السبت 20 أبريل 2024 12:24 مـ 11 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    المعصية ... بين التهوين والتهويل

    رابطة علماء أهل السنة

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد...


    التحدث عن الذنوب ما بين التهوين المؤدي إلى طول الأمل،  والتهويل المؤدي إلى اليأس والقنوط، أمر خطير، فبناء على هذا الحديث سيتوقف مصير إنسان، فهو إما إلى هداية أو إلى يأس  وغواية.


    فعندما يبدأ المتحدث جانحا إلى الترهيب المفرط، والذي يصور للإنسان أن ذنبه هذا ليس له منه توبة مهما فعل من الحسنات، ظانا أنه بذلك الترهيب يزرع الخشية في قلوب مستمعيه، ويستدل على قوله هذا بحديث ثوبان :
    عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ) قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا . رواه ابن ماجه ( 4245 ) ، وصححه الألباني في " صحيح ابن ماجه " .


    ويسترسل في شرح ظاهر الحديث، حتى يصل بمستمعيه إلى قناعة كاملة بأنه لا نجاة لفاعل الإثم، الذي إذا خلا بمحارم الله انتهكها.


    وهذا نسأله، أين أنت من قول الله عز وجل : (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (48) النساء.


    ونسأله أين أنت من الحديث، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ : يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) ... رواه البخاري ( 5721) ومسلم (  2990 ) .


    وأين أنت من حديث ابن مسعود رضي الله عنه،  أَنَّ رَجُلًا أَصَابَ مِن امْرَأَةٍ قُبْلَةً، فَأَتَى النَّبِيَّ ﷺ فأَخبره، فأَنزل اللَّهُ تَعَالَى: وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فَقَالَ الرجل: أَلِي هَذَا يَا رسولَ اللَّه؟ قَالَ: لجَميعِ أُمَّتي كُلِّهِمْ. متفقٌ عَلَيهِ.


    وعلى الصعيد الآخر نعيب على من يأخذ هذه الأدلة، فيسوقها ليزرع الأمل في نفوس مستمعيه، ويسترسل في تيسير غفران الذنب، ظانا أن السامعين سيسرعوا إلى التوبة من كل قبيح والإقبال على الله، وهو لا يدري أنه بدون وضع الأحكام الضابطة لهذا الأمر، هوّن أمر المعصية على مستمعيه، مما يمكن أن يصل بهم إلى حد الجرأة على المعصية، وكيف لا والأمر كله يمكن حله بركعتين أو بصدقة أو أي عمل صالح!!!.

    الاعتدال أمر مطلوب في كل شيء، فلو طغى الخوف على العبد بلا أمل، لقنط، ولو طغى الرجاء على العبد لغرّه الأمل.


    فالمراوحة بين الخوف والرجاء أمر مطلوب.


    وكذلك وضع الضوابط الشرعية للتعامل مع الذنب، والتي فصّلها الإمام  ابن القيّم في قوله : ‏أتظن أن الصالحين بلا ذنوب ؟! إنهم فقط: استتروا ولم يُجاهروا، واستغفروا ولم يُصروا ، واعترفوا ولم يبرروا ، وأحسنوا بعدما أساءوا .

    فشروط ألا يقع العبد تحت طائلة حديث ثوبان هي :


    أولها : استتروا ولم يجاهروا، فلا يفعل المعصية ويستره الله، ثم يعلنها هو بين الناس، إما على سبيل التفاخر، أو على سبيل أنه يشكوا ذنبه للناس، فيعم البلاء، وإذا عمّ البلاء خفّت المصيبة، ويصبح دون قصد ممن يُشيعون الفاحشة في الذين آمنوا، عافانا الله ويّاكم.
    قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) النور.


    ثانيها : استغفروا ولم يصرّوا، فهو يشعر بالندم ولا يصر على معصيته، قال تعالى : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135). آل عمران.
    وقد قال ابن عبّاس رصي الله عنه : التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من ذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه.


    ثالثها : اعترفوا ولم يبرروا، فالشيطان والهوى يزينان للإنسان ما يفعله، ليبدأ الشعور بالندم في الأفول ويبدأ إلف المعصية في الصعود، ويعلو الرّان القلوب فتصدأ.


    رابعها : أحسنوا بعدما أساءوا، فعلامة التوبة الصادقة، هو الإحسان بعد الإساءة، وليس الاستسلام بحجة عدم المقدرة، فنقول لهذا : لو صدقت في المجاهدة لأعانك الله، قال تعالى :  وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) العنكبوت.


    فالصادق في مجاهدة نفسه وشهواته، يعينه الله، أما من استهان بمحارم الله وتجرّأ، وجعل الله عز وجل " أهون الناظرين إليه" ، فهذا يراجع نفسه قبل ألا يجد وقتا للمراجعة.

    فالخوف حال العافية أولى و الرجاء حال البلاء أولى والمحبّة باعثة على كليهما.

    نسأل الله عز وجل أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلي اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.

    المعصية التهوين التهويل الخوف الرجاء

    مقالات