الجمعة 6 يونيو 2025 11:16 صـ 9 ذو الحجة 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    عرفة والأضحى في ظلال طوفان الأقصى

    رابطة علماء أهل السنة

    هذا هو العام الثاني الذي يمر على أهلنا في فلسطين وهم تحت لظى النيران، وخسائر الحرب، ولذعة العطش، ولوعة الجوع، ووحشة المواجهة، وفقدان الأمن والأمان؛ يعيشون في العراء، فيفترشون الأرض ويلتحفون السماء.

    ولو اقتصر الأمر على ذلك لكان هينًا مقدورًا عليه، ولكن اجتمع إلى هذا الوجعِ المادي ألمٌ نفسي من الشعور بالخذلان وإسلام المسلمين لهم أمام أعدائهم، فلا نصير ولا معين، ولا أنيس ولا جليس: يفقدون فلذات أكبادهم وأهاليَهم دون أن يتحرك لهم أحدٌ في العالمين إلا من رحم الله، والذين يتحركون لا تكفي حركتهم لإحداث شيء، أو تقوية حال، أو توقيف حرب، أو نصرة مستضعف، أو إجلاء عدو محتل!

    لقد مر على طوفان الأقصى حتى الآن عشرون شهرا، أو أكثر من 600 يوم، وتراجعت المشاعر المتضامنة في عموم الأمة مع المسلمين في غزة، بل ضعُف التضامن، وبرُد الغضب في قلوب الإنسانية؛ وذلك لاعتياد المشهد، وكذلك بفعل الحزن في القلوب، والإحساس بالعجز عن فعل شيء، ومع مُضي الوقت وتصاعُد الخسائر والتضحيات، واستمرار عمل آلة القتل والتدمير، مع تآمر عالمي، وخذلان عربي وإسلامي رسمي، ومع هذا فما تزال المقاومة تفعل فعلها، وتعمل عملها، وتُثخن في العدو الغاشم من مسافة الصفر؛ مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُوا۟ فِی ٱبۡتِغَاۤءِ ٱلۡقَوۡمِۖ إِن تَكُونُوا۟ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا یَرۡجُونَۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِیمًا حَكِیمًا﴾ [النساء ١٠٤].

    يقول العلامة عبد الرحمن السعدي: "أي: لا تضعُفوا ولا تكسَلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار، أي: في جهادهم والمرابطة على ذلك، فإنَّ وَهَن القلب مُستدعٍ لوَهَن البدن، وذلك يُضعف عن مقاومة الأعداء، بل كونوا أقوياء نشيطين في قتالهم، ثم ذكر ما يُقوي قلوب المؤمنين، فذكر شيئين:

    الأول: أن ما يصيبكم من الألم والتعب والجراح ونحو ذلك، فإنه يصيب أعداءكم، فليس من المروءة الإنسانية والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم، وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك؛ لأن العادة الجارية لا يضعف إلا من توالت عليه الآلام، وانتصر عليه الأعداء على الدوام، لا من يُدال مرة، ويُدال عليه أخرى.

    الأمر الثاني: أنكم ترجون من الله ما لا يرجون، فترجون الفوز بثوابه والنجاة من عقابه، بل خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية، وآمال رفيعة من نصر دين الله، وإقامة شرعه، واتساع دائرة الإسلام، وهداية الضالين، وقمع أعداء الدين، فهذه الأمور توجب للمؤمن المصدّق زيادةَ القوة، وتضاعِفُ النشاط والشجاعة التامة"([1]).

    عرفة والطوفان

    واليوم جاء عرفة، عرفة يوم: الدعاء، والرجاء، والبكاء، والتضرع، والذكر، والاستغفار، والعزم الأكيد، ندعو لأنفسنا وأمتنا وللمستضعفين في كل مكان عامة، وغزة خاصة، ونرجوه أن يكشف عنهم ما نزل بهم، ونبكي على أنفسنا وعلى إخواننا، فالبكاء مشروع غير ممنوع ولا مدفوع، ونتضرع إلى الله تعالى في هذا اليوم – وكل يوم – أن يكف عاديةَ المعتدين، ويُنزل عليهم بأسَه وغضبه، ونذكر الله العظيم في هذا اليوم؛ فهو القادر على كل شيء، بيده الأمر كله، وإليه يُرجع الأمر كله، يقول للشيء كن فيكون، ونستغفر الله من ذنوبنا وتقصيرنا وخذلاننا، ونعزم عزمًا أكيدًا على أن نستأنف النصرة والتداعي للمسلمين، وألا نعود إلى التقصير والخذلان، وهذا عهدٌ يجب أن نقطعَه على أنفسنا، ويكون بيننا وبين خالقنا.

    إننا بذلك نستجيب لأمر الله وأمر رسوله، في كتاب الله وسنة نبيه؛ حيث تضمَّنا مُدوَّنةً متكاملةً في نصرة المسلم لأخيه المسلم؛ فالله تعالى يقول: ﴿إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾ [الأنبياء ٩٢]، ويقول: ﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَةࣱ فَأَصۡلِحُوا۟ بَیۡنَ أَخَوَیۡكُمۡۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تُرۡحَمُونَ﴾ [الحجرات ١٠].

    ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحمِهم وتعاطفِهم كمثلِ الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائرُ الجسدِ بالحمى والسهرِ"([2]). وقال: "ما من امرئٍ يخذلُ امرأً مسلمًا في موطنٍ يُنتَقَصُ فيهِ مِنْ عرضِهِ، ويُنتهكُ فيهِ مِنْ حُرمَتِهِ، إلّا خَذَلَهُ اللهُ تعالى في موطنٍ يُحبُّ فيهِ نُصرتَهُ، وما منْ أحدٍ ينصرُ مسلمًا في موطنٍ يُنتَقَصُ فيهِ منْ عرضِهِ، ويُنتَهكُ فيهِ منْ حُرمَتِهِ، إِلاَّ نَصَرَهُ الله فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نصرته"([3]).

    هذه أمثلة – مجرد أمثلة – من النصوص التي تُشكّل مدونة متكاملة في النصرة والتعاضد والتضامن والتناصر، ولو ذهبنا نستقرئ لك ما ورد فيها من نصوص مع تفاسيرها وشروحها لاحتجنا إلى عدة مجلدات، ولكن يكفيك من القلادة ما أحاط بالعنق.

    ولكن لماذا سمي بعرفة؟ وهل هناك علاقة بين أسباب التسمية وطوفان الأقصى اليوم؟!

    يقول الإمام القرطبي – رحمه الله تعالى-: "سُميت تلك البقعة عرفات لأن الناس يتعارفون بها، وقيل: لأن آدم لما هبط وقع بالهند، وحواء بجدة، فاجتمعا بعد طول الطلب بعرفات يوم عرفة وتعارفا، فسمي اليوم عرفة، والموضع عرفات ... وقيل : هي مأخوذة من العَرف وهو الطيب، قال الله تعالى: (عرَّفها لهم) أي طيَّبها، فهي طيبة، بخلاف منى التي فيها الفروث والدماء؛ فلذلك سميت عرفات، ويوم الوقوف يوم عرفة، وقال بعضهم: أصل هذين الاسمين من الصبر، يقال: رجل عارف إذا كان صابرًا خاشعًا، ويقال في المثل: النفس عَرُوفٌ وما حَمَّلتها تتحمل ... فسمي بهذا الاسم لخضوع الحاج وتذللهم وصبرهم على الدعاء، وأنواع البلاء واحتمال الشدائد، لإقامة هذه العبادة"([4]).

    إذن الإمام القرطبي هنا يذكر أسبابًا ومعانيَ لهذا الاسم، هي: التعارف، والاجتماع بعد طول غياب، والطيب، والصبر.

    وإننا اليوم بحاجة – قبل أي وقت مضى – إلى التعارف على أحوال المسلمين، ومتابعة أخبارهم، ونشر ما يحدث لهم؛ لنكون لسانهم إذ خرس اللسان، ونكون قلمهم إذ قُصفت الأقلام الحرة أو نامت، وتوهجت أقلام النفاق والتخذيل وقامت!.

    كما أننا بحاجة إلى اجتماع الكلمة، وتوحيد الأمة، ورص الصفوف؛ لنكون صفًّا واحدًا في مواجهة هذا العدو الغاشم الذي تشاركه قوى الأرض، والله تعالى يقول: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلَّذِینَ یُقَـٰتِلُونَ فِی سَبِیلِهِۦ صَفࣰّا كَأَنَّهُم بُنۡیَـٰنࣱ مَّرۡصُوصࣱ﴾ [الصف ٤].

    يقول صاحب الظلال: "ونقف ثالثًا أمام الحالة التي يحب الله للمجاهدين أن يقاتلوا وهم عليها: صفا كأنهم بنيان مرصوص .. فهو تكليف فردي في ذاته، ولكنه فردي في صورة جماعية، في جماعة ذات نظام، ذلك أن الذين يواجهون الإسلام يواجهونه بقوى جماعية، ويؤلبون عليه تجمعات ضخمة; فلا بد لجنود الإسلام أن يواجهوا أعداءه صفا، صفا سويا منتظما، وصفا متينا راسخا، ذلك إلى أن طبيعة هذا الدين حين يغلب ويهيمن أن يهيمن على جماعة، وأن ينشئ مجتمعا متماسكا.. متناسقا. فصورة الفرد المنعزل الذي يعبد وحده، ويجاهد وحده، ويعيش وحده، صورة بعيدة عن طبيعة هذا الدين، وعن مقتضياته في حالة الجهاد، وفي حالة الهيمنة بعد ذلك على الحياة، وهذه الصورة التي يحبها الله للمؤمنين ترسم لهم طبيعة دينهم، وتوضح لهم معالم الطريق، وتكشف لهم عن طبيعة التضامن الوثيق الذي يرسمه التعبير القرآني المبدع: صفا كأنهم بنيان مرصوص .. بنيان تتعاون لبناته وتتضام وتتماسك، وتؤدي كل لبنة دورها، وتسد ثغرتها؛ لأن البنيان كله ينهار إذا تخلت منه لبنة عن مكانها. تقدمت أو تأخرت سواء. وإذا تخلت منه لبنة عن أن تمسك بأختها تحتها أو فوقها أو على جانبيها سواء.. إنه التعبير المصور للحقيقة لا لمجرد التشبيه العام. التعبير المصور لطبيعة الجماعة، ولطبيعة ارتباطات الأفراد في الجماعة. ارتباط الشعور، وارتباط الحركة، داخل النظام المرسوم، المتجه إلى هدف مرسوم"([5]).

    أما "الطيب"؛ فلأنه لن يتداعى لإخوانه المسلمين إلا كلُّ طيب، ولن يخذلها إلا كلُّ منافق خبيث، ولن يشكك في حركتها الجهادية إلا كلُّ دعيّ زنيم، ولن يترتب على هذا التداعي وتلك النصرة إلا كلُّ معنى طيب، والأمة لن تَطيبَ وتكونَ طيبةً إلا إذا كانت جسدًا واحدًا، وصفًّا واحدًا.

    وأما "الصبر" فهو أكبر من أن يُذكر، وأوضح من أن يُشرَح، وأبينُ من أن يُبيَّن؛ فالمجاهد في المعركة يحتاج إلى الصبر؛ فإن النصر صبرُ ساعة، والحاضنة الشعبية تحتاج إلى الصبر لتحمُّل ما تعانيه وما يقع لها، والأمة كلها تحتاج إلى صبر جميل وعظيم في معركة التضامن والتداعي الذي يُوجبه معنى "الجسد الواحد"، ويفرضه معنى "الأمة الواحدة".

    في يوم عرفة يقف مليونَا حاجٍّ على صعيد عرفات، بينما يقف مليونَا غزاويٍّ على صعيد أرض غزة، يقف الحجاج بعد أن تجردوا من كل شيء، ويقف أهل غزة وقد لبسوا كفن الموت، يقف الحجاج مفطرين فلا صيام لهم، ويقف أهل غزة صائمين فلا طعام عندهم ولا شراب، يقف الحجاج يطلبون الصفح والغفران، ويقف أهل غزة يشكون مرارة الخذلان، يعود الحجاج إلى أماكن إقامتهم، ويبقى أهل غزة واقفين في العراء لا بيوت لهم ولا مأوى، سينتهي وقوف الحجاج بغروب الشمس، ولا يدري أهلُ غزة متى ينتهي وقوفهم! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

    الأضحى والطوفان

    عيد الأضحى هو عيد التضحية والفداء؛ حيث فدى الله تعالى فيه وليَّه إسماعيل بذِبْحٍ عظيم: ﴿ وَنَادَيْنَاهُ أَن يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ۚ إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ . إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ . وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ [الصافات ١٠٤-١٠٧]. في هذه الآيات العظيمة معانٍ جَمَّةٌ نستثمرها لطوفان الأقصى:

    أولها: أن الصدق والإخلاص وتمام الطاعة لله تعالى، يستدعي العناية الإلهية ويستنزل الرعاية الربانية، فيتدخل الله مباشرة تدخلًا سافرًا لإنقاذ أوليائه، وجبر عباده، كيف لا وهو القائل: ﴿إِنَّ رَبِّی لَطِیفࣱ لِّمَا یَشَاۤءُۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡعَلِیمُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [يوسف ١٠٠]. وهذا يوجب علينا أن نجدد نياتنا، ونطهر أقوالنا وأفعالنا في نصرة المسلمين؛ لتكون خالصة لوجهه تعالى، ولكي تنفع وتثمر نصرةً حقيقية، وتكون جديرة بانتصار العناية الإلهية لها، وتَدَخُّل الرعاية الربانية من أجلها.

    ثانيها: أن الإحسان في العمل لا يُضيعه الله تعالى، بل يجازي عليه إحسانا: ﴿هَلۡ جَزَاۤءُ ٱلۡإِحۡسَـٰنِ إِلَّا ٱلۡإِحۡسَـٰنُ﴾ [الرحمن ٦٠]؛ ولهذا قال سبحانه: "إنا كذلك نجزي المحسنين"، ولقد أحسن إبراهيم عليه السلام كل الإحسان؛ حيث أتى بفلذة كبده الذي أخذ شعبة من قلبه، وقص عليه الرؤيا، وجعله من أهل الرأي والنظر: "فانظر ماذا ترى".

    وفي تدابير الذبح التي أخذها إبراهيم يتجلى الإحسانُ كل الإحسان، يقول ابن كثير: "وهذا اختبار من الله عز وجل لخليله في أن يذبح هذا الولد العزيز الذي جاءه على كِبَر، وقد طعن في السن بعد ما أمر بأن يسكنه هو وأمه في بلاد قفر وواد ليس به حسيس ولا أنيس ولا زرع ولا ضرع، فامتثل أمر الله في ذلك، وتركهما هناك؛ ثقةً بالله وتوكلا عليه، فجعل الله لهما فرجا ومخرجا، ورزقهما من حيث لا يحتسبان، ثم لما أمر بعد هذا كله بذبح ولده هذا الذي هو بِكْرُهُ ووحيدُه الذي ليس له غيره، أجاب ربه، وامتثل أمره، وسارع إلى طاعته ثم عرض ذلك على ولده ليكون أطيب لقلبه، وأهون عليه من أن يأخذه قسرًا ويذبحه قهرًا: (قال يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى)، فبادر الغلام الحليم: (قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، وهذا الجواب في غاية السداد والطاعة للوالد ولرب العباد، قال الله تعالى: (فلما أسلما وتلّه للجبين)، قيل أسلما أي استسلما لأمر الله وعزما على ذلك. ومعنى (تله للجبين) أي ألقاه على وجهه، قيل: أراد أن يذبحه من قفاه لئلا يشاهد (وجهه) في حال ذبحه. قاله ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة والضحاك .. وأسلما أي سمّى إبراهيم وكبر، وتشهّد الولد للموت، قال السدي وغيره: أمَرَّ السكين على حلقه فلم تقطع شيئًا، ويقال جُعل بينها وبين حلقه صفيحة من نحاس والله أعلم، فعند ذلك نودي من الله - عز وجلّ -: (أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا)، أي قد حصل المقصودُ من اختبارك وطاعتك ومبادرتك إلى أمر ربك، وبذْلِك ولدك للقربان كما سمحت ببدنك للنيران، وكما مالُك مبذول للضيفان؛ ولهذا قال تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين)، أي الاختبار الظاهر البيّن"([6]).

    إننا بحاجة اليوم مع طوفان الأقصى إلى إحسان أعمالنا، وتقوى الله في إخواننا، وطلب رضاه بكل أقوالنا وأفعالنا، ساعتها فقط سنرى من فضل الله وعطائه ورعايته ما لا تدركه الإشارة، ولا تلحقه العبارة.

    ثالثها: البلاء العظيم، ذلك الذي تجلى في أن يُقْدم إبراهيم على ذبح ولدٍ رزقه الله به على كبر، وهو "بِكْرُه ووحيدُه"؛ فهل هناك بلاء أعظم من هذا؟ وصفه الله بأنه "لهو البلاء العظيم"، هكذا بالألف واللام بعد "لهو"، وهو أسلوب يفيد الحصر والقصر، أي أن البلاء العظيم إذا ذكر ينصرف الذهن إلى هذا المشهد الإبراهيمي الإسماعيلي الرباني، ويُبتلى المرء على قدر دينه، وقد قال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم: "أشَدُّ النّاسِ بَلاءً الأنْبياءُ، ثمَّ العُلَماءُ، ثمَّ الأمثَلُ فالأمثَلُ"([7]).

    ولا نجد اليوم بلاء "أعظم" من بلاء أهل غزة، فيما يتعرضون له من قتل وتشريد، وأشلاء وتهجير، وهدم وتحطيم، وفَقْد للأهل والولد، مع قلة النصير وندرة المعين؛ فضلا عما يعانونه من الجوع والعطش والجراح وندرة العلاج، بالإضافة إلى الغلاء الفاحش في الأسعار الذي أحال حياتهم ضربًا من ضروب المشقة والتعسير.

    والذي نراه – تخريجًا على حادث إبراهيم مع ولده إسماعيل – أن الله تعالى سيكتب الفرج المذهل، والنصر المؤزر لأهل غزة؛ ذلك أنهم صبروا وصابروا ورابطوا، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه، فما نراه على الشاشات وعبر التواصل الشخصي من ثبات وصبر ورضى بهذا البلاء العظيم لحقيقٌ بأن يفتح الله لهم فتحًا مبينًا، ويهديَهم صراطًا مستقيمًا، وينصرَهم نصرًا عزيزًا، ويَجزيَهم بفضله وكرمه جزاء المحسنين جنةً وحريرًا، كما جزى إبراهيم عليه السلام: ﴿وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . إنا كذلك نجزي المحسنين﴾.

    رابعها: التضحية والفداء؛ حيث إن أبرز معاني عيد الأضحى: التضحية والفداء؛ ولهذا شرعت الأضحية؛ اتباعًا لسنة أبينا إبراهيم عليه السلام؛ فقد فدى الله تعالى عبده إسماعيل بذِبْحٍ عظيم حين علم أن الأب والابن أسلما نفسَيْهما لله تعالى، فأسلم لهما كبشًا يفدى به إسماعيل، والجزاء من جنس العمل.

    واليوم يُضحي أهل غزة في معركة طوفان أقصاهم وأقصانا بأغلى ما يملكون، يضحون بأمنهم وأمانهم، يضحون بفلذات أكبادهم، يقدمون دماءهم وأرواحهم، في معركة سميت "طوفان الأقصى"؛ أي أنها للدفاع عن مقدس عظيم من مقدسات المسلمين الواجب عليهم حمايته والدفاع عنه، ولكن أهل غزة يقومون بفرض الكفاية عن أمة لم تقم بواجبها معهم كما يجب أن يقوموا.

    فهل ضحينا معهم – ونحن في عيد الأضحى – كما ينبغي أن تكون التضحية؟ هل قدمنا أنفس ما نملك، كما قدموا هم أنفس ما يملكون من الأهل والولد والدماء والجراح والأرواح؟ أم أننا قد اكتفينا بالجلوس خلف الشاشات، وتسربلنا خلف الهواتف الذكية، نتفرج على آلامهم وجراحهم، ونتأمل تضحياتهم وفداءهم، ونقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، "إنا لله وإنا إليه راجعون" .. أهذا كل ما نملكه؟ هل لا نملك لهم إلا الدعاء كما يقول البعض؟ إننا نملك الكثير غير الدعاء، نملك التضحية بالمال والممتلكات؛ تضامنًا معهم، وإسنادًا لهم في معركتهم، وتخليفًا للمجاهدين بخير في أهليهم وأولادهم، والله تعالى قد قرن الجهاد بالمال بالجهاد بالنفس، بل قدمه على الجهاد بالنفس في حوالي عشرة مواضع من القرآن الكريم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَهَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِینَ ءَاوَوا۟ وَّنَصَرُوۤا۟ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَلَمۡ یُهَاجِرُوا۟ مَا لَكُم مِّن وَلَـٰیَتِهِم مِّن شَیۡءٍ حَتَّىٰ یُهَاجِرُوا۟ۚ وَإِنِ ٱسۡتَنصَرُوكُمۡ فِی ٱلدِّینِ فَعَلَیۡكُمُ ٱلنَّصۡرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوۡمِۭ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُم مِّیثَـٰقࣱۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِیرࣱ﴾ [الأنفال ٧٢]؛ فالمجاهدون يحتاجون المال قبل القتال، وأثناء القتال، وبعد القتال؛ ولهذا حين أمر الله تعالى بالإعداد ذكر المال وفضْل إنفاقه، يقول تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا۟ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةࣲ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَیۡلِ تُرۡهِبُونَ بِهِۦ عَدُوَّ ٱللَّهِ وَعَدُوَّكُمۡ وَءَاخَرِینَ مِن دُونِهِمۡ لَا تَعۡلَمُونَهُمُ ٱللَّهُ یَعۡلَمُهُمۡۚ وَمَا تُنفِقُوا۟ مِن شَیۡءࣲ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ یُوَفَّ إِلَیۡكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تُظۡلَمُونَ﴾ [الأنفال ٦٠]؛ وذلك أن المال من أعظم ما يعين على قتالهم، وأجره مضاعف إلى سبعمائة ضعف.

    ***

    إننا لا نريد من عباداتنا ولا من مناسباتنا أن تكون جوفاء، ولا أن نلتمس منها الخلاص الفردي دون الخلاص الجماعي، بل يجب أن يكون لهذه العبادات وتلك المناسبات دور في حياتنا: فرديًّا واجتماعيًّا، داخليًّا وخارجيًّا؛ فهذه الشعائر إنما شرعت لنغير بها أنفسنا ومن حولنا؛ ولينتقل بها المسلمون من الفرقة إلى الوحدة، ومن الاختلاف إلى الائتلاف، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الاستضعاف إلى التمكين ﴿ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم ٣٠].

    -----------------------------------------------------------------------------------

    ([1]) تيسر الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان: 2/ 350. دار ابن الجوزي.

    ([2]) أخرجه البخاري (٦٠١١)، ومسلم (٢٥٨٦) باختلاف يسير، بسندهما عن النعمان بن بشير، رضي الله عنه.

    ([3]) أخرجه السيوطي في الجامع الصغير، بسنده عن جابر بن عبدالله وأبو طلحة بن سهل (٧٩٨٣)، وصححه، وأخرجه أبو داود (٤٨٨٤)، وأحمد (١٦٣٦٨) باختلاف يسير

    ([4]) الجامع لأحكام القرآن: 2/ 384-385. طبعة دار الفكر، باختصار.

    ([5]) في ظلال القرآن: 6/ 3555، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الثانية والثلاثون، 1423هـ - 2003م.

    ([6]) البداية والنهاية: 1/ 365. دار عالم الكتب. 1424هـ / 2003م.

    ([7]) أخرجه في المستدرك على الصحيحين (٦/١٠٥)، بسنده عن سعد بن أبي وقاص، وعنه أيضا: «إنَّ أشَدَّ النّاسِ بَلاءً الأنْبِياءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ، ثُمَّ سائِرُ النّاسِ على قَدْرِ دينِهم، فمَن ثَخُنَ دينُه اشْتَدَّ بَلاؤُه، ومَن ضَعُفَ دينُه ضَعُفَ بَلاؤُه». الضياء المقدسي، الأحاديث المختارة (١٠٥٣)، أورده في المختارة، وقال: "هذه أحاديث اخترتها مما ليس في البخاري ومُسلِم".

    عرفة الأضحى ظلال طوفان الأقصى غزة

    مقالات