موجز تاريخ خلافة ذي النورين
الأستاذ محمد إلهامي - باحث في التاريخ و الحضارة الإسلامية رابطة علماء أهل السنةموجز تاريخ خلافة ذي النورين
استعرضنا في المقالات السابقة موجزا لتاريخ خلافتي أبي بكرالصديق –رضي الله عنه- وعمر بن الخطاب –رضي الله عنه- وها هو الموعد مع خلافة ذي النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه.
لقد سار عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على سيرة الراشدين أبي بكر وعمر في الحكم، وكانت أولى خطبه مؤسِّسة للمفاهيم والأصول ذاتها التي أسس لها خطاب الشيخين؛ من حيث إن الخليفة وكيل عن الأُمَّة، وليس وصيًّا عليها، وأن للأُمَّة حقَّ مقاومة انحرافه عن القانون الذي هو الشريعة النازلة في القرآن والسُّنَّة، وأن أمر الأُمَّة تحكمه الشورى، وأن العدل بين الناس والمساواة بينهم في الحقوق واجب من واجبات الخليفة.
غير أن ثمة إضافة جديدة مميزة في خطابه إلى الناس؛ ألا وهي التوصية بالزهد في الدنيا، ففي ذلك الوقت كانت الدولة الإسلامية قد أقبلت عليها الأموال من كثرة الفتوح والغنائم والتنظيم الإداري القوي، وكان حريصًا في رسائله إلى الولاة والقادة العسكريين على التأكيد أن النظام الذي وضعه عمر لم يتغيَّر؛ لأنه كان في الأساس على مسمع ومرأى ومشورة من أهل الحلِّ والعقد، ومنهم عثمان.
وكان أهمُّ ما يُمَيِّز عثمان - رضي الله عنه - أخلاقه السهلة الرقيقة، فكان صورة للحلم والعفو والصفح والتواضع، وكان أكثر الناس حياءً، وكان هذا هو السمت الغالب على شخصه، وكل هذا لا ينافي أو ينقص ما كان عليه من حزم وشجاعة! كما كان مثالًا في الزهد والخوف من الله، والبكاء من خشيته.
وواصلت المؤسَّسات الإدارية نهوضها ونضجها في عهد عثمان بن عفان على الأسس والقواعد ذاتها التي وضعها عمر، مع فوارق في التفاصيل والأساليب فرضها تغيُّر الظروف والمسائل المستحدثة، فتدفَّقت الأموال وعمَّ الرخاء دولة الإسلام.
وقد كان عثمان حاكمًا يقظًا، يُراقب الولاة في كل الأنحاء، ويحرص على اختبار سير الأحوال في الدولة، وكان يتعرَّف على نبض الأُمَّة من خلال حضوره لموسم الحجِّ؛ حيث يستطيع أي إنسان أن يشكو فيه الوالي على بلده، كما كان يسأل القادمين إلى المدينة عن الأحوال، واتخذ من أهل البلاد مَنْ يكتب التقارير إليه، وهذا بخلاف الإجراءات المعتادة؛ كإرسال المراقبين من عنده أو طلب قدوم الولاة إليه، أو الرسائل المتبادلة.
لكن كل هذه الإنجازات تهون أمام هذا القرار الذي هو أهمُّ قرارات عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ وهو جَمْع الأُمَّة على مصحف واحد، وقد اتخذ هذا القرار بعد البحث والشورى والاتفاق مع وجوه الصحابة وكبارهم، وكان الدافع إليه أن البلاد المفتوحة على اتِّساعها قد تلقَّت القرآن عن الفاتحين والعلماء والصالحين، ولكنهم مع طول الوقت وتباعد البلاد أدخلوا اللهجات المحلية في قراءته، ثم بدأ يظهر بينهم التنازع حول القراءة الصحيحة، فكانت الخشية أن يتنازع الناس في القرآن، وأن يعود هذا عليه بالتحريف، فكان قرار الدولة الإسلامية بقيادة عثمان بن عفان هو جمع المسلمين على مصحف واحد، معتمد منسوخ من النسخة التي جُمعِت في عهد أبي بكر - رضي الله عنه -، ثم إرسالها إلى الأمصار لتكون وحدها نسخة المصحف التي تُحاكم إليها اللهجات واللغات المحلية؛ وبذلك حُفِظت الوحدة الإسلامية، وحمى الله كتابه من التحريف والتبديل، الذي انتهت إليه كتب الأمم السابقة.
واستمرَّت مسيرة الجهاد والفتوح تتقدَّم وتُواصل فتحها البلاد والقلوب؛ فقد فُتِح في عهد عثمان بلاد أذربيجان، وطبرستان، والمناطق في جنوبي وغربي بحر قزوين وبلاد القوقاز، وقُتِل الملك الفارسي الأخير يزدجرد، ووصلت الفتوحات إلى خراسان ، وتجاوزت كل الجنس الإيراني، ثم بدأت مواجهة الجنس التركي -الذي يقطن مناطق وسط آسيا- من بعد نهر المرغاب، وفتحت بلاد النوبة في مصر، وغيرها من الأنحاء في الشمال الإفريقي.