الجمعة 9 مايو 2025 04:40 مـ 11 ذو القعدة 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    مفهوم الشريعة قبل تطبيق الشريعة

    رابطة علماء أهل السنة

    جدل كثير وصراع مرير، يدوران اليوم في عموم الدول والمجتمعات الإسلامية ، حول قضية الشريعة وتطبيق الشريعة . والقضية في جزء منها تعود إلى ما تعيشه النخب الثقافية والسياسية من انقسام إلى تيارين كبيرين ، يتجاذبان الساحة الثقافية والسياسية ، يمكن وصفهما بالتيار الديني ، والتيار المدني(أو ما يعرف بالتيار العلماني الحداثي) . ولكن جزءا من هذا الصراع يرجع إلى الالتباس الحاصل في مفهوم الشريعة وتطبيق الشريعة.
    وسواء عند المتبنين لتطبيق الشريعة المدافعين عنه ، أو عند المناوئين لهذا الهدف الخائفين منه ، فإن هناك مفاهيم وتصورات قاصرة أو مشوهة لمفهوم الشريعة ولتطبيق الشريعة . وهو ما تترتب عنه مشاكل وصراعات عدة ، يمكن تلافيها أو تقليصها بالمعرفة الصحيحة للشريعة ومضامينها.
    فبسبب هذا الالتباس، نجد عددا من الناس تصوروا الشريعة وتطبيق الشريعة على طريقتهم ، فقالوا بناء على ذلك : إن الشريعة لم تطبق إلا في العهد النبوي ، ونسبيا في عهد الخلفاء الراشدين . وهذا معناه ـ في نظرهم ـ أن هذه الشريعة غير قابلة للتطبيق في هذا الزمان ، لمثاليتها ، أو لقصورها ، أو لغير ذلك من الأسباب . المهم أن تطبيقها توقف في وقت مبكر ، ولم يصمد أمام التطورات والتغيرات إلا زمنا يسيرا. فكيف يراد تطبيقها اليوم ، بعد أربعة عشر قرنا من توقف تطبيقها ؟!
    وبسببه أيضا ، رأى آخرون أن الشريعة تتسم بالبدائية والتخلف والهمجية ، فكرهوها وكرهوا من يريد إحياءها ؛ فهي ـ فيما سمعوا وفهموا ـ عبارة عن قصاص وحدود ، وسيوف ودماء . فالعودة إلى الشريعة عودة إلى الوحشية والهمجية ، ونحن في زمن الحضارة والحداثة وحقوق الإنسان !
    وبسبب ذلك أيضا ، ظهر لبعض المتدينين والدعاة ، أن جميع الحكومات والمجتمعات ـ الإسلامية "سابقا" ـ قد نبذت اليوم شريعة الله وعطلتها وتنكرت لها ، وقد غلا بعضهم فتحدثوا عن ردة واسعة ، قد عمت معظم البلدان الإسلامية ، شعوبا وحكومات . ومن هنا ارتفعت درجة الكراهية والغليان ... وهو ما نجمت عنه إلزامات وتداعيات وردود فعل خطيرة ، ما زلنا نعيش آثارها.
    لذلك ـ وقبل الحديث عن قضية الشريعة وتطبيق الشريعة اليوم ـ لا بد من الحديث عن معنى الشريعة ومفهوم الشريعة .
     

    مفهوم الشريعة من بدايته

    ذكرت في حلقة سابقة ، أننا نحتاج ـ في كثير من القضايا والمفاهيم الأساسية ـ أن نرجع إلى الوراء ، وأن نرجع إلى البدايات ...، فلنرجع الآن إلى البداية أيضا.
    مادة " ش ر ع " ـ ومنها الشريعة والشرعة والشرع ـ في القرآن الكريم يشمل معناها كل ما أنزله الله لعباده ، من معتقدات ، وعبادات ، وأخلاق ، وآداب ، وأحكام عادات ومعاملات . وتأتي العقائد والعبادات في طليعة ما شرعه الله وجعله شريعة للعباد، كما هو واضح في قوله تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ الشورى/13
    أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الشورى/21
    "وعن السديّ، في قوله:( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ) قال: هو الدين كله" 
    أما لفظ "شريعة"، فقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة ، في قوله تعالى ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ  الجاثية/18 
    وورد شقيقه ، لفظ "شرعة"، في قوله تعالى وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا المائدة/48
    قال الإمام الطبري : "والشِّرْعة: الشريعة بعينها، تجمع الشِّرعة شِرَعًا، والشريعة شرائع، ولو جمعت الشرعة شرائع كان صوابا، لأن معناها ومعنى الشريعة واحد" .
    وقال القرطبي : "والشِّرعة والشريعة : الطريقة التي يُتوصل بها إلى النجاة. والشريعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل منه إلى الماء. والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، وقد شرع لهم يشرع : أي سن. والشارع: الطريق الأعظم." 
    فالشريعة في اللغة ، تعني الطريق العظيم والصراط المسقيم.
    والشريعة في استعمال القرآن مساوية لمعنى الدين ، الذي هو الصراط المستقيم .كل ما في الأمر أن استعمال"الشريعة" ، هو باعتبار واضعها وهو الله تعالى ، فهو الذي شَرَعَ لَكُمْ ... ، وأما استعمال"الدين" فباعتبار من يدين به ، وهو الإنسان.
    وبهذا المعنى الواسع الجامع للشريعة ، ألف الإمام أبو بكر الآجري ( المتوفى سنة360 هـ) كتابه الذي سماه ( الشريعة ) ، مع أن أكثر ما فيه مسائل عقدية وتربوية.
    وبعده ألف المفكر الفيلسوف الراغب الأصفهاني ( المتوفى سنة 500 ، أو502 هـ) ، كتابه الشهير ( الذريعة إلى مكارم الشريعة ) ، وهو كتاب في فلسفة الأخلاق والتربية . فالراغب يعتبر ـ بحق ـ أن تهذيب النفوس والعقول والأخلاق من صميم الشريعة ومكارمها. وهو يُعرف مكارم الشريعة فيقول : "ومكارم الشريعة هي : الحكمة ، والقيام بالعدالة بين الناس ، والحلم ، والإحسان ، والفضل. والقصد منها أن تبلغ إلى جنة المأوى , وجوار رب العزة تعالى." 
    وقبل الوصول إلى جنة المأوى ، فإن مكارم الشريعة تتلخص في تحقيق الغايات الثلاث الكبرى للوجود الإنساني ، وهي : العمارة ، والعبادة ، والخلافة. يقول : " ومن لم يصلح لخلافة الله تعالى ، ولا لعبادته ، ولا لعمارة أرضه ، فالبهيمة خير منه" 
    فهذه هي الشريعة ، وهذه هي مكارمها ومقاصدها ، وهذا هو المفهوم الأول لها.
    ومع التوسع العلمي وتشعب التخصصات العلمية ، ظهر استعمال الشريعة استعمالا اصطلاحيا. والاستعمال الاصطلاحي عادة ما يضيق من مدلولات الألفاظ ، ويقصُرُها على بعض مدلولاتها اللغوية.
    ومن المعاني الاصطلاحية الخاصة التي استُعمل بها لفظ الشريعة ، المعنى الذي يعنبه الصوفية عندما يقابلون بين "الحقيقة والشريعة". فالشريعة هنا ، صُرف معناها إلى التكاليف والضوابط الشرعية الظاهرة ، الموجهة إلى"عامة" المكلفين . وأما الحقيقة ، فهي الجواهر والبواطن والأسرار التي يدركها "الخاصة" من العباد والزهاد والعارفين ...ومن هنا نشأ القول بعلوم الظاهر وعلوم الباطن ، وتم على هذا الأساس التفريق بين وظيفة الفقه ووظيفة التصوف.وهي كلها اصطلاحات وتقسيمات طارئة ، ينبغي ألا تحجب عنا المعاني والمفاهيم الشرعية، كم هي في نصوص الشرع ، وكما هي عند المتقدمين.
    على أن أشهر استعمال اصطلاحي للفظ الشريعة ، هو استعمالها للدلالة ـ بصفة خاصة ـ على الأحكام العملية في الدين، أي كل ما سوى العقائد ، لكن مع الاحتفاظ في هذه الدلالة بجميع المجالات التشريعية العملية الواردة في الدين ، ومنها العبادات الظاهرة والباطنة ، والأخلاق والآداب . فالشريعة بهذا المعنى تشمل الدين كله إلا العقيدة . ومن هنا جاء استعمال عبارة " الإسلام عقيدة وشريعة." ، على أساس أن العقيدة غير الشريعة.
    ومنذ قرون طويلة ، أصبح هذا المعنى هو الأكثر شيوعا واستعمالا لدى العلماء، ولكنه لم يُلغ المعنى الأول والأعم للشريعة والشرع ، كما أنه ظل واسعا وشاملا لكل المجالات التشريعية . فمجال الشريعة هنا أصبح تقريبا هو نفسه مجال "الفقه" ، بمعناه الاصطلاحي المعروف . ويبقى الفرق بينهما هو أن الشريعة تطلق على ما هو منزل ومنصوص وصريح ، من الأحكام ومن القواعد الشرعية ، بينما الفقه ـ أو علم الفقه ـ يراد به خاصة ما هو مستنبط ومجتهَد فيه.
    وفي العصر الحديث اتجه استعمال اسم الشريعة نحو مزيد من التخصيص والتقليص، وخاصة حينما بدأ التعبير بلفظ " التشريع الإسلامي" ، على غرار " التشريع" بمعناه القانوني . وهكذا بدأ لفظ الشريعة والتشريع الإسلامي ، يطلقان على التشريعات المنظمة للحياة العامة . وهو اصطلاح العلامة ابن عاشور ، الذي يقول: " فمصطلحي إذا أطلقت لفظ التشريع أني أريد به ما هو قانون للأمة ، ولا أريد به مطلق الشيء المشروع. فالمندوب والمكروه ليسا بمرادَيْن لي، كما أرى أن أحكام العبادات جديرة بأن تسمى بالديانة." 
    وبهذا أصبح معنى الشريعة مماثلا ـ أو مقابلا ـ لمعنى القانون . ومن هنا جاءت المقابلة والمقارنة بين (الشريعة الإسلامية) و(القوانين الوضعية) . وقد تعززت هذه المقابلة ، وتحولت إلى خصومة ومنافسة ، بسبب ما تعرضت له أحكام الشريعة ـ المدنية والجنائية ـ من إزاحة قسرية ، لفائدة القوانين المستوردة من الغرب. وهذا ما جعل العلامة الأستاذ علال الفاسي يتحدث عن صراع بين ( الشريعة الإسلامية ) و(الشريعة الاستعمارية)، وذلك في كتابه القيم (دفاع عن الشريعة( .
    في خضم عملية "التطهير التشريعي" ، التي سهرت عليها ـ وما زالت ـ الدول الاستعمارية ، ارتفعت درجة الحساسية ضد هذا المسار، بل أصبحت هذه الحساسية جزءا من الصحوة الإسلامية ومحركا من محركاتها . وهنا رُفع شعار"تطبيق الشريعة" ، الذي اتجه أساسا إلى الشريعة بأضيق معانيها ، أي الشريعة الممثلة في قوانين الدولة ومحاكمها ، باعتبار أن هذا المعنى هو"محل النزاع وميدان الصراع".
    وبما أن أول وأبرز ضحايا "التطهير التشريعي" ، كان هو المجال الجنائي، فإن رد الفعل قد تركز على هذا المجال وعلى تضخيمه . وهكذا بدأت عملية اختزال لمفهوم الشريعة ولتطبيق الشريعة ، في تطبيق العقوبات الجنائية الإسلامية . وأصبحت "الحدود الشرعية" رمزاً لتطبيق الشريعة أو رمزا لتعطيل الشريعة .
    والخلاصة : أن المعاني الخاصة والمضيقة لمفهوم الشريعة ، ينبغي أن توضع وتفهم في سياقها ومجالها ، وينبغي ألا تحجبنا أو تحجب عنا المعنى الأصلي والكامل للشريعة.وعلى هذا الأساس ، يمكننا التحدث عن تطبيق الشريعة .. فلنتابع.

    مقالات