الإثنين 1 سبتمبر 2025 07:03 مـ 8 ربيع أول 1447هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    غزة الشهباء .. والحرية الحمراء

    رابطة علماء أهل السنة

    لم يكن أمير الشعراء أحمد شوقي يقصد التعزية والمساواة؛ عندما قال هذه الكلمات الخالدة:

    فَـــفِــي الـقَـْتـلَـى لأجــيــالٍ حــيـــــاةٌ … وفـي الأسـرَى فِدىً لَهُمُ وعِتْقُ
    ولـــلـــحـــريـــةِ الــــحــــمــــراءِ بــــــــــــابٌ … بـــــكــــلِّ يــَـــــــدٍ مـُــضَـــرَّجَــةٍ يـُـــــــدَقُّ

    ولا يَفْهم مرادَهُ على الوجه الصحيح إلا من تَلَقَّى هذه الكلمات وهو في الوضع الصحيح، والوضع الصحيح هو ما عليه المقاومة الآن، وما ستكون عليه حتمًا في كل آن، الوضع الصحيح هو ما تدعو إليه هذه الكلمات القرآنية الخالدة: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ”، والفتنة ليست إلّا هيمنة الطغيان على بني الإنسان، وما يترتب على هيمنة الطغيان من حرمان الإنسان من الحرية الحقيقية؛ وبمجرد سقوط قوى الطغيان في أيّ مكان أو زمان يتوقف عمل السِّنان، ويبقى البلاغ والبيان، ويُنادَى: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ”، ويُسْتَأنف العمل بآيات لم تنسخ على الصحيح: “لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ”، “وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ”.

    ما هي الحرية الحقيقية؟ وأين هي؟

    هذه الحرية حقٌّ أعطاه الخالق للعباد؛ فهي من ثمَّ جزء من طبيعته؛ إلى حدِّ أنَه لا يملك التنازل عنه وهو في وضعه الطبيعيّ الذي فطره الله عليه، كما يقول روسُّو في العقد الاجتماعي: “تنازُلُ الإنسانِ عن حريته يعني تنازُلًا عن صفة الإنسان فيه … وتنازُلٌ كهذا يناقض طبيعة الإنسان”، ومن تأمل آيات القرآن التي تحدثت عن المبدأ الإنساني أيقن أنّ الإنسان والحرية ولدا في لفافة واحدة، وعندها لن يتعجب من تكرار هذه العبارة مئات المرات في التراث الإسلامي: “الشارع مُتَشَوِّفٌ للحرية”؛ ولن يندهش إذا قيل له: إنّ “لا إله إلا الله” هي منبع الحرية.

    وحينما وثبت الشعوب الأوربية وثبتها مطالبة بالحريّة لم تكن في حاجة إلى من يعرف لها الحرية؛ لقد كانت الحرية في أشعار “دانتي” و”بترارك” وفي نثر الإنسانيين شذىً لا يُعَرَّفُ ولا يُكَيَّف، كانت وروداً باسمة وأزهاراً ناعمة تُدِلُّ على النسيم وتنفث عطرها في روحه الممتدة المنسابة، فتستنشقها الشعوب في أنحاء القارة الأوربية، وتأخذها كَمَا هي بلا حاجة إلى تفسير أو تأويل؛ فكان ما كان من تفجير فجر النهضة، إلى أن جاء عصر التقعيد الفلسفيّ tانطلقت الأقلام في تعريف وتكييف وتوصيف الحرية، وغدت تمزقها الاتجاهات المتعارضة؛ فيُغَرِّبُ بها مِلْ وبنثام وسميث وتوكفيل، ويُشَرِّقُ بها هيغل وإنجلز ونيتشه وماركس، فإذا اجتمع شملها يوماً أو اتحدت قواها ساعة امتطى الإمبرياليون أصحاب الأهواء وأرباب الأموال والسلطة ظهرها بغرض استعمار البلاد واستحمار العباد، وإخراج الخلق من الأمن إلى الخوف ومن الطمانينة إلى الفزع؛ باسم التحرير والتنوير، وبذريعة: “التحول الديموقراطي!” فانقلبت الحرية الحقيقية إلى حرية مضادة تركب متن ثورة مضادة؛ لتنحسر الحرية عن كثير من المساحات الإنسانية؛ وتنحصر فيما تتلهى به الشعوب من ألوان الشذوذ والانحراف الخلقي الذي تمارسه باسم الحرية الشخصية، وقبل ذلك حرية الرأسماليّ في امتصاص دماء الخلق والتهام لحومهم.

    أين المعنى وأين القيمة؟

    واليوم ومع افتقاد المعنى والقيمة، وتحول الإنسان إلى سلعة، تعالت صرخات الباحثين عن حياة لها معنى، وهذه نُتَفٌ يسيرة من أقوال المفكرين الغربيين، أُزْجيها على استحياء، يقول “كارلو سترينجر” في كتابه “الخوف من الأفول”: “هكذا وصل عصر (العجل الذهبيّ) إلى ذروته، وباتت منظومات الفكر والمعتقدات مجرد سلع تتحدد قيمتها وفقًا للعرض والطلب، مثل أيّ شيء آخر”، ويقول “جي ديبور” في كتابه “مجتمع الاستعراض”: “وهكذا تنشأ في اقتصاد الخدمات وأوقات الفراغ الآخذة في التوسع صبغة الدفع المحسوب على أساس شامل للوسط الاستعراضي المحيط، وللانتقالات الجماعية الزائفة لقضاء الأجازات، وللاشتراك في الاستهلاك الثقافي، ولبيع المودة الاجتماعية ذاتها في المحادثات المشبوبة واللقاءات مع الشخصيات، وهذا النوع من السلع الاستعراضية، الذي لا يمكن بالطبع أن يجد رواجًا إلا بسبب البؤس المتزايد للوقائع المناظرة له، ظهر كذلك بالطبع بين السلع الرائدة لتقنيات البيع الحديث؛ لأنه قابل للدفع بالأجل”، ويقول “آلان دونو”: “كان رئيس جامعة مونتريال يؤمن أنّه إنّما يوضح مسلَّمةً عندما صرَّح في خريف عام 2011م بأنّ “العقول ينبغي أن تفصل وفق احتياجات سوق العمل”، ويقول “ألفريد إيكس الابن”: “الاتجار بالبشر والسخرة وظروف العمل السيئة والمنتجات غير الآمنة وتدمير البيئة؛ هذه جميعها قضايا مستمرة”، ويقول “آلان تورين”: “فليس في واقع الأمر من ديمقراطية دون اختيار حر للحاكمين من قبل المحكومين، ودون تعددية سياسية، لكن لا يمكن الكلام على الديمقراطية إذا لم يكن أمام الناخبين من خيار إلا بين فريقين من الأوليجارشية أو الجيش أو جهاز الدولة، ويقول: مؤلفا “الأناركية”: “وحيث يجادل أنثروبولوجيون مثل جوناثان فريدمان بأنّ العبودية العتيقة كانت في الحقيقة مجرد طبعة أقدم من الرأسمالية؛ يمكننا نحن بنفس السهولة بل بسهولة أكبر بكثير في الحقيقة أن نجادل بأنّ الرأسمالية الحديثة هي في الحقيقة طبعة أحدث من العبودية”، ومئات المؤلفات التي تحوي آلاف الصرخات تتعالى وتتوالى.

    غزة أيقونة الحرية للمرحلة القادمة في حياة البشرية

    لن تسلم المقاومة سلاحها، ولن تتوقف عن المقاومة؛ ليس فقط لأنّها كانت ولا زالت أمل الأمة في التحرر من الهيمنة الصهيونية، وإنّما لذلك ولأمر آخر استجدّ في العمق الإنسانيّ، وفي الوجدان البشريّ، وهو أنّها صارت أيقونة الحرية والمعنى والقيمة لشعوب الأرض كلّها، فلقد استيقظت الشعوب على وعيين متوازيين، الأول زيف المبادئ التي تعتاش عليها تحت ظلّ النظام العالميّ المهيمن، وعظمة وسمو النموذج الفلسطيني الغزاوي الباعث، نموذج الثائر المثابر التوّاق للحرية الحقيقية، الحرية الحمراء التي لا يدقّ بابها إلّا بكل يد مضرجة، إنّ الجديد الذي لمسناه في الحراك العالمي الشعبيّ المساند لغزة هو أنّه ليس مجرد تعاطف أو انتفاضة إنسانية، وإنّما إلى جانب ذلك وربما قبله هو إعجاب بالنموذج وإكبار وإجلال للتجربة، ومن تَفَرَّسَ الأحداث التي فاضت من الجامعات الكبرى وانساحت في الشوارع وانداحت في الميادين وسبحت فوق أمواجها باقات الدعم الفكري والخطابي من كبار المفكرين المرموقين أمثال “نعومي كلاين”؛ سوف تتأكد له هذه الحقيقة، فالمجد للمقاومة، والويل لكل من يتآمر على حرية الإنسان وقيمته، والله غالب على أمره.

    غزة الشهباء الحرية الحمراء المقاومة العدل أيقونة أمل

    مقالات