السبت 2 نوفمبر 2024 05:02 مـ 29 ربيع آخر 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    بحوث ودراسات الفقه وأصوله

    لا يؤخذ من أموال الناس حتى تفرغ خزانة الدولة... ولكن!

    رابطة علماء أهل السنة

    الفقه الاسلامي ظاهرة حضارية، فرض نفسه على وقع الناس، وهو يجيب عن متطلبات حياتهم اليومية، ولا يقفز حتى عن دقائق الأمور مهما دقت.

    و عندما نقلب صفحات فقهنا الموروث نقف على إشارات نادرة تٌعرب عن العقلية الجبارة التي كان يتمتع بها اسلافنا من جهة، ومن جهة اخرى القوة في الصدع بكلمة الحق التي تبقى مدوية في صدى التاريخ لتدق إذنك بعد قرون، كأنهم يتحدثون عن ألام ومآلات الأمة بنظر زائد على ما هم عليه.

    ومن هذا الموروث المهمش على صفحات التاريخ هذه المواقف والقصص والعبر، التي لا تقف عليها في كتاب فقهي فروعي، ولا في مسائل متداولة، ولكن في مواقف فرضت نفسها على أن تنحت في صفحات التاريخ بقلم من حديد وعلى ورق من رخام.

    =======#الفقه الموروث:

    قال الإمام المقري: وكان أبو زيد(ت:٧٣٤) [ترجمته في آخر المنشور] من العلماء الذين يخشون الله.

    حدثني أمير المؤمنين المتوكل أبو عنان أن والده أمير المسلمين أبا الحسن ندب الناس إلى الإعانة بأموالهم على الجهاد.

    فقال له أبو زيد: لا يصح لك هذا حتى تكنس بيت المال، وتصلي ركعتين كما فعل علي بن أبي طالب".

    -------- كتاب نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب/ ت: إحسان عباس -

    =======#فقه النوازل :

    لقد كثر الكلام عند فقهاء بلدنا جزاهم الله خيرا حول حكم الأخذ من أموال الزكاة من أجل شراء معدات الأكسجين.

    وكنت قد وضعت فتوى بهذا الشأن، واعترض عليها جلة من فقهاء بلدنا لهم رسوخ في التنظير والتفريع وخلاصتها عدم الخروج عن المرسوم في مستحقي الزكاة الثمانية.

    و ما عداها فلها مواردها وسبلها من غير حق الله.

    وكلامهم متجه من حيث المحافظة على رسوم الشريعة، وحتى تبقى الأحكام مرهوبة الجانب في نفوس المكلفين.

    وهذا الكلام كما ذكرت صحيح ويجري على الأصل.

    ولكن فتواي كانت تجري على الاستثناء، وقيدتها في آخر الفتوى بملاحظة، ذكرت فيها أن الأصل هو شراء هذه المعدات من التبرعات ومطلق الصدقات، ولا يتوجه إلى الزكوات إلا في حالة قصرت هذه النفقات عن الايفاء بمستحقات هذه الأجهزة، وبلغت الأمور حد الضرورة التي تهدر كلية من كليات المقاصد وهي حفظ النفس.

    ولكن للأسف اغلب المعقبين لم ينتبهوا إلى هذه الملاحظة في آخر الفتوى، حتى انبههم عليها.

    ======#وقفات مع فتوى أبي زيد:

    #اولا: قوله : كان من العلماء الذين يخشون الله.

    وهذا ما سطره الامام سفيان الثوري عندما قال : الفقه رخصة من ثقة أما التشدد يحسنه كل أحد ".

    فهم علماء أمة لا علماء سلطة، و كانت كلمتهم مسموعة و مكانتهم مرفوعة.

    #ثانيا: أنه ندب الناس للإعانة على الجهاد.

    1_قوله (ندب) وهو طلب من غير جزم ولا إيجاب، فدعاهم للمساعدة الطوعية.

    2_ الموضوع يتعلق بأهم شعيرة و هي الركن السادس بعد الأركان الخمس، و هو ذروة سنام الإسلام ألا وهو (الجهاد)

    3_ ولقد صرح بل يكاد يجزم المفسرون أن المعنى الأصلي في قوله تعالى (في سبيل الله) الوارد في مستحقي الزكاة الثامنية هو (الجهاد) .

    وهذا لا ينفي وجود معاني أخرى لمدلول في (سبيل الله) حيث أوصلها الفقهاء إلى خمسة معاني، و الأصلي منها ما ذكرناه، ولكن لا ينفي ما عاداه وهو ما رجحه المجمع الفقهي، وندوة الزكاة والقضايا المعاصرة.

    وأساس الخلاف يدور بين الحقيقة الشرعية والحقيقة اللغوية.

    4_ المهم أن المعنى الأصلي قد صرح به في هذه القصة، وهو جمع المال من أجل( الجهاد).

    5_ و لا خلاف بين العلماء أن الجهاد من أنصبة الزكاة من غير نكير.

    #ثالثا: هل يجوز أخذ المال عن عامة الناس من غير الزكاة، لأجل الجهاد…؟

    فجواب العلامة المالكي أبو زيد بن الإمام٠ هو عدم الجواز، حتى يفرغ بيت المال ويكنس، أي نظف من أي فلس موجود فيه، عند ذلك يمكن طلب مساعدة العامة في الجهاد، بل ربما يتعين عليهم ذلك عند عجز الدولة عن تحقيق هذا المقصد.

    ======تساؤل مشروع :

    ولهذا يستغرب كثير من الأفاضل لماذا نلجأ إلى أخذ مال الزكوات من أجل شراء معدات الأكسجين أو التطبيب؟

    #أولا: تخرج على أي نصاب من أنصبة الزكاة؟

    #ثانيا: إن قلنا تخرج على نصاب (في سبيل الله) فهذه مسألة خلافية والأصل فيها أن تحمل على معنى الجهاد فقط ابتداء.

    وعلمنا من الفتوى السابقة، أن حتى الجهاد الذي هو من الأنصبة فلا يؤخذ إلا من له حق عليه في ماله.

    ولا يجبر ولا يطلب منه حتى تفرغ خزانة الدولة.

    #ثالثا: إذا تجاوزنا وقلنا نوسع دائرة دلالة (في سبيل الله) و نقول أنها تشمل وتسوعب كل صور البر والمعونات والمساعدات الخيرية.

    ولكن هذا كذلك لا يمكن أن يلجأ إليه بناء على الفتوى السابقة لعلامة المالكية حتى تكنس الخزينة العمومية، ولم يبق فيها دينار، عند ذلك يلجأ إضطرارا للأخذ من أموال العامة في غير حق الزكاة.

    ======#تساؤلات مشروعة!!!

    1 _الدولة تصرح أن احتياطها تجاوز 44 مليار دولار. فلما لا تقتطع بعض المليارات لهذه المعدات.

    2_ الأمن الصحي هذا واجب الدولة وهذه مسؤولية تقصيرية من طرفها، حيث ترفع دعوى قضائية على المستشفيات التي لم توفر هذا الدواء او المعدات التي تعد من ضروريات التطبيب.

    3 _ لما لا تقتطع الدولة من مزانيات الأنشطة الترفيهية التي رصدت لها، وتقدمها للحفاظ على الأبدان.

    4_ أن الأموال المرصودة للرياضة بالملايير بإمكانها أن تغطي كل المستشفيات على المستوى الوطني بالمعدات.

    وهناك عدة تساؤلات تدفع نحو هذا الاتجاه من أجل الحصول على الأموال من غير الزكاة، أو حتى التبرعات!!!

    ======#في الختام:

    أن كل ما ذكرته من تساؤلات له وجاهته و حقيقته، ولكن هل إذا تقاعست الدولة أن تحمل مسؤوليتها في جانب من الجوانب يعفينا من المسؤولية الجماعية؟

    أظن أن العقلاء فضلا عن مقاصد الشرع تحيل إلى ضرورة تحمل جزء من هذه المسؤولية من باب المبدأ القرآني (إنما المؤمنون إخوة) (و تعاونوا على البر والتقوى...) و المبدأ النبوي (مثل المؤمنين في توادهم.... كمثل الجسد الواحد...).

    بالإضافة إلى أننا إذا سرنا على مبدأ توسيع دلالة (في سبيل الله) باعتباره نصيب من أنصبة الزكاة التي تصب في بيت المال (الخزينة العمومية).

    و نحن نعلم أن الدولة لا تفعل هذا الجانب إلا بصورة محتشمة عبر صندوق الزكاة المتعثر الذي يحتاج إلى نفس جديد وآليات جديدة وضمنات قوية وصارمة.

    فإن أغلب الناس يقدمون زكواتهم بعيدا عن سيطرة الدولة، و إنما بمعرفتهم الخاصة .....

    وعليه لا أرى حرجا في أن يقدم بعض المزكين أموالهم في هذه الأنشطة الخيرية التي تنقذ النفوس من وحل الهلاك المتوقع، ولكن بهذه النية.

    مع الحرص والتحريض أن تكون هذه المساعدات من التبرعات و الصدقات خارج حقوق الزكاة، فإن عدمت وضاق الوقت وهلكت النفوس فلا مفر من هذا الممر.

    ............ هذا وبالله التوفيق

    والله من وراء القصد

    وهو الهادي الى سواء السبيل

    ======ترجمة بني الإمام :

    أبو زيد عبد الرحمن التنسي

    وأخوه أبو موسى عيسى

    ابنا الإمام التنسي البرشكي وأكبرهما أبو زيد عبد الرحمن بن محمَّد بن عبد الله، عُرِفَ هو وأخوه أبو موسى عيسى بابني الإمام البَرِشْكي، واشتهرا بالرسوخ في العلم والاجتهاد شرقًا وغربًا، وكانا على جانبٍ كبيرٍ من التقوى والاستقامة، وقد وصفهما ابن الخطيب بأنهما: «عَلَما تلمسان الشامخان، وعالماها الراسخان»، وأثنى عليهما القاضي جلال الدين القزويني كثيرًا، وقال: «بمثلهما يفخر المغرب»، وأصل ابني الإمام من «بَرِشك»، حيث كان والدهما إمامًا بأحد مساجد هذه المدينة فاشتهرا بهذه النسبة، رحلا إلى تونس طلبًا للعلم في آخر المائة السابعة (٧٠٠ﻫ)، كما اجتمعا بفاس بتلاميذ ابن زيتون، ثمَّ عادا إلى المغرب الأوسط، وانتحلا مهمة التدريس بالجزائر، ثمَّ بمليانة، وتعرف عليهما أحد عمال بني مرين عليها، واستعملهما على خطة القضاء بمليانة، وذلك أيام الحصار الطويل.

    هذا، وبعد تأكد الصلح، قدما إلى تلمسان، واغتبط السلطان أبو حمو موسى الأول بهما، فبنى لهما المدرسة المعروفة باسمهما، واختصَّهما بالفتوى والشورى، وضمَّهما إلى خاصَّته وأعيان مجلسه، وفي سنة (٧٢٠ﻫ)، رحلا إلى المشرق فأخذا عن أكابر العلماء، واجتمعا بشيخ الإسلام ابن تيمية، ثمَّ عادا إلى تلمسان، وأقاما يدرسان بها إلى أن استولى أبو الحسن المريني على تلمسان، فصاحباه وحضرا معه معركة الطريف بالأندلس سنة (٧٤٠ﻫ).

    كان لأبي زيد ابن الإمام مكانة مرموقة عند أمراء بني زيان وعند أبي الحسن المريني، فحظي برئاسة العلماء في مجلسهم، وأخذ عنه جماعة من الأئمة أمثال الآبلي والمقري والخطيب ابن مرزوق وغيرهم، وكانت وفاة أبي زيد سنة (٧٤٣ﻫ)، وعاش أبو موسى بعده ثماني سنوات، وتوفي في الطاعون الجارف سنة (٧٥٠ﻫ).

    ينظر [تحقيق «المفتاح لشريف التلمساني» (٧٠) للشيخ الدكتور علي فركوس حفظه الله.

    لا يؤخذ أموال الناس تفرغ خزانة الدولة

    بحوث ودراسات