مفهوم الشريعة قبل تطبيق الشريعة


جدل كثير وصراع مرير، يدوران اليوم في عموم الدول والمجتمعات الإسلامية ، حول قضية الشريعة وتطبيق الشريعة . والقضية في جزء منها تعود إلى ما تعيشه النخب الثقافية والسياسية من انقسام إلى تيارين كبيرين ، يتجاذبان الساحة الثقافية والسياسية ، يمكن وصفهما بالتيار الديني ، والتيار المدني(أو ما يعرف بالتيار العلماني الحداثي) . ولكن جزءا من هذا الصراع يرجع إلى الالتباس الحاصل في مفهوم الشريعة وتطبيق الشريعة.
وسواء عند المتبنين لتطبيق الشريعة المدافعين عنه ، أو عند المناوئين لهذا الهدف الخائفين منه ، فإن هناك مفاهيم وتصورات قاصرة أو مشوهة لمفهوم الشريعة ولتطبيق الشريعة . وهو ما تترتب عنه مشاكل وصراعات عدة ، يمكن تلافيها أو تقليصها بالمعرفة الصحيحة للشريعة ومضامينها.
فبسبب هذا الالتباس، نجد عددا من الناس تصوروا الشريعة وتطبيق الشريعة على طريقتهم ، فقالوا بناء على ذلك : إن الشريعة لم تطبق إلا في العهد النبوي ، ونسبيا في عهد الخلفاء الراشدين . وهذا معناه ـ في نظرهم ـ أن هذه الشريعة غير قابلة للتطبيق في هذا الزمان ، لمثاليتها ، أو لقصورها ، أو لغير ذلك من الأسباب . المهم أن تطبيقها توقف في وقت مبكر ، ولم يصمد أمام التطورات والتغيرات إلا زمنا يسيرا. فكيف يراد تطبيقها اليوم ، بعد أربعة عشر قرنا من توقف تطبيقها ؟!
وبسببه أيضا ، رأى آخرون أن الشريعة تتسم بالبدائية والتخلف والهمجية ، فكرهوها وكرهوا من يريد إحياءها ؛ فهي ـ فيما سمعوا وفهموا ـ عبارة عن قصاص وحدود ، وسيوف ودماء . فالعودة إلى الشريعة عودة إلى الوحشية والهمجية ، ونحن في زمن الحضارة والحداثة وحقوق الإنسان !
وبسبب ذلك أيضا ، ظهر لبعض المتدينين والدعاة ، أن جميع الحكومات والمجتمعات ـ الإسلامية "سابقا" ـ قد نبذت اليوم شريعة الله وعطلتها وتنكرت لها ، وقد غلا بعضهم فتحدثوا عن ردة واسعة ، قد عمت معظم البلدان الإسلامية ، شعوبا وحكومات . ومن هنا ارتفعت درجة الكراهية والغليان ... وهو ما نجمت عنه إلزامات وتداعيات وردود فعل خطيرة ، ما زلنا نعيش آثارها.
لذلك ـ وقبل الحديث عن قضية الشريعة وتطبيق الشريعة اليوم ـ لا بد من الحديث عن معنى الشريعة ومفهوم الشريعة .
مفهوم الشريعة من بدايته
ذكرت في حلقة سابقة ، أننا نحتاج ـ في كثير من القضايا والمفاهيم الأساسية ـ أن نرجع إلى الوراء ، وأن نرجع إلى البدايات ...، فلنرجع الآن إلى البداية أيضا.
مادة " ش ر ع " ـ ومنها الشريعة والشرعة والشرع ـ في القرآن الكريم يشمل معناها كل ما أنزله الله لعباده ، من معتقدات ، وعبادات ، وأخلاق ، وآداب ، وأحكام عادات ومعاملات . وتأتي العقائد والعبادات في طليعة ما شرعه الله وجعله شريعة للعباد، كما هو واضح في قوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ الشورى/13
أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الشورى/21
"وعن السديّ، في قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: هو الدين كله"
أما لفظ "شريعة"، فقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة ، في قوله تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ الجاثية/18
وورد شقيقه ، لفظ "شرعة"، في قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا المائدة/48
قال الإمام الطبري : "والشِّرْعة: الشريعة بعينها، تجمع الشِّرعة شِرَعًا، والشريعة شرائع، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا، لأن معناها ومعنى الشريعة واحد" .
وقال القرطبي : "والشِّرعة والشريعة : الطريقة التي يُتوصل بها إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم يشرع : أي سن. والشارع: الطريق الأعظم."
فالشريعة في اللغة ، تعني الطريق العظيم والصراط المسقيم.
والشريعة في استعمال القرآن مساوية لمعنى الدين ، الذي هو الصراط المستقيم .كل ما في الأمر أن استعمال"الشريعة" ، هو باعتبار واضعها وهو الله تعالى ، فهو الذي شَرَعَ لَكُمْ ... ، وأما استعمال"الدين" فباعتبار من يدين به ، وهو الإنسان.
وبهذا المعنى الواسع الجامع للشريعة ، ألف الإمام أبو بكر الآجري ( المتوفى سنة360 هـ) كتابه الذي سماه ( الشريعة ) ، مع أن أكثر ما فيه مسائل عقدية وتربوية.
وبعده ألف المفكر الفيلسوف الراغب الأصفهاني ( المتوفى سنة 500 ، أو502 هـ) ، كتابه الشهير ( الذريعة إلى مكارم الشريعة ) ، وهو كتاب في فلسفة الأخلاق والتربية . فالراغب يعتبر ـ بحق ـ أن تهذيب النفوس والعقول والأخلاق من صميم الشريعة ومكارمها. وهو يُعرف مكارم الشريعة فيقول : "ومكارم الشريعة هي : الحكمة ، والقيام بالعدالة بين الناس ، والحلم ، والإحسان ، والفضل. والقصد منها أن تبلغ إلى جنة المأوى , وجوار رب العزة تعالى."
وقبل الوصول إلى جنة المأوى ، فإن مكارم الشريعة تتلخص في تحقيق الغايات الثلاث الكبرى للوجود الإنساني ، وهي : العمارة ، والعبادة ، والخلافة. يقول : " ومن لم يصلح لخلافة الله تعالى ، ولا لعبادته ، ولا لعمارة أرضه ، فالبهيمة خير منه"
فهذه هي الشريعة ، وهذه هي مكارمها ومقاصدها ، وهذا هو المفهوم الأول لها.
ومع التوسع العلمي وتشعب التخصصات العلمية ، ظهر استعمال الشريعة استعمالا اصطلاحيا. والاستعمال الاصطلاحي عادة ما يضيق من مدلولات الألفاظ ، ويقصُرُها على بعض مدلولاتها اللغوية.
ومن المعاني الاصطلاحية الخاصة التي استُعمل بها لفظ الشريعة ، المعنى الذي يعنبه الصوفية عندما يقابلون بين "الحقيقة والشريعة". فالشريعة هنا ، صُرف معناها إلى التكاليف والضوابط الشرعية الظاهرة ، الموجهة إلى"عامة" المكلفين . وأما الحقيقة ، فهي الجواهر والبواطن والأسرار التي يدركها "الخاصة" من العباد والزهاد والعارفين ...ومن هنا نشأ القول بعلوم الظاهر وعلوم الباطن ، وتم على هذا الأساس التفريق بين وظيفة الفقه ووظيفة التصوف.وهي كلها اصطلاحات وتقسيمات طارئة ، ينبغي ألا تحجب عنا المعاني والمفاهيم الشرعية، كم هي في نصوص الشرع ، وكما هي عند المتقدمين.
على أن أشهر استعمال اصطلاحي للفظ الشريعة ، هو استعمالها للدلالة ـ بصفة خاصة ـ على الأحكام العملية في الدين، أي كل ما سوى العقائد ، لكن مع الاحتفاظ في هذه الدلالة بجميع المجالات التشريعية العملية الواردة في الدين ، ومنها العبادات الظاهرة والباطنة ، والأخلاق والآداب . فالشريعة بهذا المعنى تشمل الدين كله إلا العقيدة . ومن هنا جاء استعمال عبارة " الإسلام عقيدة وشريعة." ، على أساس أن العقيدة غير الشريعة.
ومنذ قرون طويلة ، أصبح هذا المعنى هو الأكثر شيوعا واستعمالا لدى العلماء، ولكنه لم يُلغ المعنى الأول والأعم للشريعة والشرع ، كما أنه ظل واسعا وشاملا لكل المجالات التشريعية . فمجال الشريعة هنا أصبح تقريبا هو نفسه مجال "الفقه" ، بمعناه الاصطلاحي المعروف . ويبقى الفرق بينهما هو أن الشريعة تطلق على ما هو منزل ومنصوص وصريح ، من الأحكام ومن القواعد الشرعية ، بينما الفقه ـ أو علم الفقه ـ يراد به خاصة ما هو مستنبط ومجتهَد فيه.
وفي العصر الحديث اتجه استعمال اسم الشريعة نحو مزيد من التخصيص والتقليص، وخاصة حينما بدأ التعبير بلفظ " التشريع الإسلامي" ، على غرار " التشريع" بمعناه القانوني . وهكذا بدأ لفظ الشريعة والتشريع الإسلامي ، يطلقان على التشريعات المنظمة للحياة العامة . وهو اصطلاح العلامة ابن عاشور ، الذي يقول: " فمصطلحي إذا أطلقت لفظ التشريع أني أريد به ما هو قانون للأمة ، ولا أريد به مطلق الشيء المشروع. فالمندوب والمكروه ليسا بمرادَيْن لي، كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة."
وبهذا أصبح معنى الشريعة مماثلا ـ أو مقابلا ـ لمعنى القانون . ومن هنا جاءت المقابلة والمقارنة بين (الشريعة الإسلامية) و(القوانين الوضعية) . وقد تعززت هذه المقابلة ، وتحولت إلى خصومة ومنافسة ، بسبب ما تعرضت له أحكام الشريعة ـ المدنية والجنائية ـ من إزاحة قسرية ، لفائدة القوانين المستوردة من الغرب. وهذا ما جعل العلامة الأستاذ علال الفاسي يتحدث عن صراع بين ( الشريعة الإسلامية ) و(الشريعة الاستعمارية)، وذلك في كتابه القيم (دفاع عن الشريعة( .
في خضم عملية "التطهير التشريعي" ، التي سهرت عليها ـ وما زالت ـ الدول الاستعمارية ، ارتفعت درجة الحساسية ضد هذا المسار، بل أصبحت هذه الحساسية جزءا من الصحوة الإسلامية ومحركا من محركاتها . وهنا رُفع شعار"تطبيق الشريعة" ، الذي اتجه أساسا إلى الشريعة بأضيق معانيها ، أي الشريعة الممثلة في قوانين الدولة ومحاكمها ، باعتبار أن هذا المعنى هو"محل النزاع وميدان الصراع".
وبما أن أول وأبرز ضحايا "التطهير التشريعي" ، كان هو المجال الجنائي، فإن رد الفعل قد تركز على هذا المجال وعلى تضخيمه . وهكذا بدأت عملية اختزال لمفهوم الشريعة ولتطبيق الشريعة ، في تطبيق العقوبات الجنائية الإسلامية . وأصبحت "الحدود الشرعية" رمزاً لتطبيق الشريعة أو رمزا لتعطيل الشريعة .
والخلاصة : أن المعاني الخاصة والمضيقة لمفهوم الشريعة ، ينبغي أن توضع وتفهم في سياقها ومجالها ، وينبغي ألا تحجبنا أو تحجب عنا المعنى الأصلي والكامل للشريعة.وعلى هذا الأساس ، يمكننا التحدث عن تطبيق الشريعة .. فلنتابع.