هل يجوز لحماس والمقاومة الاستجابة لخطة ترامب في إيقاف الحرب؟


الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
فإنّ هذه النازلة تخضع للنظر في المآلات، وقياس المصالح والمفاسد، مع استصحاب جملة من الأحكام الشرعية الثابتة، ولكي يصحّ الحكم ويسلم من المشوّشات يجب أن نفهم واقع النازلة فهمًا صحيحًا، ثم نقوم بتكييف المسألة؛ تمهيدًا للحكم، وسوف نلخص مسار الفتوى في هذه النقاط:
أولًا: جاءت البنود التي تخصّ حقوق الفلسطينيين فضفاضة هلامية غير منضبطة ولا محددة، وذلك مثل: (ستكون غزة منطقة خالية من التطرف والإرهاب ولا تشكل تهديدًا لجيرانها) (ستفرج إسرائيل عن عدة مئات من السجناء الأمنيين الفلسطينيين المحكوم عليهم بالسجن مدى الحياة) (سيتم منح العفو لأعضاء حماس الذين يلتزمون بالتعايش السلمي) (سيتم تشجيع سكان غزة على البقاء في القطاع وتوفير فرصة لهم لبناء مستقبل أفضل هناك) (ستسلم قوات الدفاع الإسرائيلية تدريجياً الأراضي التي تحتلها حالياً)، فجميعها وعود محلقة في الهواء وغير محددة ولا مزمنة، وذلك في الوقت الذي جاءت فيه البنود الخاصة بحقوق الصهاينة محددة وحاسمة وصارمة، وذلك مثل: (لن يكون لحماس أي دور في حكم غزة على الإطلاق) (في غضون 48 ساعة من قبول إسرائيل للاتفاق علناً، سيتم إعادة جميع الرهائن الأحياء والمتوفين).
وهذا يعني إعطاء إسرائيل الفرصة للتلاعب ببنود الاتفاق بعد إتمام الصفقة من جانب واحد بتسليم سلاح المقاومة وتسليم الرهائن وخروج حماس من المعادلة، وقد تواترت شهادات الواقع والتاريخ بأنّ الصهاينة والأمريكان لا عهد لهم ولا يرقبون في مؤمن إلًّا ولا ذمة، وعليه فإنّ بنود الاتفاق مشحونة بالمفاسد خالية من المصالح، وسيكون مآلها إنهاء المقاومة، وتصفية القضية الفلسطينية، وتكريس الهيمنة الصهيونية في فلسطين كلها وفي المنطقة بأسرها، وإعطاء نتنياهو نصرًا سهلًا؛ يدفعه لمزيد من التوغل في المشروع المزعوم، وبالتأكيد هذا الاتفاق الذي لا توجد أيّ ضمانات لتنفيذ إسرائيل ما يتعلق بها إن وقع - لا قدّر الله - سيكون سببًا في دخول المنطقة كلها في الاتفاق الإبراهيمي ثم الدين الإبراهيمي، طوعًا أو كرهًا، لاسيما وقد شهدنا استسلامًا تامًّا من الأنظمة العربية والإسلامية لخطة ترامب، على الرغم مما فيها من خروقات.
ثانيًا: لكن في المقابل توجد مفاسد جمّة ستترتب قطعًا على رفض الاتفاق، منها المزيد من القتل للأبرياء وسفك الدماء والتدمير والتهجير، مع التوقع - بغلبة الظنّ - ألّا يتحقق للمقاومة نصر عسكريّ وحسم للمعركة مع الصهاينة، ومنها إبعاد حلم حلّ الدولتين، وتقريب الحلم الصهيونيّ العنيد بالتهام الضفة وربما هدم الأقصى؛ تمهيدًا لنزول مسيحهم المزعوم حسب النبوءات التي يؤمنون بها، غير أنّ اعتبار هذه المفاسد والنظر إلى هذه المآلات يكتنفه كثير من العوارض، منها أنّ أحدًا لا يشكّ ولو للحظة في أنّ إسرائيل مستمرة في الذبح والتشريد مهما كان الوضع حسب الاتفاق، وتاريخها بل وواقعها الحاليّ يؤكد ذلك، فمن المتوقع بغلبة الظنّ أيضًا - إن لم يكن يقينًا - أنّه بمجرد تسليم المقاومة لسلاحها وتسلم الصهاينة للرهائن سيواصل نتنياهو الذبح، وستتضامن معه جميع طوائف الشعب الصهيونيّ، وسيُعْمِل المستوطنون السلاح في أبناء الوطن، وستدعمهم أمريكا، ولن تستحي أن تأكل وعودها، ولن تعدم الحيل للتملص منها.
ثالثًا: من المعلوم أنّ المقاومة هي التي اتخذت قرارها بالحرب وانفردت بإرادتها المستقلة بخوض (طوفان الأقصى)، وقد تكلّم البعض في مدى وجاهة هذا القرار من حيث التوقيت وحجم العمليات والنظر في المآلات، لكنّها دافعت باستماته عن قرارها - ونحن معها - فإن سلّمتْ اليوم سلاحها بعد أن راهنت الشعوب المسلمة عليها فسيكون ذلك خذلانًا للجيل كلّه؛ يجعله يتراجع على مستوى الأحلام والطموحات، وعلى مستوى الحراك الرامي إلى التغيير، وسيكون صدمة لشعوب العالم التي اتخذت غزّة (أيقونة) للحرية والكرامة والعزّة، وجوابًا عن السؤال الكبير الذي يفور داخل الإنسان المعاصر، وهو سؤال البحث عن حياة لها معنى، ولن تقوم للمقاومة - ومن ثمّ لأي ثورة أو حركة تحرير - بعد اليوم قائمة.
رابعًا: إذا نظرنا إلى الاتفاق - إن وقع - على أنّه هدنة؛ فإنّ جميع بنوده قاضية بفسادها وعدم توافر شروط صحتها وانعدام مشروعيتها، وإن نظرنا إليه على أنّه عقد إذعان حتمته الضرورة؛ فإنّ ما يدفعه هذا الاتفاق من مفاسد بمراعاة أحكام الضرورة واقع لا محالة ونافذ على أيّ حال، بل إنّ احتمال وقوعه مع الرخصة أشد من احتمال وقوعه مع العزيمة، وإذا نظرنا إلى القتال وعدم الدخول في اتفاق فإنّ الأصل الثابت فيه أنّه فرض عين لكونه جهاد دفع، ولا يرتقي اتفاق كهذا إلى المستوى الذي يسقط الفرض.
خامسًا: التكييف الصحيح لعملية تسليم المقاومة لسلاحها أو تخلي حماس عن أرض الإسلام في غزة أو التراجع عن الرباط والمقاومة - تحت أيّ مسمى أو اتفاق - هو الفرار من الزحف؛ لأنّ المقاومة الآن في الميدان، وتراجعها عن هذا الموقف ليس تحيّزًا إلى فئة ولا تحرّفًا لقتال، فالواجب قطعًا هو الثبات حتى لو أدّى ذلك إلى فناء المقاومين، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)) (الأنفال: 15-16)، هذه هي الآية التي يستدلّ بها على وضع كهذا، أمّا قول الله تعالى في السورة نفسها: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)) (الأنفال: 65-66)، فهذا لا يستدلّ به على الفرار من الزحف، وإنّما يستدلّ به على اتخاذ قرار الحرب قبل بدء القتال، فالآيتان تضعان معيارًا لمعرفة مدى تحقق شرط الاستطاعة للدخول في الحرب، وجاء هذا المعيار متحركًا بين حدّين أعلى وأدنى لاختلاف حال الأمة من وقت لآخر.
سادسًا: ويبقى أنّ حماس تستطيع أن تجد مخارج تعفيها من الصدام السياسي الصريح الذي قد يكلفها فقدان تعاطف بعض الدول، من ذلك أنّها حركة مقاومة، ولا تملك إلا الاتفاق على هدنة أو على وقف الحرب أو الاتفاق على تبادل أسرى، وحكمها لغزّة إنّما جاء في هذا الإطار، مثلما جاء حكم عباس في إطار التماهي مع التطبيع؛ ومن ثمّ فإنّها لا تملك الصلاحية لاتخاذ قرارات مصيرية تتعلق بالشعب الفلسطيني كله، كقرار تسليم السلاح وإنهاء المقاومة، وقرار التنحي عن مسئولية القطاع وتركه لأيّ جهة دولية أو غير دولية، والشعب ليس في حالة تسمح له باتخاذ قرار فيه تحديد للمصير؛ فالعدل أن يبقى التفاوض في حدود الهدنة وتبادل الأسرى، أمّا ما وراء ذلك فهو تقحم منا لأمر لا صلاحية لنا فيه.
سابعًا: يجب على شعوب العالم الإسلاميّ - يتقدمها علماؤها ومفكروها وأهل الرأي فيها - أن تعلن رفضها القاطع لهذه الخطة المدمرة، وتضامنها الكامل مع المقاومة وأهل غزة ومع القضية الفلسطينية عمومًا، وأن تبذل قصارى جهدها لنصرة المقاومة، وقد قضت الشريعة بوجوب ذلك .. والله المستعان.