الأحد 19 أكتوبر 2025 10:00 مـ 26 ربيع آخر 1447هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    المسؤولية التضامنية لحماية المجتمع من الرذيلة

    رابطة علماء أهل السنة

    من المسؤول عن حماية المجتمع المسلم من تفشي الرذيلة؟ سؤال قد يبدو بسيطاً؛ لكون الظاهر من خطاب القرآن والسُّنة أنَّه يُحَمِّل الجميع هذه المسؤولية الكبيرة، غير أنَّ هذه البساطة البادية لا تغني عن تناول المسألة بشكل مفصل؛ لمواجهة ما استجد من أقوال وأوضاع شوشت كثيراً على الحقيقة كما يشوش الغيم على قرص الشمس الساطع في علياء السماء.

    وقد سميت رذيلة؛ لتدنيها ورداءتها، وسميت فاحشة؛ لتفَحُّشها ومجاوزتها الحد في الدناءة والرداءة، ثمَّ استقلت باسمها المقيت «الزِّنَى»؛ وهي لا ريب من كبائر الذنوب، وهذا بإجماع لا يعتريه خَلل ولا تتولجه عِلل، وقبل الإجماع قامت الأدلة من الكتاب والسُّنة شاهِدَةٌ وسانِدَة، ففي محكم التنزيل: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) (الإسراء: 32)، وهو نهي عن دواعي الزنى، وهذا أبلغ في الزجر، وفي سورة «الفرقان» وعيد من النوع الذي لا يكون إلا على الموبقات: (وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) (الفرقان: 68).

    من المسؤول عن حماية المجتمع من الرذيلة؟

    من المسؤول؟ أهو الفرد المسلم وحسب؟ باعتباره هو المخاطب رأساً بالانتهاء عن الزنى، وبالنظر إلى المآل؛ حيث إنَّ النتيجة الطبيعية لالتزام الفرد بأمر الله هنا وانتهائه عما نهى عنه هي طهارة المجتمع من الرذيلة وتخلصه من آثارها المدمرة، أم إنَّ دائرة المسؤولية تتسع لتشمل الدولة؛ باعتبارها الراعية للمجتمع والمسؤولة عن حمايته من كل الأخطار؛ انطلاقاً من حديث: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ»، وتشمل المجتمع في مجموعه، شمولاً يثير واجبات كفائية إيجابية، ويمنع عادات وسلوكيات سلبية، وتشمل الأسرة كوحدة تنظمها علاقات وثيقة الصلة بتربية النشء ورعايتهم، ولا تقف عند حدود الفرد المخاطب بالتكليف مباشرة؛ لكون الأمور العظام لها في دين الإسلام عظيم الاهتمام؟

    لا أعتقد أنَّ الإجابة عن هذا السؤال خافية، غير أنَّ إعادة طرحه له دلالات هي في جوهرها أسباب إثارة هذه القضية، فليس خافياً على أحد أنَّ المجتمع المسلم مستهدف من قبل الكفار في الخارج والمنافقين في الداخل، مستهدف بالإفساد، وأنَّ حجم الفتنة ووزنها الآن بالنسبة لما يُرَتّب له في المستقبل قليل وضئيل؛ برغم ما يعانيه المجتمع من هذا الاستهداف، وأنَّ الاكتفاء بتوجيه الخطاب للفرد بأن يحمي نفسه من الفاحشة بمثابة الإلقاء بطفل في اليم ومطالبته بأن ينقذ نفسه من الغرق، وهذا بطبيعة الحال لا يبرر للفرد ارتكاب الفاحشة بذريعة عموم الفتنة وثقلها، فالفرد مكلف على كل حال بطاعة ربه تحت كل الظروف.

    طريقة القرآن في علاج هذه المشكلة

    وخطاب القرآن يُشعر بأنَّ المواجهة لم تكن مع جريمة ترتكب من أفراد وحسب، وإنَّما كانت مع جاهلية ترعى الرذيلة وتظللها، وأنَّ طبيعة هذه المواجهة أنَّها معركة متعددة الجبهات واسعة المدى، وها هي المعركة ذاتها تعود بأعنف مما كانت، فلا يسوغ الوقوف عند التصنيف المتأخر عن الكبائر الذي جرى في مجتمع مسلم سالم من الآفات، وإنَّما يجب علينا أن نعود لخطاب القرآن بسعته وشموله وسخونة المعركة التي يقودها ويمدها بوقودها؛ وهذا أمر طبيعيّ بعد أن استدار الزمان كهيئته يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في غربة بين محيط من الجاهليات التي تلف الكرة الأرضية.

    إنَّ نظرة سريعة في الآيات التي تحدثت عن جريمة الزنى والحدّ الذي شُرع لها ولقذف المحصنات، والآيات التي تحدثت عن الحجاب وغض البصر وآداب الاستئذان، والآيات التي تأمر بتزويج الأيامى وعدم إكراه الفتيات على البغاء، وغيرها من الآيات كفيلة بتقرير الحقيقة الكبرى بصورة قطعية، وهي أن خطاب القرآن فيما يتعلق بجريمة الزنى ليس خطاباً وجدانياً وحسب، وليس موجهاً إلى الفرد المكلف فقط، وليس هو الخطاب الذي يحصر المسؤولية في أشخاص المكلفين ويجعلها مسؤولية فردية لا علاقة لها بالمؤسسات التي تقوم في المجتمع ولا يقوم المجتمع إلا بها.

    وإنَّما هو خطاب وجدانيّ وعمليّ، خطاب يحمل المسؤولية لكل ما يُوجد الإنسان فيه من أطر ودوائر ومؤسسات ومراكز، وهذا أمرٌ طبيعيٌّ ومنطقيّ، وبدونه لا يمكن أن يكون شأن الحياة الإنسانية طبيعياً ولا منطقياً؛ فالإنسان مدنيٌّ بطبعه، والمجتمع الإنسانيُ كالجسد الواحد إذا عطب منه عضو سرى العطب في أنحائه وانتشر في أرجائه.

    توزيع المسؤوليات في كتاب الله

    فالدولة عليها مسؤولية؛ إذ هي التي تتولى -من خلال مؤسسات العدالة- إقامة الحدّ الذي فرضه الله تعالى؛ عقوبة للزانية والزاني؛ وزجراً لأمثالهما، والمجتمع -بما يسود فيه من عادات وتقاليد وأخلاق وسلوكيات- منوط به حماية الحمى الذي يحيط بجريمة الزنى، ووضع الحواجز التي تمنع من اقتحامه، وتنهى عن اهتضامه، فالاستئذان والاحتشام وغض البصر وغيرها من الأخلاق والسلوكيات يجب أن تتحول إلى عادات متبعة وأنماط حياة محترمة.

    وألا يقف أمرها عند مجرد ممارسات فردية إن ظفرت بالحرية لم تسعد بالرضا العام، وهذا أمر لا يكون إلا بأن يكون المجتمع المسلم مؤسسة كبرى لها قيمها المستمدة من القرآن، ولها قياداتها المهتدية بهدي القرآن، والأسرة كذلك بمكوناتها وعناصرها يناط بها واجبات كبار، ذكر القرآن منها ما يكفي للتنبيه به على أمثاله وأشكاله، وهو تدريب الأطفال والغلمان على أدب الاستئذان، ولا سيما في الأوقات التي هي مظنّة الانكشاف؛ بغرض الحفاظ على طاقة الحياء الفطرية.

    وعلى هذا النحو يجب أن نقوم بتنزيل الآيات الراعية للفضيلة والحامية للحمى الذي لا يجوز أن يستباح، وإنَّني لأنظر إلى آية من هذه الآيات نظرة لا تختلف عن نظرة المفسرين الأوائل لها وإن اتسعت لتشمل كثيراً مما لا تقصر الآية عن شموله واستيعابه، قول الله: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) (النور: 32)، فغالب المفسرين على أنَّ الخطابَ فيها للأولياءِ والسَّاداتِ، ولا يملك أحد أن ينازع في أن هذا الأمر لهم كما قال المفسرون، ولكن لا يملك أحد أن ينازع في أنَّ الأمر ليس مقصوراً عليهم ولا محصوراً فيهم؛ إذ ليس في عبارات المفسرين ما يفيد القصر أو الحصر، وليس في منطوق الآية ولا سياقها ما يمكن أن نبرر به القصر الحصر.

    فالآية خطاب للمسلمين، والمسلمون ليسوا غنماً تساق ولا شذاذ آفاق، ولكنَّهم أمَّة وكيان ومجتمع ودولة ومؤسسات ونظام، والأصل أن الخطاب إذا كان عامَّاً شمل شمولاً لا يستثني أيَّ نوع كما لا يستثني أيّ فرد، ومعالجة الأمر على هذا النحو أفضل وأقوم من أن نلجأ إلى قاعدة: «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، وإن كان اللجوء إليها في الأمر الذي نعالجه كاف وواف.

    فيجب على الأولياء تجاه من لهم عليه ولاية، وعلى المسؤولين -بما يختصون به من صلاحيات- تجاه الرعية، وعلى الدولة -بما تملكه من اقتصاد عام ومؤسسات راعية للعدالة الاجتماعية- تجاه الشعب، وعلى المجتمع -بما يستقر فيه من عادات وتقاليد وأعراف تتفق مع روح الشريعة ومقاصدها ولا تخالف أحكامها- تجاه كل نسمة فيه؛ يجب على هؤلاء جميعاً أن تتجه تصرفاتهم وفعالهم وتدابيرهم إلى تيسير أمر النكاح وتدبير شأن الزواج، كل بما هو ميسر له ومؤهل للقيام به.

    إنَّنا أمام تحدٍّ كبير وخطر جسيم؛ فإمَّا أن نهتدي بهدي القرآن فنقوم بما يلزم تجاه حماية المجتمعات الإسلامية من الرذيلة، أو يكون السقوط الكبير في هوة الضياع السحيقة، والله نسأل السلامة والعافية للمسلمين أجمعين، والهداية للبشرية جمعاء.

    المسؤولية التضامنية حماية المجتمع الرذيلة الفرد الدولة

    مقالات