الخميس 2 مايو 2024 08:14 صـ 23 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    مراتب التعبُّد بالأسماء والصفات

    رابطة علماء أهل السنة

    مراتب التعبُّد بالأسماء والصفات

     

    مراتب التعبُّد درجاتٌ بحسب إيقان العبدِ بالله وخضوعه له وذلِّه بين يديه، وبحسب إيمانه بأسمائه وصِفاته وما يفتح له فيها من مَشاهد الإيمان ومراسم الإحسان؛ فمن الناس مَن يأخذ من ذلك ببصيصِ نور، ومن النَّاس مَن يأخذ كالشمعة، ومن النَّاس من يأخذ كالقنديل، ومنهم مَن هو أعلى من ذلك، ومنهم مَن يلامِس عنانَ السَّماء فنوره يشعُّ بين الخافقين، ﴿ هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 163]، و﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الجمعة: 4].

     

    قال العزُّ بن عبدالسلام: "وقد يَحصل التحديقُ إلى هذه الصِّفات من غير تذكُّر ولا استِحضار، والعارفون متفاوِتون في كثرة ذلك وقلَّتِه، وانقطاعه ومداومته، فهم في رياض المعرفةِ يتقلَّبون، ومِن نَضارة ثمارها يتعجَّبون، ولا تستمر الأحوال لأحدٍ منهم على الدَّوام والاتصال لتقلُّب القلوب وتنقُّل الأحوال، والغفلات حجُبٌ على المعارف مسدلات، إن أسدلَت على جميعها نكص العارِف إلى طَبْع البشر، فربَّما وقعَت منه الهفوات والزلَّات، فإذا انكشف الحجاب عن بعض الصِّفات، ظهرَت آثارُ تلك الصِّفة وأينعَت أثمارُها"[1].

     

    قال ابن القيم: "وإذا شرَح الله صدرَ عبده بنوره الذي يقذِفه في قلبه أراه في ضوء ذلك النور حقائقَ الأسماء والصِّفات التي تضلُّ فيها معرفةُ العبد؛ إذ لا يمكن أن يعرفها العبدُ على ما هي عليه في نفس الأمر، وأراه في ضوء ذلك النُّور حقائق الإيمان وحقائق العبوديَّة وما يصحِّحها وما يفسِدها، وتفاوتَت معرفةُ الأسماء والصِّفات والإيمان والإخلاص وأحكام العبوديَّة بحسَب تفاوتهم في هذا النور، قال تعالى: ﴿ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 122]، وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ﴾ [الحديد: 28]، فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النُّور عن حقيقة المثَل الأعلى مستويًا على عرش الإيمان في قلب العبدِ المؤمن، فيَشهد بقلبه ربًّا عظيمًا، قاهرًا قادرًا، أكبر من كلِّ شيء في ذاته وفي صِفاته وفي أفعاله، السموات السَّبع قبضةُ إحدى يديه، والأرضون السَّبع قبضة اليَدِ الأخرى، يمسِك السَّموات على إصبع، والأرضين على إصبع، والجبالَ على إصبَعٍ، والشَّجرَ على إصبَع، والثَّرى على إصبع، ثمَّ يهزُّهنَّ ثمَّ يقول: أنا الملِك، فالسَّموات السَّبع في كفِّه كخَرْدَلَةٍ في كفِّ العبد، يحيط ولا يُحاط به، ويحصر خلقَه ولا يحصرونه، ويدرِكُهم ولا يدرِكونه، لو أنَّ الناس من لدُن آدم إلى آخِر الخلق قاموا صفًّا واحدًا ما أحاطوا به سبحانه، ثمَّ يشهده في علمه فوقَ كلِّ عليم، وفي قدرته فوقَ كلِّ قدير، وفي جوده فوق كلِّ جواد، وفي رحمته فوقَ كلِّ رحيم، وفي جماله فوق كلِّ جميل، حتى لو كان جمال الخلائق كلهم على شخصٍ واحد منهم ثمَّ أُعطي الخلق كلهم مثل ذلك الجَمال لكانت نِسبته إلى جمال الربِّ سبحانه دون نِسبة سِراجٍ ضعيف إلى ضوء الشَّمس، ولو اجتمعَت قُوى الخلائق على شخصٍ واحد منهم ثمَّ أُعطي كلٌّ منهم مثل تلك القوَّة لكانت نِسبتها إلى قوَّته سبحانه دون نسبة قوَّة البعوضة إلى حمَلَة العَرْش، ولو كان جُودهم على رجلٍ واحد وكلُّ الخلائق على ذلك الجُود لكانت نِسبته إلى جوده دون نِسبة قطرَةٍ إلى البحر، وكذلك عِلم الخلائقِ إذا نُسِب إلى علمه كان كنَقرة عصفورَةٍ من البحر، وكذلك سائر صِفاته؛ كحياته وسمعِه، وبصره وإرادته...، فهو أوَّل مَشاهد المعرفة، ثمَّ يترقَّى منه إلى مَشهدٍ فوقه لا يتمُّ إلَّا به، وهو مَشهد الإلهيَّة، فيشهده سبحانه متجلِّيًا في كماله، بأمره ونهيه، ووعدِه ووعيده، وثوابِه وعقابه، وفضله في ثوابه...، وينكشف له في ضوء ذلك النُّورِ إثبات صِفات الكَمال وتنزيهه سبحانه عن النَّقص والمثال، وأنَّ كلَّ كمالٍ في الوجود فمعطيه وخالقه أحقُّ به وأولى، وكلُّ نقصٍ وعيب فهو سبحانه منزَّهٌ مُتعالٍ عنه، ويَنكشِف له في ضوء هذا النُّور حقائق المعاد واليوم الآخر وما أخبر به الرَّسولُ عنه؛ حتى كأنَّه يشاهده عيانًا، وكأنَّه يخبر عن الله وأسمائه وصِفاته، وأمره ونهيه، ووعدِه ووَعيده، إخبارَ مَن كأنَّه قد رأى وعايَن وشاهَد ما أخبر به، فمَن أراد سبحانه هدايتَه شرَحَ صدرَه لهذا فاتَّسَع له وانفسح، ومَن أراد ضلالتَه جعَل صدرَه من ذلك في ضيقٍ وحرَج لا يجِد فيه مسلكًا ولا مَنفذًا"[2].

     

    وقال ابن تيمية: "فإذا استقرَّ في القلب وتمكَّن فيه العلمُ بكفايته لعبده ورحمتِه له وحِلمه عنده وبرِّه به وإحسانه إليه على الدَّوام أوجَب له الفرَح والسُّرور أعظَمَ من فرَح كلِّ محبٍّ بكل محبوب سواه، فلا يزال مترقِّيًا في درجات العلوِّ والارتفاع بحسب رقيِّه في هذه المعارف؛ هذا في باب معرفة الأسماء والصفات"[3].

     

    درجة الكمال في التعبد بالأسماء والصفات:

    وأكمَلُ النَّاس في هذا الباب مَن تعبَّد اللهَ بجميع أسمائه وصِفاته ونال قصب السَّبقِ في عبوديَّة الله تعالى بها، وهذه مَنزلة تَحقيق العبوديَّة بالأسماء والصِّفات، قال ابن القيم: "أكمَل الناس عبوديَّةً المتعبِّد بجميع الأسماء والصِّفات التي يطَّلِع عليها البشَر، فلا تحجبه عبوديَّةُ اسمٍ عن عبودية اسمٍ آخَر؛ كمَن يَحجبه التعبُّدُ باسمه القدير عن التعبُّد باسمه الحليم الرَّحيم، أو يحجبه عبوديَّة اسمه المعطي عن عبوديَّة اسمه المانِع، أو عبودية الرَّحيم والعفوِّ والغفور عن اسمه المنتقِم، أو التعبُّد بأسماء التودُّد والبرِّ واللُّطف والإحسان عن أسماء العدلِ والجبروت والعظمَة والكبرياء، ونحو ذلك"[4].

     


    [1] شجرة المعارف والأحوال (43).

    [2] شفاء العليل (1 / 278 - 281).

    [3] دقائق التفسير (5 / 6)، مجموع الفتاوى (16 / 49 - 50).

    [4] "مدارج السالكين" (1 / 452).



    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/102958/#ixzz48TmIg6kx

    مقالات