الإثنين 2 يونيو 2025 07:26 مـ 5 ذو الحجة 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    رسائل الحج للأمة الشاهدة على الناس

    رابطة علماء أهل السنة

    يتوافد الحجيج قاصدين بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج هذا العام، ويتزامن هذا مع استمرار حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي على أهلنا وإخواننا في غزة، ومع استمرار ثباتهم وصمودهم وصبرهم الأسطوري، ومع استمرار حالة العجز والهوان التي تحياها الأمة في هذه المرحلة الدقيقة العصيبة من تاريخها المجيد، وهي الأمة المخرَجة للناس، وهي أمة الشهادة على الناس، التي قال تعالى فيها: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، وقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: 143].. في هذا السياق يجدر بنا أن نتأمل في الحج ورسائله التي يحملها للأمة في هذا الظرف العصيب، عسى أن تفيق من غفلتها، وأن تنهض من رقدتها، وأن تتعافى مما أصابها.

    خير من جسَّد معنى الانقياد لأمر الله هم أهل غزة؛ فقد رأينا تلك الطبيبة الثابتة الصامدة، المستسلمة لأمر الله، تستقبل أولادها التسعة شهداء، وقد تفحمت جثثهم تحت سمع العالم الذي فقد إنسانيته وأُخوَّته

    وأهم رسائل الحج للأمة في هذه المحنة ما يلي:

    أولا: الانقياد والاستسلام لأمر الله

    الحج كله تدريب على الانقياد والاستسلام لأمر الله، والتحقق بالمعنى الحق للعبودية؛ فرغم أن مناسك الحج وأعماله كلها ليست أعمالاً مبهمة غير معقولة المعني، وإنما لها مقاصد ومعانٍ لو عقلها الحاج وغير الحج لكان لها أعظم الأثر في تغيير سلوك الحاج مع الله ومع الناس.. رغم ذلك فإن الحج تدريب على الانقياد والامتثال؛ ففي الحج يجب أن تحرم من مكان بعينه، وتُمنع من جملة من محظورات الإحرام التي كانت مباحة لك.

    كذلك، في كل وقت هناك عمل ونسك وعبادة، فمطلوب منك أن تصلي هنا وأن لا تصلي هنا، هنا تطوف وهنا تسعى، هنا تقبل الحجر وهنا لا تقبل.. فقط تستلم، كل يوم وكل ساعة لها عمل وعبادة، تجمع أحجاراً من مزدلفة لترمي بها الجمار في منى، تجمع أحجاراً لترمي بها أحجاراً، وتطوف حول الكعبة وهي حجر، وتستلم الحجر الأسود وهو حجر، تعظم ما أمرك الله بتعظيمه، وتبذل المال الكثير وتترك وطنك وأهلك لتعيش بحق معنى العبودية لله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].

    وخير من جسَّد معنى الانقياد لأمر الله هم أهل غزة؛ فقد رأينا تلك الطبيبة الثابتة الصامدة، المستسلمة لأمر الله، تستقبل أولادها التسعة شهداء، وقد تفحمت جثثهم تحت سمع العالم الذي فقد إنسانيته وأُخوَّته، وأدنى درجات الغيرة على الحقوق والحرمات!!

    ثانيا: شعار التوحيد وتنزيلاته

    التوحيد هو شهادة المخلوق للخالق أنه الله الذي له الخلق والأمر، والحج شعاره التوحيد، فالحاج يقرأ في ركعتي سنة الإحرام وسنة الطواف بسورتي "الكافرون" و"الإخلاص"، وهما من السور التي تقرر معنى التوحيد، والتلبية في الحج هي أعلى مظاهر التوحيد.. "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك"، والطواف من مظاهر التوحيد، قال تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [الحج: 26]، والابتهال إلى الله السميع القريب المجيب في عرفة مظهر من مظاهر التوحيد.

    وحديث القرآن الكريم عن الحج كله ذكر وشكر لله تعالى، وهو توحيد.. تأمل قوله تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ﴾ [الحج: 27-28] ، وقوله: ﴿وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى﴾ [البقرة: 203] والحديث هنا عن رمي الجمار في الحج. وتأمل أيضاً قوله تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: 36].

    وخير من جسَّد معاني ودروس التوحيد والعقيدة حية هم أهل غزة بصبرهم وثباتهم بعد أن تخلى العالم عنهم؛ لأنهم يؤمنون أن الله الواحد هو ناصرهم ومؤيدهم، وهو وليهم وسندهم وإن حاربهم العالم بأسره، وهم يوقنون أن الله الواحد ابتلاهم في الدنيا وسيجزيهم في الآخرة، فهل وعت أمة التوحيد هذا المعنى فنصرت إخوانها وآزرتهم، وهل وعى قادة أمة التوحيد هذا المعنى حين دفعوا المليارات لمن يوقع قرار القتل والإبادة والتهجير لغزة وأهلها، والواجب عليهم إيقاف الحرب وإدخال الغذاء والدواء لئلا يموت الناس جوعاً وظلماً!

    الحج تذكير باليوم الآخر للحاج وغير الحاج؛ فغير الحاج يعيش مع الحاج بالاجتهاد في عشر ذي الحجة، وبصيام يوم عرفة، وذبح الأضحية في أيام التشريق، والامتناع عن الأخذ من شعره وبشره إذا كان مضحياً على سبيل السنة إذا كان قادراً

    ثالثا: اليوم الآخر واستنهاض الأمة

    الحج أعماله كلها تذكير بيوم القيامة؛ فالمحرم بالحج يغتسل ويتجرد من المخيط والمحيط، ويصلي ركعتين سنة الإحرام تماماً كما يُفعل بالميت، ويلبس ثياب الإحرام التي تشبه كفن الميت، ولهذا نلحظ أن سورة الحج بدأت بالحديث عن اليوم الآخر ولم تبدأ بالحديث عن الحج ومناسكه ومعانيه.. قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج: 1-2].

    فالحج تذكير باليوم الآخر للحاج وغير الحاج؛ فغير الحاج يعيش مع الحاج بالاجتهاد في عشر ذي الحجة، وبصيام يوم عرفة، وذبح الأضحية في أيام التشريق، والامتناع عن الأخذ من شعره وبشره إذا كان مضحياً على سبيل السنة إذا كان قادراً. فمعاني الحج ومقاصده لا يخاطب بها الحاج وحده، وإنما الحاج وغير الحاج. وتذكُّر اليوم الآخر يجعل الإنسان يزهد في الدنيا، ويعمل للحياة الحقيقية والجزاء الأوفى في الآخرة.

    ولولا يقين أهل غزة وإيمانهم بالآخرة ما رأينا منهم ثباتاً أو صموداً أسطورياً كما نرى، فما الذي يحمل امرأة على استقبال خبر استشهاد أولادها التسعة بالرضا والحمد إلا يقينها أنها ستلقاهم في الآخرة، وأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، ولو وعت الأمة في مجموعها هذا المعنى لما تعلقت بالدنيا، ولما خذلت أهل غزة على هذا النحو الذي ذهبت معه حمرة الخجل!

    مشهد الحج يدفعنا إلى التفكير في كيفية الخروج من هذه الغثائية إلى الفاعلية، ومن الفرقة والتشرذم إلى الوحدة والاعتصام بحبل الله، والمسلمون في الغرب أحوج الناس إلى الوحدة واجتماع الكلمة

    رابعا: ضرورة الاعتصام والوحدة

    من مقاصد الحج ومظاهره الاعتصام ووحدة الأمة، فانظر إلى ملايين الحجيج على صعيد عرفة وهم بلباس الإحرام، يلبون ويضرعون إلى الله باكين، لترى عظمة الإسلام وقوة الأمة، وكيف أن بقية الأمة التي تتوق نفسها للحج تشارك الحجيج بالدعاء والصيام في يوم عرفة.. ثم تعود وتتساءل: أين أثر هذه الأمة وهذه الجموع في نصرة إخوانهم في غزة، وإيقاف الحرب الظالمة عليهم؟ فلا تجد جوابا!

    ومشهد الحج يدفعنا إلى التفكير في كيفية الخروج من هذه الغثائية إلى الفاعلية، ومن الفرقة والتشرذم إلى الوحدة والاعتصام بحبل الله، والمسلمون في الغرب أحوج الناس إلى الوحدة واجتماع الكلمة؛ لأنهم يملكون قرارهم إن تخلوا عن أهوائهم وذواتهم، وأخلصوا وجهتهم لله وحده، فالأخطار تحيط بهم، والسماء السياسية ملبدة بغيوم كثيرة، ولا نجاة منها إلا بالاتحاد والتكتل والوعي ثم السعي.

    رسائل الحج الأمة الشاهدة الناس غزة التوحيد العقيدة اليقين

    مقالات