحق معكم ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الأنفال: 39] أي: لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر، والدخول في الإسلام" [4] انتهى مختصراً.

     

    فمن أبى أن يعبد الله الذي خلقه، ولم يؤمن برسوله الذي أرسله، ولم يصدق بكتابه الذي أنزله، فإنه في الآخرة من الخاسرين، وفي الدنيا يجب أن يكون من الأذلين، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [المجادلة: 20، 21].

     

    قال ابن كثير رحمه الله: "يقول تعالى مخبراً عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله، الذين هم في حد، والشرع في حد أي: مجانبون للحق، مشاقون له، هم في ناحية، والهدى في ناحية ﴿ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ ﴾ [المجادلة: 20] أي: في الأشقياء المبعدين المطرودين عن الصواب في الدنيا والآخرة ﴿ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي ﴾ [المجادلة: 21] أي: قد حكم وكتب في كتابه الأول بأن النصرة له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة كما قال: ﴿ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ ﴾ [غافر: 51]" [5].

     

    ولا يشكل على هذا أن المسلمين قد يُهزمون في معركة فإن الأمر كما قال الله: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140].

     

    قال ابن القيم رحمه الله:

    والحق منصورٌ وممتحنٌ فلا ♦♦♦ تعجبْ فهذي سنة الرحمن

     

    وقد بين الله للمسلمين أسباب النصر في كتابه فإذا أخذوا بها ‑في أي زمان ومكان‑ نصرهم الله، وإذا لم يأخذوا بها خذلهم الله.

     

    هذا؛ والجهاد في سبيل الله كان مشروعا في الأمم السابقة، قال الله تعالى:﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ﴾ [آل عمران: 146].

     

    (ربيون): أي: جموع كثيرة من العلماء والصالحين قاتلوا مع الأنبياء في سبيل الله[6].

     

    وفي التوراة: (وحارب بنو يهوذا أورشليم، وأخذوها، وضربوا بحد السف، وأشعلوا المدينة بالنار، وبعد ذلك نزل بنو يهوذا لمحاربة الكنعانيين سكان الجبل، وسكان الجنوب والسهل) [7].

     

    وجاء في الإنجيل على لسان عيسى بن مريم عليه السلام أنه قال: (لا تظنوا أني جئت لأرسي سلاماً على الأرض، ما جئت لأرسي سلاماً، بل سيفاً، فإني جئت لأجعل الإنسان على خلاف مع أبيه، والبنت مع أمها، والكنة مع حماتها، وهكذا يصير أعداء الإنسان أهل بيته) [8].

     

    وقد أمر الله الملك الصالح ذا القرنين أن يعذب من أبى أن يعبد الله كما أخبرنا الله في كتابه: ﴿ قُلْنَا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: 86 - 88].

     

    وفي قصة ذي القرنين رد كاف على من ينكر قتال الكافرين لكفرهم، فقد أخبر الله عنه أنه وجد في سفره نحو المغرب أمة كافرة، فمكّنه الله منهم، وحكّمه فيهم إن شاء قتل وسبى، وإن شاء منّ عليهم، فقال: ﴿ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ ﴾ [الكهف: 87] أي: استمر على كفره وشركه بربه ﴿ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ﴾ [الكهف: 87] أي: بالقتل ﴿ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 87] أي: شديداً بليغاً، ﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ ﴾ [الكهف: 88] أي: اتبعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ﴿ فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى ﴾ [الكهف: 88] أي: فله الجنة في الدار الآخرة عند الله﴿ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ﴾ [الكهف: 88] أي: معروفاً[9].

     

    إذاً: قتال من لم يعبد الله هو قتال مشروع بأمر الله، جزاء على ظلمه حيث لم يعبد الله وحده الذي خلقه لعبادته، فقد قال الله: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات:56]، وقال سبحانه: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان:13]، فيجب على المخلوق أن يؤدي حق الله كما عليه أن يؤدي حق عباد الله، فكما تجب عليه طاعة والديه، وطاعة مديره، وطاعة أميره؛ فيجب عليه طاعة خالقه سبحانه، وكما يستحق الإنسان العقوبة على ترك طاعة والديه، أو مديره، أو أميره، فكذلك يستحق العقوبة في الدنيا والآخرة على ترك طاعة خالقه سبحانه.

     

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كل من بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دين الله الذي بعثه به فلم يستجب له؛ فإنه يجب قتاله ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾"[10].

     

    إن هدف الجهاد في الإسلام هو إعلاء كلمة الله، وإظهار دين الله، ولهذا فالإسلام لا يبيح القتال لغايات عدوانية، أو مقاصد مادية، أو لسيادة عنصر على عنصر، أو شعب على شعب، أو توسيع رقعة مملكة أو مكاسب اقتصادية أو أسواق تجارية مما تتخذه الدول القوية قديماً وحديثاً وسيلة لإشعال الحروب، وهدم السلم الدائم، فغاية الجهاد في الإسلام مبادئ كريمة يعم نفعها الناس جميعاً في الدنيا والآخرة.

     

    مشروعية جهاد الدفع وجهاد الغزو:

    الجهاد في الإسلام نوعان:

    1) جهاد دفع (في حال ضعف المسلمين).

    2) جهاد غزو (في حال قوة المسلمين).

     

    فإما أن يكون الجهاد لدفع العدو الذي غزا المسلمين إلى ديارهم، ويريد فتنتهم في دينهم، وإما أن يكون لغزو الكفار في ديارهم، لإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، فإذا أسلموا عرفوا أن قتال المسلمين لهم ما هو إلا علاج لأنفسهم الظالمة، ودواء لقلوبهم المريضة بالكفر والشرك، ولولا الجهاد في سبيل الله لفسدت الأرض ببقاء الكفر والضلال، قال الله: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251] أي: لولا الله يدفع عن قوم بآخرين لفسدت الأرض بالظلم والطغيان والمعاصي والعذاب ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 251] فمن رحمته بهم أنه يدفع أهل الباطل بأهل الحق؛ ولهذا شرع الله لرسوله الجهاد في سبيله.

     

    قال المباركفوري: "لم تكن من شيمة العرب أن يخضعوا لأحد، مهما طال القتال، ومهما غلا الثمن، فقد دام القتال بين بكر وتغلب في حرب البسوس أربعين عاماً، وكانت ضحيتها حوالى سبعين ألف مقاتل، ولم يخضع أحدهما للآخر، ودامت حروب الأوس والخزرج أكثر من مائة عام، ولم يخضع أحدهما للآخر، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالإسلام، قاتل العرب بأسلوب آخر حكيم، حتى فتح قلوبهم قبل أن يفتح بلادهم؛ ولذلك فإن مجموع من قُتِل في جميع غزواته وحروبه عليه الصلاة والسلام من المسلمين والمشركين واليهود والنصارى في حدود ألف قتيل فقط، في مدة لا تزيد على ثمانية أعوام.

     

    وفي هذه الفترة القليلة، وبإهراق هذا القدر القليل من الدم أخضع الجزيرة العربية كلها تقريباً، وبسط الأمن والسلام في ربوعها وأرجائها. إنها نبوة ورحمة، ورسالة وحكمة، ودعوة ومعجزة، وفضل من الله ونعمة، فقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام الحرب سبيلاً لإخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وسبيلاً لنصرة المظلومين، وكبت الظالمين، ولبسط الأمن والسلام على الأرض، وإقامة العدل" [11].

     

    وقال المباركفوري أيضاً: "إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ‑بالنسبة إلى المسلمين‑ مصادرة الأموال، وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما يهدفون إلى الحرية الكاملة للناس في العقيدة والدين ﴿ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [الكهف:29]، ولا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات" [12].

     

    فمن اختار طريق الإيمان فقد فاز فوزاً عظيماً، وله العزة في الدنيا والجنة في الآخرة، ومن اختار طريق الكفر فقد خسر خسراناً عظيماً، وله المذلة في الدنيا، والنار في الآخرة.

     

    فالإسلام يخيِّر الكفار بين الدخول في دين الله الذي ارتضاه لعباده أو التعايش مع المسلمين مع دفع الجزية، وإلا فالسيف والقتال لمن استكبر عن دين الله، ولا يسلط السيف على الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة الذين لا يقاتلون، قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190]

     

    أي: قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، ولا تعتدوا بقتال من لا يقاتلكم من النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم، والرهبان، وكذلك لا تحرقوا الأشجار وتقتلوا الحيوان لغير مصلحة، وكذلك لا تمثلوا بجثث القتلى ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾ [البقرة: 190][13].

     

    الحكمة من مشروعية الجهاد:

    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مقصود الجهاد أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هذا قوتِل، وأما من لم يكن من أهل المقاتلة كالنساء والصبيان والراهب والشيخ الكبير والأعمى والزَمِن [أي: المريض مرضًا لا يُرجى شفاؤه] ونحوهم فلا يُقْتَل أحد منهم إلا أن يقاتِل بقوله أو بفعله، فالقتال لمن يقاتلنا؛ وذلك أن الله تعالى أباح من قتْل النفوس ما يُحتاج إليه في صلاح الخلق، كما قال تعالى: ﴿ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ [البقرة: 217] أي: أن القتل وإن كان فيه شر وفساد ففي فتنة الكفار من الشر والفساد ما هو أكبر منه، فمن لم يمنع المسلمين من إقامة دين الله لم تكن مضرة كفره إلا على نفسه؛ ولهذا أوجبت الشريعة قتال الكفار، ولم توجب قتل المقدور عليهم منهم"[14].

     

    وقال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 193].

     

    أي: قاتلوا الكفار حتى لا يكون شرك، ويكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان الباطلة، فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم، ولا عدوان إلا على الظالمين، قال مجاهد: لا يُقاتَل إلا من قاتل[15].

     

    فالجهاد في الإسلام حرب دينية مشروعة عند كل عقلاء البشر المنصفين، وهي من أنقى الحروب من جميع الجهات: من ناحية الهدف، ومن ناحية الأسلوب، ومن ناحية الشروط والضوابط، ومن ناحية النتائج والآثار.

     

    ولولا الجهاد لضاع الدين الحق، وحل محله الباطل، ألم تر كيف تصدى الكفار لعيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم، حتى استصدروا أمراً بصلبه، فنجاه الله منهم، وما زالوا بالذين اتبعوه يضطهدونهم ويقتلونهم حتى مضت ثلاثة قرون وهم مشردون في الأرض، إلى أن تنصَّر الإمبراطور قسطنطين الوَثني في بدايات القرن الميلادي الرابع، وقال له بطريرك القسطنطينيَّة: "أعطني الدُّنيا وقد تطهَّرت من الملحدين، أمنحك نعيم الملكوت المقيم"، ويذكر القس مريك في كتابه "كشف الآثار" أنَّ قسطنطين أمر بقطع آذان. اليهود، وأَمَر بإجلائهم إلى أقاليمَ مُختلفة.

     

    والصراع حتمي بين الحق وأهله من جهة، والباطل وأهله من جهة أخرى، هذه سنة إلهية لا تتخلف، ووقائع التاريخ القديم والحديث تشهد على ذلك.

     

    قال الله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾ [الحج: 39 - 41].

     

    قال ابن كثير رحمه الله: ﴿ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ [البقرة: 251] أي: لولا أنه يدفع بقوم عن قوم ويكف شرور أناس عن غيرهم بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض، ولأهلك القوي الضعيف. والصوامع هي المعابد الصغار للرهبان، والبيع هي كنائس اليهود، والصلوات قيل: هي كنائس النصارى، والمساجد للمسلمين"[16].

     

    والجهاد في سبيل الله فيه مصالح عديدة، وفوائد كثيرة، دينية ودنيوية، قال الله تعالى: ﴿ كُتِب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ﴾ [البقرة:216].

     

    الرحمة في الجهاد:

    أمر الله رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بقتال الكافرين فقال: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ [الأنفال: 38 - 40].

     

    قال السعدي رحمه الله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ [الأنفال: 39] أي: شرك وصد عن سبيل الله، ويذعنوا لأحكام الإسلام، ﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39] فهذا المقصود من الجهاد لأعداء الدين، أن يدفع شرهم عن الدين، وأن يذب عن دين الله الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان" [17].

     

    وقد امتثل النبي صلى الله عليه وسلم أمر ربه، فجاهد في الله حق جهاده، ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام أكبر قائد عسكري في الدنيا، وأعمقهم فراسة وتيقظاً، استطاع بقتاله الكفار أن يفرض الأمن، ويبسط السلام، ويطفئ نار الفتنة، ويكسر شوكة الأعداء في صراع الإسلام والوثنية.

     

    وقد غير أغراض الحروب وأهدافها التي كانت تضطرم نار الحرب لأجلها في الجاهلية، فبينما كانت الحرب عبارة عن النهب والسلب، والقتل والإغارة وأخذ الثأر، وهتك حرمات النساء، والقسوة بالضعاف والصبيان، وإهلاك الحرث والنسل؛ إذ صارت هذه الحرب في الإسلام جهاداً في تحقيق أهداف نبيلة، وأغراض سامية، وغايات محمودة، فقد صارت الحرب جهاداً في تخليص الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؛ ليدخلوا في دين الإسلام الذي ارتضاه الله للعباد، فإذا أسلموا عرفوا أن قتال المسلمين لهم ما هو إلا علاج لأنفسهم لتسعد بدين الله، وما هو إلا دواء لقلوبهم لتطمئن بعبادة الله، ولولا الجهاد في سبيل الله لفسدت الأرض ببقاء الكفر والضلال، ولهدمت المساجد التي يذكر فيها اسم الله.

     

    وصارت الحرب في الإسلام أيضاً جهاداً في تخليص الإنسان من نظام الظلم إلى نظام العدل، وصارت جهاداً في تخليص ﴿ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 75]

     

    وصارت الحرب جهاداً في تطهير أرض الله من الغدر والخيانة والإثم والعداون، إلى بسط الأمن والسلام والرأفة والرحمة، ومراعاة الحقوق، وإعطاء كل ذي حق حقه، وأعظم ذلك أن يعطى الخالق حقه فيعبد لا يشرك به شيئاً، فمن أبى أن يعطي الخالق حقه، بل وقاتل من يدعو الناس إلى إعطاء الخالق حقه، وصد الناس عن دينه وعبادته؛ فهو أظلم الناس، ومن الرحمة بالناس أن يُزال هذا الطاغوت الذي يحول بينهم وبين عبادة خالقهم، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 114].

     

    وقد أمر الله رسوله بالغلظة على الكافرين المحاربين لدين الله، المانعين الناس عن توحيد الله، فقال: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [التحريم: 9]، وقال: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ [التوبة: 29]

     

    والرحمة هي الأصل في جهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان يضع الشدة والغلظة إلا في موضعها بما يوافق الحكمة والمصلحة، وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم بما أمره به ربه من جهاد الكافرين، وكان في جهاده لهم خير عظيم لهم أنفسهم، فالذين عُجِّل قتلهم فموتهم خير لهم من حياتهم؛ لأن حياتهم على الكفر ومحاربة دين الله ما هي إلا تكثير لسيئاتهم، وزيادة في تغليظ العذاب عليهم في الدار الآخرة، وأما المعاهدون الذين يدفعون الجزية فقد عاشوا في الدنيا آمنين في عهده وذمته، وهم أقل شراً بذلك العهد من المحاربين له.

     

    وكم حصل من خير عظيم بالجهاد في سبيل الله! ومن أعظم ذلك أن دخل في دين الله من كان يصدهم المحاربون عن سبيل الله، وينفرونهم عن توحيد الله، من أولادهم ونسائهم ومن وراءهم، بل وكم دخل في دين الله من المحاربين أنفسهم عندما جاء نصر الله! ومنهم من أُسِر فسمع كلام الله، ورأى أخلاق عباد الله، فآمن بالله، ونجا من النار بفضل الله.

     

    عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عجب الله من قوم يدخلون الجنة في السلاسل»[18].

     

    وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «عجبت لأقوام يساقون إلى الجنة في السلاسل وهم كارهون»[19].

     

    قال ابن الجوزي رحمه الله: "معناه: أنهم أُسِروا وقُيّدوا، فلما عرفوا صحة الإسلام دخلوا طوعاً فدخلوا الجنة، فكان الإكراه على الأسر" [20].

     

    فجهاد نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام ليس لأطماع دنيوية، ولا لمنافع مادية، وإنما هو لإعلاء كلمة الله، ولإنقاذ الكافرين من عذاب الله.

     

    مواقف من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الجهاد:

    ذكرنا أن الرحمة هي الأصل في جهاد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهرت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد في مواقف كثيرة، منها ما يلي:

    1) عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطى الراية يوم خيبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقال له: «انفُذ على رِسْلِك [أي: على مهلك] حتى تنزل بساحتهم [أي: بساحة اليهود]، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيه، فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»[21].

     

    فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم القائد بدعوة الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم، وأن يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله في الإسلام من العبادة والطاعة، وأخبره أن هداية رجل واحد منهم إلى الإسلام على يديه خير له من الإبل الحمر التي كانت أنفس وأغلى أموال العرب في ذلك الزمان.

     

    2) عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: «اغزوا، ولا تغُلُّوا [أي: لا تأخذوا من الغنيمة قبل قسمتها]، ولا تغدروا، ولا تُمثِّلوا [أي: بالقتلى من المشركين]، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم»[22].

     

     

    والثلاث الخصال هي:

     

    1 - الإسلام، فيكونوا مسلمين، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم.

     

    2 - الجزية، وهي مال يدفعونه للمسلمين مع بقائهم على دينهم.

     

    3 - القتال، فيقاتلهم المسلمون إن استكبروا عن قبول دين الله، وأبوا أن يدفعوا الجزية.

     

     

    4) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان»[23].

    وذلك لكون النساء والصبيان لا يقاتلون، ويلحق بهم كبار السن والأجراء الذي لا يعينونهم على قتال المسلمين، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث رجلاً إلى خالد بن الوليد وهو على المقدمة فقال: «قل لخالد: لا تقتلن امرأة ولا عسيفاً»[24] أي: أجيراً.

     

    5) عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إن الغادر ينصب اللهُ له لواءً يوم القيامة، فيقال: ألا هذه غدرة فلان»[25].

     

    وعموم هذا الحديث يدل أنه لا يجوز الغدر حتى في قتال الكافرين، وهذا من رحمة النبي عليه الصلاة والسلام في الجهاد.

     

    6) في غزوة الغابة طارد سلمة بن الأكوع رضي الله عنه المشركين الذي أغاروا على إبل المسلمين وقتلوا الراعي؛ حتى استنقذ جميع ما أخذوا، فقال سلمة: يا رسول الله! إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مائة رجل استنقذت ماعندهم من السَّرح، وأخذت بأعناق القوم [أي: غنمنا إبلهم، وأسرناهم]، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا ابن الأكوع! ملكت فأسجح»[26].

     

    قال النووي: "أي: فأحْسِن وارفق، ولا تأخذ بالشدة فقد حصلت النكاية في العدو ولله الحمد" [27] اﻫ مختصراً.

     

    7) عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة [أي: احتمى بشجرة] فقال: أسلمت لله، أفأقتله ‑ يا رسول الله ‑ بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقتله» قلت: يا رسول الله! إنه قد قطع يدي، ثم قال ذلك بعد أن قطعها، أفأقتله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تقتله»[28].

     

    فإذا أسلم الكافر فلا يجوز قتله، حتى ولوكان قد أضر بالمسلمين في الحرب، فإن المسلمين لا يريدون إلا أن يسلم الكافر وينجو من عذاب الله.

     

    8) عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت رجلاً منهم أنا ورجل من الأنصار، فلما غشيناه قال: لا الله إلا الله، فقتلته، فلما قدمنا بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: «يا أسامة! أقتلته بعدما قال: لا الله إلا الله؟ قلت: يا رسول الله! إنما كان متعوذاً [أي: قالها خوفاً من السلاح]، فقال: «أقتلته بعدما قال: لا الله إلا الله؟!» قال: فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم»[29].

     

    فالنبي عليه الصلاة والسلام غضب من أسامة أشد الغضب عندما قتل ذلك الرجل وقد قال: لا الله إلا الله، وكان ذلك الرجل ­‑كما تفيد الروايات‑ قد أثخن في المسلمين، وقتل منهم، ومع ذلك فقوله: لا الله إلا الله يعصم دمه.

     

    9) في سنة 6ﻫـ كان المسلمون في الحديبية يريدون أن يدخلون مكة معتمرين، فخرج ثمانون رجلاً من الكفار ليلاً، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، فاعتقلهم المسلمون جميعاً، فأطلق نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم سراحهم وعفا عنهم[30].

     

    10) عفا النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة عن كفار قريش مع القدرة عليهم، وهم الذين طالما ناصبوه العداء، وهذا غاية ما يمكن أن يصل إليه صفح البشر وعفوهم[31].

     

    11) عن هشام بن حكيم رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله يعذب يوم القيامة الذي يُعذبون الناس في الدنيا»[32].

     

    وهذا الحديث يبين أن الأسير لا يجوز تعذيبه، بل لا يجوز تعذيب أي إنسان كان بلا مبرر سواء كان مسلماً أو كافراً، وقد كان نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام يأمر بالإحسان إلى الأسرى، حتى إن كثيراً منهم أسلموا بسبب ما رأوا من حسن معاملة النبي عليه الصلاة والسلام لهم، ورحمته بهم[33].

     

    الرحمة بالكفار غير المحاربين:

    الأصل في الكفار غير المحاربين أن يعاملوا بالحسنى، قال الله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، بل أمرنا الله في حال مجادلتهم أن لا نجادلهم إلا بالتي هي أحسن، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 46].

     

    وقد بين العلماء أن الكفار أربعة أقسام:

     

    1 - محاربون: وهم الذين يقاتلون المسلمين.

    2 - مستأمنون: المستأمن هو: الحربي الذي دخل دار الإسلام بأمان دون نية الاستيطان بها.

    3 - معاهِدون: المعاهد من له عهد مع المسلمين إما بأمان من مسلم أو هدنة من حاكم أو عقد جزية.

    4 - ذميون: الذمي هو: المعاهد الذي أُعطي عهداً يأمن به على ماله وعرضه ودينه.

     

     

    فالكفار الذين يشرع أن يقاتلهم المسلمون هم المحاربون فقط الذي يصدون عن سبيل الله، ويمنعون المسلمين عن تبليغ دين الله، أما من عداهم من المعاهدين والمستأمنين والذميين فلا يجوز للمسلمين قتالهم، قال الله تعالى:﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4]، وقال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 6].

     

    فدين النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو دين السماحة والرحمة، وهو يسع الناس كلهم، ويغمرهم بالرحمة والإحسان، فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة إلى الخلق كلهم، والأحاديث في الرحمة بالكافرين غير المحاربين كثيرة منها ما يلي:

    1) عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «اتق دعوة المظلوم وإن كان كافراً»[34].

     

    هذا الحديث فيه التحذير من ظلم الكافر في نفسه أو ماله أو عرضه.

     

    2) عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إنكم ستفتحون مصر، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحماً»[35].

     

    هذا الحديث فيه معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام، فقد أخبر أن المسلمين سيفتحون مصر، وقد حصل ذلك فعلاً، وأوصاهم بالإحسان إلى أهلها مع أنهم كانوا أقباطاً غير مسلمين، وعلل ذلك بأن لهم ذمة أي: حقاً وحرمة، ورحماً لكون هاجر أم إسماعيل عليه الصلاة والسلام منهم.

     

    3) عن عمرو بن الحَمِق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «من أمّن رجلاً على دمه فقتله فأنا بريء من القاتل، ولو كان المقتول كافراً»[36].

     

    هذا الحديث فيه الرحمة بالكفار المستأمنين.

     

    4) عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من قتل نفساً معاهدة بغير حلها، حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها»[37].

     

    هذا الحديث فيه الرحمة بالكفار المعاهدين.

     

    5) عن رجل من الصحابة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً»[38].

     

    هذا الحديث فيه الرحمة بالكفار الذميين.

     

    6) عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن الله عز وجل لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم، ولا أكل ثمارهم؛ إذا أعطوكم الذي عليهم»[39].

     

    أي: إذا أدوا الجزية التي عليهم.

     

    7) عن رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «دعوا الحبشة ماودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم»[40].

     

    أي: لا تتعرضوا لهم إلا إن تعرضوا لكم، أما إذا دخلوا بلاد المسلمين قهراً فيجب قتالهم[41].

     

    وهذا الحديث يؤيد ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه يجوز عقد الهدنة بين المسلمين والكفار مطلقاً بدون تحديد مدة إذا كان في ذلك مصلحة للمسلمين، ويكون هذا العقد جائزاً غير لازم، بمعنى أن ينص العقد على أن للمسلمين أن ينقضوه متى ما أرادوا[42].

     

    8) عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء»[43].

     

    ويدخل في هذا سب من مات من الكفار ممن هو قريب للكفار غير المحاربين فيؤذيهم سبه، فهذا منهي عنه شرعاً.

     

    9) عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهِداً أو انتقصه أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفسٍ منه فأنا حجيجه يوم القيامة»[44].

     

    هذا الحديث كان مشهوراً جداً بين الصحابة والتابعين، فقد رواه ثلاثون راوياً من أبناء الصحابة عن آبائهم كما في رواية البيهقي[45].

     

    قال في عون المعبود: "«معاهداً» أي: ذمياً أو مستأمناً «أو انتقصه» أي: نقص حقه أو عابه «أو كلفه فوق طاقته» أي: في أداء الجزية بأن أخذ ممن لا يجب عليه الجزية أو أخذ ممن يجب عليه أكثر مما يطيق «فأنا حجيجه» أي: خصمه ومحاجه ومغالبه بإظهار الحجج عليه"[46].

     

    10) عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رهط [جماعة] من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: السام عليكم [أي: الموت عليكم] فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يا عائشة! إن الله يحب الرفق في الأمر كله» قالت: ألم تسمع ما قالوا؟! قال: «قد قلت: وعليكم»[47].

     

    وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول: السام عليك، فقولوا: وعليك»[48].

     

    الشاهد: أن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم لم يأمر بسبهم أو ضربهم، وقد ذكر الحديث الأخير الألبانيُ رحمه الله في "السلسة الصحيحة" وقال: "فهذا التعليل يعطي أنهم إذا قالوا: السلام عليك، يرد عليهم بالمثل وعليك السلام، ويؤيده عموم قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86] فإنها بعمومها تشمل غير المسلمين أيضاً، ويؤيد الآية على عمومها أمران:

    الأول: ما أخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1107) عن عبدالله ابن عباس قال: «ردوا السلام على من كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً، ذلك بأن الله يقول: ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]». ويقوي هذه الرواية ما روى سعيد بن جبير عن عبدالله بن عباس قال: «لو قال لي فرعون: بارك الله فيك، قلت: وفيك» وأخرجه البخاري في "الأدب المفرد" (1113)، وسنده صحيح.

     

    والآخر: قول الله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].

     

    فهذه الآية صريحة بالأمر بالإحسان إلى الكفار المواطنين الذين يسالمون المؤمنين ولا يؤذونهم، والعدل معهم، ومما لا ريب فيه أن أحدهم إذا سلم قائلاً بصراحة: السلام عليكم. فرددنا عليه باقتضاب: وعليك؛ أنه ليس من العدل في شيء بله البر، لأننا في هذ الحالة نسوي بينه وبين من قد يقول منهم: السام عليكم، وهذا ظلم ظاهر، والله أعلم" [49].

     

    هذا؛ وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجوز بدء الكفار بالتحية بغير لفظ السلام، كأن يُقال لأحدهم: كيف حالك، وكيف أصبحت، وكيف أنت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بداءتهم بالسلام، والسلام يتضمن الإكرام والدعاء؛ لأنك إذا قلت: السلام عليك فأنت تدعو له، أما هذا فهو مجرد ترحيب وتحية[50].

     

    إذاً: يشرع للمسلم أن يرد سلام الكافر غير الحربي إذا سلّم سلاماً صحيحاً، ويجوز أن يبدأه المسلم بالتحية بغير لفظ السلام، ويحرم عليه أن يبدأه بالسلام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تبدءوا اليهود ولا النصارى بالسلام، فإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه»[51].

     

    وإنما نهى عن ابتدائهم بالسلام لأن في ذلك إعزازاً لهم، وهم أعداء الله، فيجب أن يكونوا أذلين لكفرهم، ولكن نبي الرحمة لم يأمر بسبهم أو إيذائهم ما داموا مسالمين للمسلمين، أما قوله: «فاضطروه إلى أضيقه» فقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قال القرطبي: معناه: لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكراماً لهم واحتراماً. وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لقيتموهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه [أي: طرفه] حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب" [52].

     

    انتهى المقال بحمد الله المتعال، ولعلي قد وفِّقت فيه في الرد على من فرّط وجفا فأنكر مشروعية قتال الكافرين لكفرهم، وعلى من أفرط وغلا فجعل الجهاد بلا رحمة، والله الموفق وحده.

     


    [1] رواه البخاري (25) ومسلم (22).

    [2] "تاريخ ابن خلدون" (1/ 270).

    [3] "تفسير ابن كثير" (2/ 295).

    [4] "تفسير ابن جرير" (13/ 537).

    [5] تفسير ابن كثير (4/ 329).

    شبهات وقضايا