الإثنين 2 يونيو 2025 07:07 مـ 5 ذو الحجة 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    الحج بوصلة الأمة وإعلان شهودها الحضاري

    رابطة علماء أهل السنة

    ليس تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام مجرد تبديل في الجهة الجغرافية للصلاة، بل هو فعل تأسيسي شكّل منعطفًا حضاريًا في مسار الأمة الإسلامية. لقد كانت هذه اللحظة، بوحيها الإلهي، إعلانًا رمزيًا عن بروز كيان متميّز، ذي منهج مستقل، يحمل مشروعًا يتجاوز التبعية الروحية والثقافية، ليعلن ولادة أمة شاهدة، تتجه إلى الله مباشرة دون وسائط، وتنهض برسالتها من مركزها الأصلي: الكعبة، بيت التوحيد الأول.

    إن هذا التحوّل لم يكن نفيًا لبيت المقدس، بل إعادة لترتيب المقدسات وفق ميزان الوحي، حيث تكون الكعبة القبلة الأعظم التي تهوي إليها أفئدة الناس، دون أن تنسى الأمة قبلتها الأولى، التي كانت مهد الإسراء، وبوابة المعراج، ومسرى الرسالة الخاتمة. فقِبلة لا تنسى الأخرى، لكنها تستوعبها في سلم الأولويات، وتحييها في ضمير الأمة بما يليق بمكانتها، لا بما أُريد لها أن تكون عليه وهي جريحة تحت الاحتلال.

    وإن كان تحويل القبلة قد ضبط بوصلة الصلاة اليومية، فإن موسم الحج يضبط بوصلة الأمة السنوية، حيث تقف على صعيد عرفات أمة واحدة، تُجدّد العهد، وتُعلن التجرّد من التبعية، والخضوع لنداء إبراهيم عليه السلام: "وأذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالًا..."

    فموسم الحج ليس شعيرة فحسب، بل إعلان سيادة حضارية، وتذكير سنوي باتجاه الأمة ورسالتها، كما أن الاصطفاف حول الكعبة يعيد ترتيب الصفوف الفكرية، ويؤكد أن من لا يعرف وجهته، لن يعرف موقعه في التاريخ.

    وفي قلب هذا المشهد، يجب ألا تغيب القدس. فالكعبة لا تنفك عن بيت المقدس، وعمران بيت الله الحرام لا يكتمل إلا بـعمران المسجد الأقصى. فقبلة التوحيد لا تنسى قبلة الأنبياء، ولا يستقيم أن تكون مكة آمنة عامرة، بينما القدس مكبّلة، أسيرة تحت سطوة الاحتلال. إن التوازن الحضاري في وجدان الأمة يختل حين تُختزل القبلة في بعدٍ شعائري وتُفرَّغ من بعدها الرسالي.

    فالقبلة ليست مكانًا فقط، بل اتجاهًا وجوديًا، تنصهر فيه الهوية والوظيفة، والرسالة. ومن هنا كانت الحرب النفسية التي شنّها اليهود عقب تحويل القبلة، لأنهم أدركوا أن الوجهة تحدد المرجعية، وأن الأمة التي غيّرت قبلتها، قد أعلنت استقلالها، وكسرت التبعية التاريخية لثقافات منحرفة.

    لقد علّمنا تحويل القبلة أن الاستقلال لا يتم دون تحول داخلي يسبق التحوّل الظاهري، وأن التميز لا يعني الانفصال العدائي عن الآخرين، بل التفرّد بمنهج رباني قادر على قيادة البشرية. وعلّمنا الحج أن من لا يملك قبلة مستقلة، لا يستطيع أن يملك مشروعًا مستقلاً، ومن يجعل الكعبة مركز حياته، لا يجوز أن يتنازل عن بيت المقدس رمز كرامته.

    وإذا كان بعض الناس اليوم يزعمون أن تحويل القبلة فعل تاريخي عابر، فإن فقه الأمة الواعية يدرك أن الاتجاه في الصلاة هو مرآة الاتجاه في الحضارة. فكما لا تصح الصلاة إلا باستقبال القبلة، كذلك لا تقوم النهضة إلا بتحديد الاتجاه القيمي والمعرفي والسياسي.

    واليوم، وفي ظل مشهد مشوش، حيث تتبع الأمة قبلات متعددة: قبلات المال، وقبلات الإعلام، وقبلات القوة المادية، آن لها أن تعود إلى قبلتها الحقيقية، أن تعرف مركزها، وتلتزم ببوصلة الرسالة، فذلك أول الطريق نحو الشهود، ونحو الاستخلاف.

    الحج بوصلة الأمة إعلان شهود حضاري الأقصى القبلة

    مقالات