الإثنين 6 مايو 2024 08:58 صـ 27 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    الضرورات العشر للحركة الإسلامية - الضرورة الأولى: النقد الذاتي

    الأستاذ الدكتور : أحمد زايد
    الأستاذ الدكتور : أحمد زايد

    النقد: مصطلح شائع وهو في الأصل اللغوي كما في قواميس لغتنا العربية: التمييز بين الجيد والرديء، ومعرفة الصحيح من الزائف، ومنها نقد الجوز بالأصبع لاختباره وتعرف حاله. فالنقد اختبار للتمييز، وهو يمثل كما ذكر خالص جلبي "إعلان العقل الواعي والتعامل مع الأفكار كقيمة ذاتية أو كوحدات موضوعية انفصلت فيها عن الشخصية" وهو عند عبد الله النفيسي: "حركة ديناميكية حية متطورة وأداة إنضاج الوعي، ليبقى نشطا". وأقول إن النقد تطلعٌ لعالم الصواب والصحة، وتوجهٌ نحو عالمٍ خالٍ من الأمراض الفكرية والحركية والإدارية والنفسية. إنه تصميم على الانتقال من العجز إلى القدرة، ومن الهزيمة إلى النصر، ومن الخطأ إلى الصواب، إنه دليل حياة القلب والعقل، ونضج الوعي، وصحة المقصد وقوة الشخصية. فلنبدأ بأنفسنا عندما تضع الحركة الإسلامية نفسها في موقف المعالج فإنها تجيد نقد الآخرين، وهذا حقها, لكن ما ليس من حقها أن تغمض أعينها عن ذاتها فلا تقوِّم أعمالها ولا تنقد ذاتها، وأنا أعلم أن النقد الذاتي فيه من الصعوبة الكثير، فقد تعودنا كما يقول جلبي " الفرار من الذات أو إعطاء ما يشبه التقديس لها".

    النقد الذاتي مطلب شرعي

    كان القرآن الكريم يتنزل في الحياة الإسلامية الأولى رتلا رتلا موجها وناصحا وناقدا ومصححا ومعاتبا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينصح ويوجه وينتقد ويحاسب ويستفيد من التجارب، وقد حفظنا مقولة خالدة " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا" فغدا هذا مفهوما شرعيا راسخا مستقرا.

    النقد الذاتي ضرورة واقعية

     واقع الحركة الإسلامية يشير بقوة وجلاء أنها تحتاج إلى مبضع الجراح ليكشف عن مكامن المرض والخلل، فقد أثبتت الأحداث أن هناك قصورا في مسائل تتعلق بفهمها وحركتها وخططها ولوائحها وإجراءاتها ومواقفها ورؤيتها، على الرغم من نجاحاتها المحمودة المشهودة، وليس من الحكمة أن ينطق الواقع مناديا علينا بضرورة التصحيح والمراجعة ثم نصم الآذان ونعمي الأعين عن هذا الواقع.

    بين النقد المرفوض والنقد المريح

     نوعان من النقد لا يفيدان، أولهما النقد المرفوض وهو النقد الهدام من المغرضين الذين يرون الصواب خطأ والنجاح فشلا من أصحاب الأغراض الخبيثة الكارهين للحركة الإسلامية وكل ما يأتي من طرفها.

    والثاني النقد المريح: وهو ما نجامل به أنفسنا مما نسميه نقدا، لكنه مفقتر إلى معاني العقلانية والمنهجية والواقعية، فلا مقاييس ولا معايير ولا منهج وغالبا ما يقوم به غير مختصين أو من تسوقهم العواطف، وهؤلاء لن يضعوا أيديهم إلا على ما يحبون، ويتغاضون عما يكرهون، فتخرج نتائجهم غير واقعية وغير حقيقية، وهذا ما أسميه "النقد المريح"، الذي غالبا ما نفعله فقط تسكينًا لضمائرنا وإسكاتًا لغيرنا، وقديما قالوا: حبك الشيء يعمي ويصم.

    النقد الذي نريد

    يكون النقد موضوعيا ومفيدا وفعالا متى توفرت فيه المواصفات الأتية:

     1. أن يصدر عن إيمان وقناعة تامة بضرورته وأهميته ولا يكون تلهيا ولا ترضية لأحد ولا تسكينا لألم الضمائر، فنكون كالذي يدفن رأسه في التراب. 2. أن تتوفر الجرأة والإخلاص والعلم والمنهجية معا، وحينئذ سيحملنا الإخلاص على التجرد ابتداءً، وعلى شكر الناصحين انتهاءً، وتحملنا الجرأة على نقد ما يجب نقده، وعدم التغاضي عما نكره أن ننقده، ويحملنا العلم والمنهجية على سداد الرأي ودقة النتائج.

     3. التركيز على المسائل المفصلية في الفهم والحركة، لا على الهوامش والفروع.

     4. أن يُستكمل النقد بشجاعة تؤدي إلى الاعتراف الصريح بالأخطاء والقصور، ويُستكمل كذلك بالسعي نحو التصحيح والتقويم.

    5. رفض التبرير غير المنطقي وغير العلمي وغير الواقعي، فالنقد إن صحبته نية الإصلاح خلا من التبرير الذي يهدف إلى دفع الاتهام عن الذات، وإن لم تصحبه هذه النية فسيظل الدفاع عن الأشخاص قويا وتغيب محاولات التصحيح لغلبة التبرير.

     6. ألا يُتخذ موقف سلبي من أولئك الذين ينقدون ويطالبون بالتصحيح وإن علت أصواتهم، وخشنت كلماتهم، وقد قال أبو حامد الغزالي: "نصيحة في تخشين خير من خديعة في لين".

    7. أن يسند النقد والاختبار إلى خبراء مختصين لا هواة منفذين، وأن نفسح لكل وجهة نظر مساحة، وأن نقبل كل ما يأتينا ابتداءً، حتى لا تفوتنا البدائل فربما كان المرجوح راجحا في وقت ما.

     8. أن نقبل النقد من القريب والبعيد، والعدو والصديق، والصغير والكبير. 9. أن نسقط هالة القداسة والتعظيم والتفخيم التي يشعر بها أبناء الحركة تجاه جماعتهم أو تنظيمهم والتي بها يشعرون أنهم أفضل الناس وأنهم فقط من يمتلكون الفهم الشامل ويدركون فقط الطريق الصحيح، وقد سبق القول: "حبك الشيء يعمي ويصم". يعني يعمي عن رؤية العيب ويصم عن سماع النقد.

     10. وأخيرا لن نبدأ في المحاسبة والنقد من نقطة الصفر، فهناك مكتوبات كثيرة بدءًا من وقائع مؤتمرات وندوات خصصت من قبل في الرؤى النقدية للحركة الإسلامية، ثم الكتب والدراسات والمقالات التي خصصت في ذلك، وأُهملت بسبب ضعف القراءة والاطلاع، أو الخوف من فتح باب النقد بحجج الحفاظ على الجماعة والنفوس، أو أننا تصورنا أن الناقدين لا يفهموننا أو لا يدركون واقعنا، مع أن الكثير من هؤلاء من المخلصين الواعين.

    وأخيرا أقول: إن الكلمات والآراء والانتقادات لن تهدم قويا واثقا، ولكنها تعين الضعيف وتصحح المسار فيزاد القوي قوة، أما الضعاف غير الواثقين فإنهم ينزعجون من النقد ويخافون خوض غماره.

    وإلى الحلقة القادمة مع الضرورة الثانية وهي: "تفعيل الجهاز الفكري للحركة".

    مقالات