الخميس 18 أبريل 2024 11:15 مـ 9 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    المرأة في السنة النبوية ( 5 ) يَا عَائِشَةُ، لاَ تُحْصِي، فَيُحْصِيَ اللّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكِ

    رابطة علماء أهل السنة

    التَّربيةُ على الإنْفَاقِ فِي سبيلِ الله، والإحسانِ إلى الفقراءِ والمساكينَ لهَا جوانب عدَّة، لا تَقِفُ عنْدَ حثِّ النَّاسِ على الصَّدقةِ، وإنَّما تزيد على ذلك بتربيَتهم على تزكية نُفُوسهم بالتَّحلِّي بآدابِ الصَّدقة والإحسانِ إلى الخَلْق.
    وعندما نعيش مع الحياةِ الجميلةِ فِي سيرة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، نَجِدُ عُمق التَّربية على الصَّدقة وآدابِها فِي حياة النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، وهو أُنْمُوذج لمَا كان عليه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تربية أصحابه على الصَّدقة والإحسان إلى النَّاس.
    مرَّ بنا فِي مَقالٍ مَضَى أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علَّم عَائِشَةَ قاعدة معرفة الفقير، وألَّا تستقِلَّ الصَّدقة، فتُخرج ما تيسرَ ولو كان نِصفُ تَمْرَة. واليوم نتناول تربية النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا على أدبٍ عظيمٍ مِنْ آدابِ الصَّدقة له ارتباط بالفقيرِ مِنْ جهة، وبتزكيةِ النَّفسِ مِنْ جهة ثانية، وبالعلاقةِ مع الله مِنْ جهة ثالثة. فما أعظم تربية النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمَّتهِ على فضائلِ الأَخْلاقِ، وطهارة النُّفوس.
    ومِمَّا يُلاحظ فِي طريقة تربية النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لزوجاتِهِ أنه يستثمر الحوادث التي تقع أمامه مِنْهُنَّ، فيوجههنَّ بحسب الموقف مِنْ غير تكلُّف.
    فَمِنْ تلك الحوادث التَّربويَّة، ما روته عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، قالت: دَخَلَ عَلَيَّ سَائِلٌ مَرَّةً، وَعِنْدِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرْتُ لَهُ بِشَيْءٍ، ثُمَّ دَعَوْتُ بِهِ، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تُرِيدِينَ أَنْ لا يَدْخُلَ بَيْتَكِ شَيْءٌ، وَلا يَخْرُجَ، إِلاَّ بِعِلْمِكِ» قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «مَهْلاً يَا عَائِشَةُ، لاَ تُحْصِي، فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكِ». (رواه النسائي)
    لقد وجَّهها النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هذا الحديث إلى أَدبٍ عظيمٍ مرتبط بالنَّفس، وهو العطاءُ بغير حِساب، وهذا لا يصدر إلَّا مِنْ نَفسٍ كريمةٍ تخلَّصت مِنْ عوالق البُخل والشُّح.
    (يَا عَائِشَةُ، لاَ تُحْصِي)
    الإحصاءُ هُوَ العدُّ. فقد نَهَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَائِشَةَ أنْ تعدَّ ما تُخرجه مِنَ الصَّدقات، فتعرف بالضَّبط ما الذي خرج مِنْ بيتها مِنَ الصَّدقة، وكم مِقداره. قال ابن الملقن رحمه الله: ((الإحصاء للشيء: معرفة قَدْره، أو وَزْنه، أو عَدده)). (التوضيح لشرح الجامع الصحيح 10/332)
    ولكن ما الذي يَجعل الإنسان يُحصي صدقاته، ويعدُّها عند إخراجها؟ ولماذا يريد أنْ يعرف ماذا أَخرج؟ وكمْ أعطى؟
    هُنا تأتي شوائبُ البُخل والشُّح التي تعتري النَّفس، والتي قد لا يشعر بها الإنسان فِي البداية، لكنَّها تكبُر حتى تجعله بخيلًا.
    فأراد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تنبيه أُمِّنا عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا على هذه الشَّائبة، قبل أن تتمكَّن مِنْ نَفسِها، فيصعب التَّخلُّص مِنْها. قال ابن قرقول رحمه الله: ((أيْ: لا تتكلَّفي معرفة قدْر إنفاقك، وفي حديث آخر: "لا تُوعِي"، وآخر: "لا تُوكِي"، كله كناية عَنْ الإمساك والتقتير)).
    (مطالع الأنوار على صحاح الآثار 2/326)
    ومَنبَعُ ذلك أنَّ الذي يُحصي ويعدُّ صدقاته عند إخراجها، يخاف أنْ يَقِلَّ مالُهُ وينْقُص فِي المستقبل، فهو يريد أنْ يُنفق بحساب، ويدَّخر لنفسه بحساب.
    قال الخطابي رحمه الله: ((وذلك أنَّها تُحصي ما تُحصي للتَبْقِيَّة والذُخر، فيُحصَى عليها بقطع البَرَكة، ومنع الزِّيادة)). (أعلام الحديث 2/1283)
    وقال ابن حجر رحمه الله: «وَالْمعْنَى: النَّهْي عَن منع الصَّدَقَة خشيَة النفاد، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ الْأَسْبَابِ لِقَطْعِ مَادَّةِ الْبَرَكَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ يُثِيبُ عَلَى الْعَطَاءِ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَمَنْ لَا يُحَاسَبُ عِنْدَ الْجَزَاءِ لَا يُحْسَبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْعَطَاءِ، وَمَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، فَحَقُّهُ أَنْ يُعْطِيَ وَلَا يَحْسِبَ)). (فتح الباري 3/300)
    ثم إنَّ الذي يُحصي صدقاته يستكثرها، ويرى أنَّه قد تصدَّق بالشيء الكثير. قال ابن الملقن رحمه الله: ((معناه: لا تُحصي ما تُعطين فتستكثريه. فيكون سببًا لانقطاعه)).
    (التوضيح لشرح الجامع الصحيح 10/332)
    (فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكِ)
    إنَّ الجزاء مِنْ جنس العمل، فالذي يُحصي فِي صدقاته، يُحصي الله عليه فِي عطائه. قال الطيبي رحمه الله: ((وقوله: (فَيُحْصِيَ اللَّهُ عَلَيْكِ) مُحتمِلٌ لوجهين: أحدهما: أنَّه يُحبس عنده مادة الرزق، ويقلِّلُه بقطع البَرَكة حتى يصير كالشَّيء المعدود. والآخر: أنَّه يحاسبك عليه في الآخرة)).
    (الكاشف عن حقائق السنن 5/1523)
    وفِي هذا التَّوجيه النَّبوي تربيةٌ لنَا فِي التعامل مع الله عز وجل، بحُسن الظنِّ به، والثِّقة بوعده، فقد أقسم النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أمور مِنْها قوله: ((مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ)).
    (رواه الطبراني)
    فمَنْ ظنَّ أنَّه بالإنفاق على الفقراء سيَنقُص مالُهُ، فقد أساء الظنَّ بالله.
    إنَّ الله عز وجل يكافئ مَنْ ينفقُ ابتغاءَ وجهِهِ بالزيادة فِي العطاء والبركة، قال تعالى: ﵟوَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثۡبِيتٗا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ كَمَثَلِ جَنَّةِۭ ‌بِرَبۡوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٞ فَـَٔاتَتۡ أُكُلَهَا ضِعۡفَيۡنِ فَإِن لَّمۡ يُصِبۡهَا وَابِلٞ فَطَلّٞۗ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٌﵞ [البقرة: 265]
    وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبلال رضي الله عنه: ((أَنْفِقْ بِلالُ، وَلا تَخَافَنَّ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إِقْلالاً)). (رواه الطبراني)
    وهذا شهر الإنْفاق، ومُواساة المحتاج، فهل نكون مِنَ المنفقين بغير حساب؟


    والحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين

    المرأة في السنة النبوية يَا عَائِشَةُ الإنفاق الفقراء

    مقالات