رسائل في زمن الإحباط
الدكتور طه سليمان عامر - رئيس هيئة العلماء والدعاة بألمانيا رابطة علماء أهل السنةتعيش أمتنا على امتداد رقعتها مرحلة تاريخية شديدة الوطأة، تستهدف تلك الحملة الضارية دينها وأوطانها ومُقَدراتها وحاضرها ومستقبلها، وتتوسل في سبيل ذلك بكل أفَّاك أثيم لا يرعى عهدا ولا ذمة ولا خُلقا، وقد نجحت تلك الحملة المسعورة في دحرجة الأمة إلى واد سحيق، وأصبحت كالغنم في يوم شاتٍ، وفي كل يوم نرى ونسمع ما يُحزن القلب ويبعث على الأسى، من تشريد وسجن وقتل وتعذيب للأحرار والشرفاء واغتيال لأحلام الشباب واستباحة كل المحرمات حتى ضاقت القلوب وبلغت الحناجر وأصبحنا نقول: هل من سبيل؟ ماذا بعد؟متى يتوقف الطغاة عن جرائمهم البشعة؟ ألهم أعين يبصرون بها؟ أم لهم آذان يسمعون بها؟ هل عَمِيت بصائرهم؟هل لهم قلوب كقلوب البشر أم أن خِصال الوحوش الكاسرة كافَّة قد استوطنتهم؟
قبل سنوات وأنا ألتقى شبابا يمتلكون عقولا نيرة، وأرواحا زاكية، وقلوبا طاهرة، وهمَّة ورغبة في عمل الخير واسعة، ونشاطا وحركة متواصلة في سبيل رفعة ونهضة الأمة في مصر وسوريا وتونس واليمن وغيرها من الأوطان، وبعد هذه الأعوام تبدلت أحوال كثير منهم بعد وأْد الحرية المأمولة، وتغيَّر كل شيء في أعينهم، بعد أن أصبح منهم الشريد والسجين ومن واراهم الثرى، وقد خلَّفوا وراءهم قلوبا منكسرة وأعينا بالدمع مُنهمرة.
فهل من قامات منتصبة وهامات مرفوعة وسط هذا الركام؟ هل من بوارق أمل تبدد ظلام الواقع وتعيد للحق صولته وللعدل دولته؟ نعم وبكل اعتزاز إننا لنرى وراء الأفق أشعة من نور حق يزهق الله به ظلمة الباطل، بل نرى الآن صُورا ومشاهد تزيد المؤمن إيمانا لتؤكد أن الحالة المؤلمة التي تعيشها الأمة لن تدوم، وسيجعل الله من بعد عسر يسرا، وتلكم بعض بوارق الأمل.
أمهات ثكلن أولادهن على أرض فلسطين وسط الحصار الجائر وإذ بهن يستقبلن قدر الله بقلب منيب وبرضا عجيب وأمل في رب العباد أن يقبل ويرضى ويقين بالنصر ولو بعد حين .ورجل فقير في بيت المقدس يُسَاوَم على بيع بيته الصغير بملايين الدولارات ويأبَى، لأنه يملك نَفْسا لا تباع بأموال العالم كله .وفي مصر أمهات فُجِعن بأبنائهن على يد الطاغية، لكننا رأينا منهن ثباتا وصبرا عَزَّ نظيره، وقُل مثل ذلك في زوجة غيب زوجها أو عائلها وهى تواصل مسيرة تربية أبنائها رغم الظروف القاهرة، وطفلة صغيرة لم يملك أبوها أن يضع قبلة على جبينها مثل سائر الآباء، ومع حزن القلب والإحساس بالقهر إلا أن العزم والإيمان يبقى لهم خير معين وظهير.
نرى رجالا ونساءً وشبابا في زمن المحنة يجددون عهد مصعب بن عمير وصهيب الرومي وخُبَيْب بن عدي وأسماء بنت أبي بكر والخنساء وغيرهم ممن قال الله فيهم "فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين"ويَعجب المرء ويتساءل من أين لهم كل هذا الصبر والتسليم؟ ويأتي الجواب: إنك لا تدري يا مسكين أن هناك شيئا لا يكتسب بالمال ولا بقوة السلطان إنما بأن يُفرِغ الله مقادير من الرضا على قلب من سلَّم له وناداه "وأسألك الرضا عند القضاء"
أتتذكر أم موسى؟ هل تدرك ما معنى أن ترمي بروحها وقطعة من قلبها في اليَم؟ كيف جرى هذا؟ السر يسكن في قول ربنا الرحمن جل في علاه"وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" فيا كل مسكون بالخوف، أو الهم والحزن، أو يا مَنْ فُجِعتَ بحبيب، قل لمن لا يغفل ولا ينام: اربط على قلبي وارضني. قل كما قال سحرة فرعون لما آمنوا وأيقنت قلوبهم بفاطر السماوات والأرض "رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ".
واعلم أن كل لحظة ألم، وكل دمعة عزيزة، وكل صرخة انطلقت من صدر مكلوم، وكل ساعة غربة باعدت بين الأحبة والأهل لن تضيع عند الله تعالى، بل هي نور وهدى ورحمة وبشارة عاجلة من الله ، وتأمل معي قول الله تبارك وتعالى "وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" فهل بعد هذا الفوز من فوز؟ اللهم لا. كما أننا نوقن بسنَّة الله في هلاك الظالمين، وقصص القرآن الكريم وتاريخ الأمم والشعوب منذ آلاف السنين شاهد على ذلك ومؤكد عليه.