الأحد 15 يونيو 2025 11:57 مـ 18 ذو الحجة 1446هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    تعليق على رسالة أدهم شرقاوي الى ترامب

    رابطة علماء أهل السنة

    نشر للكاتب أدهم شرقاوي قبل أيام مقالته في جريدة الوطن القطرية، بعنوان : رسالة إلى دونالد ترامب، فسرت في وسائل التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، لراصنة لغة الكاتب وأسلوبه التهكمي،  وواقعية الكثير من فقراته،  إلا أنه استوقفني بعض ما ذكر، لأعمل فكري بعيدا عن سحر أسلوبه الأخاذ، حيث ذكر ما نصه على طريقة جلد الذات : فنحن قوم مولعون بالكلام،  ولعلك لا تعلم، وأنت لا تعلم كثيرا بالمناسبة،  أننا الأمة الوحيدة في التاريخ أنشأت سوقا للكلام في سوق عكاظ قبل أن تكشف أمريكا،  ومن شابه أباه فما ظلم. انتهى 
    لنا وقفات مع ما ذكره شرقاوي في هذه الفقرة لتصحيح الفهوم، لفداحة ما يترتب على مثل هذه القناعات والتسليم بها، قد لا يلقي لها كثير من الناس بالا، لعدم امعانهم النظر فيما يكتب وما ينتج عنه، 
    ان زعمه أننا مولعون بالكلام قد يبدو صحيحا، اذا قصد بذلك أمتنا هذه الأيام ، وهي تعيش أتعس سنواتها،  ولا أراه قاصدا ذلك وفقط، بل طال زعمه جميع أطوار تاريخ هذه الأمة من لدن الجاهلية إلى يومنا هذا، والدليل أنه ذكر أننا الوحيدون الذين أقاموا للكلام سوقا سوق عكاظ. نقول أولا  يجب أن يعلم ان أمتنا لم تكن تطرب لكل كلام وتنساق له، بل لكلام من طراز فريد شعرا أم نثرا وراءهما عقل كبير ونظر ثاقب، وأنت تدرك ذلك بالنظر اليسير إلى تراثها الأدبي طوال القرون، لترى كم نسبته إلى باقي كلامها، وأنا أدعي أنه لا نسبة له أصلا  لقلته أمام كلام العامة، ما يؤكد ضعف ما ذكره شرقاوي، ثم ان أمتنا ليست بدعا في الولوع بالجيد من الكلام والحسن من التعبير، والقدرة على البيان والتوضيح ، لأن ذلك كمال يسعى له العقلاء من الناس، ولذا نجد كليم الله موسى عليه السلام  طلب من الله أن يهبه لسانا طلقا لتبليغ رسالة الله، وقد عيره فرعون قبل بأنه لا يكاد يبين، ونحن أيضا نرى اهتمام الناس من الطبقة المثقفة من السياسيين ورجال الأعمال والإعلاميين والقادة في دول العالم في هذا العصر بتطوير أنفسهم في مجال الخطابة والاقناع وفن التفاوض ،  هذا ونحن في زمن ادعي فيه وصول البشرية إلى نهاية التاريخ أي أقصى ما تصل إليه البشرية من التطور والازدهار،اذن الولوع بالكلام الجيد قاسم مشترك بين أصحاب العقول على تباين أعراقهم وأديانهم، ثم اننا نعرف أن القرآن الكريم لما نزل نعى على العرب بعض عاداتها وتقاليدها السيءة، ولم يعرج على ولوعها بالكلام الساحر وفتتانها به، بل أشاد ببلاغة لسانها ووصفه بأنه مبين،  وجاراها في أساليب كلامها وبيانها، وكان معجزة خاتم رسل الله محمد صلى الله عليه وسلم في البيان، لأن قومه قوم لد كما وصفهم القرآن الكريم ، كما أن لرسل آخريين معجزاتهم التي تتماشى مع أحوال أقواهم وظروف عصورهم، فأعيى القرآن فطاحلة البيان وأرباب اللغة الأوليين الذين بلغت اللغة ذرة بلاغتها وجمالها في أيديهم، لذا يفسر بعض علماىنا الحروف المقاطعة في أوائل بعض السور القرآنية على أنه تحد لأولئك القوم، فكأنه يقول لهم هذا القرآن تسمعونه هو من جنس كلامكم الذي يتكون من هذه الحروف، ولن تستطيعوا الاتيان بمثله ولو كان بعضكم لبعض ظهيرا، مع تمكنكم من اللغة واخذكم بناصية البيان، وهذا دليل آخر على أن الاهتمام بالجيد من الكلام ليس عيبا، والا لما جاراهم القرآن في أسلوب كلامهم. 
    نقول عن سوق عكاظ لسبب تعرض الكاتب لها، سوق عكاظ واحدة من أشهر أسواق العرب قبل الإسلام وبعده، منها سوق مجنة،  وسوق ذي المجاز وغيرها، التي تتوافد اليها قبائل العرب من كل حدب وصوب، تتبارى فيها بذكر أمجادها وأيامها وأفعالها وبلدانها على لسان شاعرها أو خطيبها، في قالب منظوم أو منثور بأسلوب أخاذ خلاب، وهو أمر لم تختص العرب به وان بلغت النهاية فيه ، بل عرفت بعض الأمم بهذا في القاديم، وهو أمر جار إلى الآن في أرقى الدول في الحضارة والتمدن، لأن تلك الأسواق بمثابة  الأندية الثقافية والسياسية والاجتماعية، وحتى الجامعات  العصرية لا تخلو من مثل هذه الأنشطة، ، كل يبدي فيها رأيها وموقفه تجاه القضايا،  اذن هذه الأسواق ليست محل بيع كلام ذهب إليه شرقاوي، بل محل ذكر الأمجاد والأفعال، لذا نجد أحد شعراء بني تيم يحض قومه على صنع الأمجاد وفعل الأفعال العظام حتى يتسنى له التغني  بها في النوادي والمنتديات وعند منافرات القبائل، قال : أمعشر تيم أطلقوا من لسانيا، أي افعلوا ما يصلح الافتخار به بين الناس وإلا فلا كلام لي من دون فعلكم،  فالعرب حافظت على تاريخها وأمجادها وأيامها وخرائط بلدانها وأنواع مناخها وعاداتها وتقاليدها من خلال أشعارها، لذا يقول العلماء : الشعر ديوان العرب،  فاذا كان بهذه الأهمية فلا يجوز الاستهانة به بشكل من الأشكال، وهو يحمل في طياته هذه الأمور المهمة، ثم ان الكلام الذي يذكر في تلك الأسواق ، ليس كلام السوقة، بل كلام ينبع عن تجارب وسبر أغوار الحياة، من أناس وهبهم الله احساسا زايدا عن احساس عامة الناس، ويتمتمعون بخيال خصب ورؤية ثاقبة، لذا كانوا بمثابة الأنبياء قبل الإسلام، حتى زعم الناس أن لكل شاعر شيطان يوحي اليه تثمينا لما ينثال من فؤاده، وظلت هذه الأسواق حتى بعد الإسلام قايمة إلى أن كان أول ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين وماية كما ذكر الفاكهي، ان تقزيم هذه الأمور واخراجها في صورة مشوهة لا يخدم الأمة لا من قريب ولا من بعيد ، بل يخدم المرجفين فيها وأعداءها، 
    وقول شرقاوي : ومن يشابه أباه فما ظلم، تشبيها منه لأحوالنا هذه الأيام بأحوال أولئك القوم في استهلاك الكلام ، فيه ظلم كبير لأولئك، لأنه من باب تشبيه الحي بالميت، فلا وجه شبه بيننا في ذلك، هؤلاء لم تخضع لهم البلاغة والبيان فحسب، بل خضعت الدنيا بدولها وحضاراتها، في فترة زمنية قياسية، وأخضعوا الدنيا للدين  وساسوها على منهج رب العالمين، فافتنانهم بفنون الكلام لم يقعدهم عن معالي الأمور، أم نحن اليوم  لا في العير ولا في النفير، ما عندنا شيء، لم نصنع شييا، ولم نحافظ على ما صنعه أوليك بجهودهم ودمايهم، نعم نحن نستهلك كل شيء بما فيه الكلام الباهت الحابط، هذا قدرنا حتى يكوت عندنا عقل  كعقل أوليك الأوليين، فيدفع بنا نحو العزة والقوة والكرامة والنهضة والريادة، وإلا ، فإنا لله وانا اليه راجعون 

    العرب الكلام ترامب رسالة

    مقالات