الجمعة 24 أكتوبر 2025 12:15 صـ 1 جمادى أول 1447هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    الليلة الكبيرة و”السّيرْك” الكبير

    رابطة علماء أهل السنة

    كأنها نهر مزتدفق يحمل الجيف فوق ثبج أمواجه! ما هذا الذي تعج به مواقع التواصل الاجتماعيّ منذ أيام؟ ما هذه الصور ومقاطع الفيديو التي تزدحم وتتدافع وتخطف انظار المتابعين داخل مصر وخارجها؟ ما هذا الحشد الضخم من "اللقطات" التي تصور ما جرى في مولد أحمد البدوي؟ ما هذا الكم الهائل من الخرف والقرف الذي يباركه أشياخ معمّمون ويدعمه مسئولون متخمون؟ أهذه هي مصر وهذا هو الشعب المصريّ؟ ما أشدّ ما ابتليت به مصر! كم هي منكوبة ومكروبة ومسلوبة! وكم هي بحاجة إلى تجديد يميط عن وجهها الندوب والتجاعيد! وإلّا فإنّنا سنظلّ ندور أبدًا بين الليلة الكبيرة والسيرك الكبير.
    هذه الليلة الكبيرة فما هو السيرك الكبير؟
    أمّا الليلة الكبيرة فمعلومة لجميع المصريين ولكثير من غير المصريين، وأمّا "السيرك" الكبير فلست أعني به ذلك المسرح الرحَّال النقّال الذي يحمل فوق ظهره الطائشِ خليطًا ممن يسمون بالفنانين الشعبيين مع "تشكيلة" من البهلوانيين والمشعوذين والمهرجين، وإنّما أعني به الحياة العامّة التي تظلل شعبًا يغدو فيه الدجل ويروح، وتصول فيه الخرافة وتجول، ويختلط فيه العلم بالجهل، والتوحيد بالشرك، والاستقامة والاعتدال بالزيغ والضلال، والعبادة الربّانية بالطقوس البهلوانية، كلّ ذلك في سبيكة واحدة مسكوكة بشعارات وطنية شعبوية من مثل (تحيا مصر)، هذا هو السيرك الكبير؛ وإِذَنْ فكلّ ما نؤمله وجميع ما نتطلع إليه مما يتعلق بحاضر بلدنا ومستقبله عرضة لأنْ تجتاحه "الغنوصية" الضاربة بجذورها في تربة الخرافة، وعندئذٍ لا تسلْ عن نهضة علمية، ولا عن ثورة صناعية، ولا عن طفرة زراعية، ولا عن وثبة إنتاجية، ولا عن جيل من الشباب يصعد ببلده فوق السحاب، ولا عن أمل في الخلاص من الأزمات التي تحيق بنا كما حاق العذاب بالأمم التي غرقت من قبلنا في لجج الخرافة، سوف نتلافى مخاطر سدّ النهضة بسلسلة من التعاويذ، ونحلّ الأزمة الاقتصادية بالطواف حول الأقطاب والأبدال، وسوف نحيي ما مات من أمجادنا بإحياء الموالد!


    دمعةٌ على مصر


    منْ قبل رأى أحد رواد النهضة في مصر الأستاذ مصطفى لطفي المنفلوطي شيئًا من ذلك فكتب مقالة تحت عنوان: "دمعة على الإسلام"، ومما قال فيها: "أي عين يجمل بها أن تستبقي في محاجرها قطرة واحدة من الدمع، فلا تريقها أمام هذا المنظر المحزن، منظر أولئك المسلمين، وهم ركَّع سجَّد على أعتاب قبر، ربما كان بينهم مَنْ هو خير مِنْ ساكنه في حياته، فأحرى أن يكون كذلك بعد مماته؟! أيُّ قلب يستطيع أن يستقرَّ بين جنبي صاحبه ساعة واحدة، فلا يطير جزعًا حينما يرى المسلمين أصحاب دين التوحيد أكثر من المشركين إشراكًا بالله؛ وأوسعهم دائرة في تعدد الآلهة وكثرة المعبودات؟! ... جاء الإسلام بعقيدة التوحيد؛ ليرفع نفوس المسلمين، ويغرس في قلوبهم الشرف والعزة والأنفة والحمية، وليعتق رقابهم من رقِّ العبودية، فلا يذلُّ صغيرهم لكبيرهم، ولا يهاب ضعيفُهم قويَّهم، ولا يكون لذي سلطان بينهم سلطان إلَّا بالحقِّ والعدل، وقد ترك الإسلام بفضل عقيدة التوحيد ذلك الأثر الصالح في نفوس المسلمين في العصور الأولى، فكانوا ذوي أنفة وعزة، وإباء وغيرة، يضربون على يد الظالم إذا ظلم، ويقولون للسلطان إذا جاوز حده: قف مكانك، ولا تَغْلُ في تقدير مقدار نفسك، فإنما أنت عبد مخلوق، لا ربٌّ معبود ...
    هذه صورة من صور نفوس المسلمين في عصر التوحيد، أمَّا اليوم وقد داخل عقيدتهم ما داخلها من الشرك الباطن تارة والظاهر أخرى؛ فقد ذلَّت رقابهم، وخفقت رؤوسهم، وضرعت نفوسهم، وفترت حَمِيَّتهم، فرضوا بخطة الخسف، واستناموا إلى المنزلة الدنيا، فوجد أعداؤهم السبيل إليهم، فغلبوهم على أمرهم، وملكوا عليهم نفوسهم وأموالهم ومواطنهم وديارهم؛ فأصبحوا من الخاسرين ... والله لن يسترجع المسلمون سالف مجدهم، ولن يبلغوا ما يريدون لأنفسهم من سعادة الحياة وهناءتها إلا إذا استرجعوا قبل ذلك ما أضاعوه من عقيدة التوحيد، وإنَّ طلوع الشمس من مغربها، وانصباب ماء النهر في منبعه أقرب من رجوع الإسلام إلى سالف مجده، ما دام المسلمون يقفون بين يدي الجيلاني، كما يقفون بين يدي الله، ويقولون للأول كما يقولون للثاني: أنت المتصرف في الكائنات، وأنت سيد الأرضين والسموات".


    الخطوة الأولى على طريق النهوض


    تعجب أشدّ العجب عندما تعلم أنّ أول قطيعة أحدثها القرآن مع الجاهلية كانت قطيعة معرفية، وأول حبل قطعه سيف الوحي هو حبل المنهج العلميّ، وما كان بالإمكان أن يتحقّق الإقلاع الحضاريّ إلا بقطع هذا الحبل الغليظ المجدول من جملة من المناهج الخرافية السخيفة، فمع أنّ الوثنية كانت أفحش مظاهر الجاهلية لم يبدأ الوحي بها، وإنّما بدأ هذه البداية المدهشة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، ‌خَلَقَ ‌الْإِنْسانَ ‌مِنْ ‌عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)؛ فإن كنت قد وعيتها وإلا فقل لي: ما ذِكْرُ القلم والقراءة والعلم في أمّة أمّيّة وفي قوم وصفهم القرآن بأنّهم (الذين لا يعلمون)؟ وما ذِكْرُ الإنسان في بيئة لا تعتزّ إلا بالقوم والعشيرة ولا تنتمي إلا إلى البطن والقبيلة ولا تحمل في مفردات ثقافتها عن الشعوب إلا "ربيعة ومضر" أو "العرب والعجم"؟ إنّها وثبة منهجية معرفية، إنّها بمثابة قطع الحبل الذي يربط سفينة النهوض بشاطئ الجاهلية بما يعجّ فيه من خرافات و"خزعبلات"؟
    فإذا علمنا هذا - وكنّا ننشد لبلدنا النهوض والخلاص - فعلينا بإحداث قطيعة عاجلة وسريعة وصارمة وحاسمة مع الخرافة ومناهج الخرافيين؛ لأنّ الخرافة هي أخطر ما يهدد المنهج العلميّ، ولأنّ غياب المنهج العلميّ أو تعطله هو أخطر ما يهدد الحياة العامة؛ فهو رائد الصعود الحضاري، ولذلك لم تعرف أوربا نهضة علمية حقيقية إلا بعد أن وضع فرنسيس بيكون كتابه "الأورجانون الجديد"، الذي بيّن فيه المنهج التجريبيّ، وهدم فيه المنطق الأرسطيّ العقيم، فانطلقت به أوربا إلى آفاق التقدم العلميّ المادي، ولولا ما وضع على هذا المنهج من قيود على يد ديفيد هيوم وجون ستيوارت مل وجون لوك وديكارت وأمثالهم لصار هذا المنهج باب هداية إلى ربّ السماوات والأرض، ولكن ربما وقع ذلك بسبب غياب دور الأمة الإسلامية التي كانت قد وقعت آنذاك في مثل ما نحن فيه اليوم: الخرافة والاستبداد وتفرق الكلمة.

    الليلة الكبيرة السيرك الخرافة الجهل مصر طنطا

    مقالات