شعائر الحج والعيد وأحلام الوحدة والتجديد


كم أن أمتنا بحاجة إلى استلهام الدروس والعبر من شعائر الحج! تلك الشعائر التي لولاها لما بقي المسلمون إلى اليوم أمة، ولولا ما انطوت عليه من معان ومقاصد لآلت إلى طقوس شكلية لا أثر لها في حياة المسلمين، والذي يبدو للمتفرسين في أحوال الخلق هو أن المسلمين يتأثرون بدرجة ما بشعائر الحج والعيد، وبما تحمله من معان دون حاجة إلى تأمل أو تدبر، لكن هذا التأثر لن يرقى إلى مستوى البعث إلا إذا أدركنا على وجه الدقة ما وراء الأشكال من مضامين، وما تحت الرموز من إشارات، وتأتي المعاني المرتبطة بوحدة الأمة وتماسكها في مقدمة ما تبثه شعائر الحج والعيد من معان، فهل نستطيع أن نستشف ذلك من استقراء الشعائر؟ وما الذي يمكن أن نحقق به أحلام الوحدة دون أن نتجاهل الواقع أو نتجاوز حدود الموضوعية؟ هذا ما ينبغي التوجه نحوه والتركيز عليه.
لا ينقصنا إلا الوحدة
إذا كانت أمتنا العربية والإسلامية تمتد بجغرافيتها لتغطي منطقة القلب من العالم، وتضم في جناحيها ثروات وخيرات ظاهرة سافرة وباطنة كامنة، وتتحكم في مصادر من الطاقة لا غنى للبشرية عنها، وتبسط يمينها على سواحل وموانئ ومضايق ومعابر تعد بحق شرايين الملاحة والتجارة العالمية، وإذا كان رصيدها من الشباب الواعد الصاعد الذي لم يفسده شذوذ ولا إلحاد كبير ووفير، وإذا كانت العقول المهاجرة والأموال المسافرة تكفي وحدها لإقامة حضارة لو توافر لها من يديرها بالشكل الذي يجعلها دائرة في فلك عربيّ إسلاميّ أصيل، وإذا كان الإسلام دين هذه الأمة يملك على وجه الحصر منهاج الحياة وسبيل النجاة للإنسان جنس الإنسان في دنياه وأخراه، إذا كان ذلك كله متوافرًا بأريحية شديدة، فما الذي ينقصنا لنحقق الانطلاقة الكبرى؟ لا ينقصنا إلا الوحدة ولو في حدها الأدنى.
المشهد العام ودلالاته العامة
قبل أن تنخرط في تفاصيل المشهد، قفْ لحظة عند الخطوط العريضة وعلى رأس الهيكل الكلي، وقم بتوسيع دائرة النظر وفتح زاوية (الزوم)، ثم ألق نظرة عامة على المشهد المهيب، ها هي الأمة الإسلامية كلها بعمقها واتساعها مغمورة في أضواء الحدث مطمورة في بحره المواج، انظر كيف ينوب عنها وفد الله وحجاج بيت الله في إحياء شعائر الحج الأكبر؟ وكيف تتجاوب الأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها مع سفرائها لدى البيت العتيق بإحياء شعائر العيد في الساحات والميادين؟
تأمل كيف يتعانق التكبير الصاعد من صدور المسلمين في كل مكان مع التلبية المنبعثة من قلوب الحجيج في عرفة ومن جوار الكعبة المشرفة، وكيف تلتقي دماء الأضاحي في كل البقاع والأصقاع التي يعمرها المسلمون مع دماء الهدي التي تسيل في طرقات أم القرى مكة؟
وكيف دخل الحجاج الذين يمثلون الأمة بأنسابها وأعراقها وطبقاتها كافة في زي واحد، لا فرق بين حاكم ومحكوم ولا بين غني وفقير ولا بين أبيض وأسود؟ إنه المشهد الكلي الذي يحمل كثيرًا من الدلالات المبشرة، على رأسها وحدة الأمة الإسلامية.
الشعيرة الكبيرة والرمزية الطاغية
إلى أي شيء يرمز طواف المؤمنين ببيت الله العتيق؟ لكي ندرك ذلك بعمق ينبغي أن نستدعي القوانين والنواميس الإلهية التي تحكم الكون كله، فها هو الكون من الذرة إلى المجرة يؤدي الحركة ذاتها التي يؤديها الحجيج، ليلتقي الأمر الكوني مع الأمر الشرعي في مشهد غاية في الاتساق، فالوحدات جميعها في هذا الكون تدور فيها الأجسام في اتجاه واحد مشدودة إلى قطب واحد، من الذرة المتناهية في الصغر إلى المجرة المتناهية في الضخامة والكبر، فإذا كان هذا الدوران الذي يجري في وحدات هذا الكون جميعه هو سر تماسك الوجود ووحدته، فإن طواف الحجيج بالكعبة يرمز إلى أن وحدة الأمة وتماسكها مرهون بهذا القانون، وهو أن تسعى جادة في اتجاه واحد مشدودة إلى قطب واحد، أي تسعى في اتجاه تحكمه ثوابت ومبادئ وغايات واحدة، مشدودة إلى منهج الله -تبارك وتعالى-.
الحد الأدنى للوحدة المنشودة
تتحقق الوحدة في المجالات كافة وعلى الأصعدة جميعها في حدها الأدنى بهذين الوصفين الذين تحققا للحجيج في طوافهم بالبيت، ويتحققان لكل وحدة في الوجود في حركة الدوران الكوني، الوصف الأول وحدة الوجهة (في اتجاه واحد) والآخر وحدة المنطلق (مشدودين إلى قطب واحد)، فإذا توحدت وجهتنا وغاياتنا وتوحد المنطلق الذي ننطلق منه تحققت وحدتنا حتى ولو لم يتحقق الاندماج العضوي، فعلى مستوى الدول العربية والإسلامية إذا كان المنطلق هو كتاب الله والوجهة هي سياسة الخلق بمنهج الله، فإنه يكفي لتحقق الوحدة أن يقع بين هذه الدول تحالفات سياسية وعسكرية واقتصادية، تحقق التكامل والتوازن والكفاية والحماية، وعلى مستوى الأفراد والكيانات والمذاهب والمدارس يكفي حسن إدارة الاختلاف، وحسن إدارة المشترك، وحسن إدارة التعددية، وذلك ببلورة الثوابت واتخاذها ميثاقًا يحترمه الجميع، مع ترك موارد الاختلاف كمساحات مرنة تلبي الطبيعة البشرية، ووضع معالم بارزة لآداب الاختلاف في الرأي، وعلى المستوى المجتمعي يكفي لتحقق الوحدة أن ينتهي الناس عن هذه الرذائل الستة التي تمزق أواصر المجتمع: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
العيد وآفاق التجديد
ها هو العيد، تهب علينا نسائمه من جديد، تبث فينا روح البعث والتجديد، وإننا لأمة قادرة على ذلك بما حباها الله -تبارك وتعالى- من كتاب وصف بأنه روح وبأنه نور، قال تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فبالروح نحيا، وبالنور نعرف الطريق.