الخميس 7 نوفمبر 2024 11:24 مـ 5 جمادى أول 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    ساعةُ البشريات

    رابطة علماء أهل السنة

    قال الله تبارك وتعالى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 30-31].

    آيات تختصر الطريق إلى الفوز بمحمود العاقبة ورضوان الله والجنة {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا}، ذلكم هو السبيل لا غيره.

    قالوا ربنا الله، والرب هو السيد المطاع المالك المدبر والفاعل المطلق في الكون، فهو مدبر أمر الخلائق جميعها بالإحياء والإماتة والرزق وتسيير شؤون الحياة وسائر حركات هذا الكون، فما من شيء إلا بإذنه وأمره.

    ولما كان هذا هو شأن الربوبية، فقول العبد (ربي الله) تحمل في معناها التوجه إليه وحده بالعبادة وإفراده بصنوفها وتوحيد الوجهة إليه، فمن ذا يستحق أن يعبد سوى ذلك الخالق المدبر القائم على كل نفس بما كسبت، وذلك هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، فلا معبود بحق سواه.

    فليس الفائز في هذا الطريق من اعترف مجرد الاعتراف بربوبية الله، فإن هذه الحقيقة لم ينكرها سوى قلة قليلة من البشر، حتى إن فرعون وملأه أيقنوا بها {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [النمل: 14].

    لكن لفظة (ربنا) تتضمن التوحيد بأسره علما وإقرارا وعملا، فليست مجرد تصور ومعرفة نظرية، وإنما عقيدة حيوية تدفع إلى العمل وتنعكس آثارها على نشاطات الجوارح، ولذا ارتبطت في الآية بمدلولها (الاستقامة)، ومن ثم لم تكن تعريفات الصحابة لأهل هذه الآية متضاربة، فالذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا هم «الذين لم يشركوا بالله شيئا..فلم يلتفتوا إلى إله غيره» كما قال الصديق أبو بكر.

    وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَلَا عُمَرُ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ: «اسْتَقَامُوا لِلَّهِ بِطَاعَتِهِ، وَلَمْ يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثَّعَالِبِ»، وَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثُمَّ أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ثُمَّ أَدَّوُا الْفَرَائِضَ، وبمثله قال ابن عباس رضي الله عنهما: {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} عَلَى أَدَاءِ فَرَائِضِهِ.

    وإنها لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الجامعة، تلخص أمر ديانة العبد، فعَن سُفْيَان بن عبد الله الثَّقَفِيّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ وَفِي رِوَايَةٍ: غَيْرَكَ قَالَ: (قُلْ: آمَنْتُ بِاللَّه ثمَّ اسْتَقِم) رَوَاهُ مُسلم.

    ومن بعد الامتثال لمقتضيات قول (ربنا الله) والاستقامة على أمره، يبدأ الحصاد من ساعة إقبال الموت، إذ {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ}، يتكرر نزولها على العبد بالبشارة، نقل القاسمي في تفسيره عن القاشاني قوله: «وإنما تنزلت الملائكة عليهم للمناسبة الحقيقية بينهم في التوحيد الحقيقي، والإيمان اليقيني، والعمل الثابت على منهاج الحق والاستقامة في الطريقة إليه. غير ناكثين في عزيمة، ولا منحرفين عن وجهة، ولا زائغين في عمل. كما ناسبت نفوس المحجوبين من أهل الرذائل الشياطين، بالجواهر المظلمة والأعمال الخبيثة. فتنزلت عليهم».

    وعندما تتنزل الملائكة على العبد في هذا المقام فإنها تحمل عدة بشريات:

    فأولاها {أَلا تَخَافُوا} على ما يستقبل من أمركم، وثانيتها {وَلا تَحْزَنُوا} على ما مضى، فنفوا عنهم المكروه الماضي والمستقبل.

    ثم جاءت البشارة الثالثة التي تتضمن الفوز العظيم {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} فقد حق وعد الله تبارك وتعالى، وأوجبها لعباده الصالحين الذين آمنوا بذلك الوعد {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا } [مريم: 61].

    ومعها بشارة رابعة في مرافقة الملائكة إياهم إلى الجنان، فكما كانوا أولياء وقرناء للعبد في الدنيا يحثونه على الخير ويحفظونه بأمر الله ويدعون له ويجاهدون معه ويدافعون عنه، فإنهم يرافقونه في قبره ولدى بعثه وعند حسابه إلى أن يدخل الجنة، وحتى في الجنة لا ينفكون عن مرافقته، فذلك حصاد قول العبد (ربنا الله) واستقامته على أمره، نسأل الله تعالى أن نكون من أهل هذا الفضل والمقام، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

    ساعةُ البشريات الإيمان العقيدة الاستقامة الربوبية التسليم

    مقالات