دولة التلاوة بين الحقيقة والتزييف
إنها فتنةٌ عظيمة أن تُختَزَلَ مرجعيةُ القرآن كلها في مجردِ صوت، وأن تُباعَ قضيةُ العدلِ والشريعةِ العادلةِ بِلحنٍ باكٍ أو مقامٍ رنان،فحين نسمع عبارة "دولة التلاوة" يجب أن يرتعش القلبُ لا طرباً، بل فزعاً من تزييفٍ يوشك أن يختطف روحَ الدين؛ فالصوتُ ليسَ هدفاً، بل هو جسرٌ رقيقٌ لِيَعبرَ القرآنُ بهِ إلى القلوبِ القاسية، ليس غطاءً مُزخرفاً يُستبدلُ بهِ عملُ الحاكمِ أو يُخفي قيمة العدل المفقودة.
التلاوة عبادة جليلة، وتهذيب للذات، وزاد معرفي يفضي إلى العمل الجاد، لكن جوهرها يقتضي أن تظل طريقاً مضيئاً إلى الفهم والتدبر، لا غاية تسقط فريضة التطبيق والعمل بأحكامه، وفي ذلك يكمن الفارق الجوهري الذي أراده السلف الصالح؛ فقد كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول حقاً: "كنا نقرأ القرآن لنعمل به، فاتخذ الناس قراءته عملاً!"
إنَّ التلاوةَ في أصدقِ معانيها القرآنيَّةِ هي الاتباعُ والالتزامُ بالمنهجِ، وليست مجردَ ترديدٍ للفظ، كما في قولهِ تعالى: "واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك..." أي اتبع ما أُوحي إليك، فالتلاوةُ—بمعناها الصوتيِّ—ليست إلا وسيلةً للتدبرِ، والتدبرُ هو مِفتاحُ الفهمِ عن اللهِ تعالى. وما الفهمُ إلا السبيلُ للعملِ بأحكامِهِ، وعندما يتحققُ هذا العملُ الصادقُ، يصبحُ هو الوسيلةَ العُليا للاقترابِ والفوزِ بالرضوان. وهكذا، تشكّلُ التلاوةُ مساراً متكاملاً من اللفظِ إلى الروحِ، ومن الفهمِ إلى الجنةِ.
إنأي إنسان رزقه الله صوتا نديا يمكن أن يكون مطربا يؤثر في الناس بما ينشده صالحاً كان أو فاسداً، قرانا كان أم شعراً، هجاء كان أو مدحاً،إنه النغم والمقامات الموسيقية ليس أكثر، وإن ادخال القران إلى هذه الحلبة لجريمة كبرى حيث ترسم في اللاوعي الجماهيري علاقة بالقران منقوصة وشكل للدولة مغشوش !!
دولة الوجوه القبيحة
المأساةُ أن ثمة وجوهاً قبيحةً تتسترُ بصوتِ المقرئِ وبهاءِ الحفل، وهي لا تزالُ تعيثُ فساداً واغتياباً للحقوق، إنهم يستخدمون التجميلَ الإعلاميَّلِاستثمارِ العاطفةِ، فتعرض التلاواتِ المؤثرةِ وصورِ العيونِ الدامعةِ كأداةٍ لـ توليدِ الشرعيةِ المزيَّفةِ، بحيثُ يتمُّ ربطُ ولاءِ الجماهيرِ العاطفيِّ للدينِ بولائِهم لسياساتِ الحكمِ الجائرة. الصوتُ هنا هو قشرةٌ رقيقةٌ تُشتتُ الانتباهَ عن جوهرِ الخواءِ الإداريِّ والعدليِّ.
إنهم يحوّلون الوسيلةَ إلى غايةٍ، فيُقامُ الحفلُ وتُنسَى الحقيقة، ويُوظَّفُ الدينُ لإسكاتِ المطالِبِ بالحقِّ وتشويهِ المدافعين عن العدلِ ليُدانوا بأنهم دعاة إرهاب !!
إنَّ النظامَ الذي يتخذُ من الاعتقالِ الجماعيِّ وسحقِ الحرياتِ منهجاً، هو نظامٌ قد أسقطَ ميثاقَ القرآنِ وخانَ قيمَهُ الكليةَ، ولا يربطهُ بهِ سوى قشرةٌ واهية. فوجودُ سجونٍ مظلمةٍ تعجُّ بعشراتِ الآلافِ من المظلومينَ، وغيابُ حريةِ التعبيرِ والبحثِ، دليلٌ قاطعٌ على هدرِ كرامةِ الإنسانِالتي هي البوصلةُ الأولى للشريعة. وعليه، فإنَّ زخرفةَ الأصواتِ لا تملكُ أن تُجمّلَ ما قبّحتهُ حقائقُ الظلمِ والدم المسفوك، ولا تستطيعُ البرامجُ المذاعةُ أن تُنظفَ الأيادي الآثمةَ المُتلطخةَ بحقوقِ المغدورين. إنَّ معيارَ التمييزِ لدولةِ القرآنِ الحقيقيةِ يكمنُ في الاحتكامِ لميزانِ العدلِ والإنصافِ، لا الانخداعِ ببهاءِ حفلِ التلاوةِ والزينةِ الكاذبة.
إنَّ النظامَ الذي يمتدُّ حبلُه نحو المُحتلِّ الغاصبِ، ويُشرِعُ أبوابَ الخيانةِ ببيعِ المقدساتِ والتآمرِ عليها، ويُغلِقُ في الوقتِ ذاتهِ المنافذَ على المجاهدينَ الصادقينَ ومَن يدافعُ عن الأمةِ، هو نظامٌ قد أسقطَ ميثاقَ القرآنِ وأسقطَ نفسَهُ من دائرةِ الهديِ الرباني.
لقد خالفَ هذا النظامُ هديَ الكتابِ جملةً وتفصيلاً، وحاربَ أهلهُ الصادقينَ، وتحالفَ مع أعدائِهِ المُبينين. فكيفَ يدّعي الانتماءَ إلى القرآنِ وهو يخرقُ قاعدةَ الولاءِ والبراءِ العظمى؟ فيهِ وفي أمثالِه تجلّى التحذيرُ الإلهيُّ القاطعُ الذي لا يقبلُ التأويلَ ولا المُهادنةَ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51].
فلا حظَّ لنظامٍ في القرآنِ إلا بقدرِ صدقِهِ في الدفاعِ عن الأمةِ وحمايةِ مقدساتِها ومُجاهدةِ أعدائِها، وإلا فالتلاوةُ تُصبحُ شاهدَ زورٍ على جريمتهِ.
إنَّ النظامَ الذي شُيِّدَ على أُسسِ الخيانةِ والتدليسِ وهَدمِ المواثيق، لا يملكُ أن يسترَ سوءتَهُ مهما بالغَ في التظاهرِ بالاحتفاءِ بزينةِ التلاوةِ وجمالِ الترتيل. ففي الوقتِ الذي يُقامُ فيهِ حفلُ الصوتِ، يُنسَى فيهِ أنَّ للقرآنِ قوانينَ قاطعةً تحكُمُ الأفعالَ لا الأقوال، وتفضحُ الجوهرَ لا المظهر.
فكيفَ يرجو نظامٌ قامَ على الغدرِ والتآمرِ نفعاً من كتابٍ فيهِ القولُ الناجعُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ [يوسف: 52]؟ وكيفَ يُؤمِّلُ المفسدُ عملاً صالحاً وقد نطقت الآيةُ الأخرى بإنهاءِ أثرِهِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [يونس: 81]؟
إنَّ التلاوةَ لا تُصبحُ حينئذٍ إلا شاهدَ زورٍ على مَن خالفَ هديَها، فهي تفضحُ الخيانةَ التي جَرَتْ في السرِّ، وتُبطلُ إفسادَ المُتظاهرينَ بالصلاحِ في العَلَنِ. فميزانُ القرآنِ لا يُخدَعُ بدموعِ العيونِ، بل هو ميزانُ القوانينِ الناجعةِ التي تسحقُ كيدَ الخائنينَ وتُبطلُ عملَ المفسدينَ مهما طالَ بهم التسترُ.
معالم دولة القرآن
إن دولةُ القرآنِ الحقيقية، ، بل هي دولةُ تطبيقٍ للحقِّ والقسطِ، تجعلُ أحكامَ الكتابِ مرجعيةً في كلِّ شأن، في محكمةِ القاضي ومعاملةِ التاجرِ وحقوقِ المظلومين
دولةُ القرآنِ الحقيقيةُليست مهرجاناً إذاعياً ولا لوحةً جماليةً تُعلَّقُ في الشوارعمشروعٌ إلهيٌّ مُترجَمٌ في واقعِ البشر، نظامٌ يجعلُ أحكامَ الكتابِ مرجعيةً لسياسةِ الحكمِ ولعدالةِ القاضي ولنزاهةِ الميزانِ في السوقِ. هي دولةٌ تقيمُ الحقَّ وتُنفّذُ الأمرَ القرآنيَّ: "وَأَحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ"، أي أنها دولةُ تطبيقٍ لا دولةُ تجميل
دولةُ القرآنِ الحقةُ هي التي تُحاسَبُ فيها السلطةُ بنفسِ الميزانِ الذي يُحاسَبُ بهِ المواطنُ الضعيف، ولا تضعُ المُحصّناتِ حولَ الفاسدينَ والمحتكرينَ باسمِ الدينِ أو السياسةِ.
دولة القرآن لا تُصرَفُ ميزانيةُ الدولةِ على رفاهيةِ أجهزةِ الدعايةِ وصُوَرِ التلاوةِ، بينما تترُكُ الميادينُ خاويةً من العدالةِ التنمويةِ؟ دولةُ القرآنِ هي التي تُحاربُ الإسرافَ والتبذيرَ في القمةِ كما تُحاربُ الفقرَ في القاعِ.
القرآنُ رسالةٌ وشريعةٌ للحياةِ. من يطلبُ دولةَ القرآنِ بحقٍّ، لا يكتفي بطربِ التلاوةِ، بل يعملُ على أن يُحكَمَ العدلُ، وتَحياَ الحقوقُ، وتُعزَّزَ الكرامةُ، أما من يغطي ظلمَهُ بصوتِ قارئٍ، فقد أقامَ قصر خداع من الزجاج الهش فوق أرض مغتصبة ، فلتكن التلاوةُ هدايةً وعملاً، ولتكن الدولةُ حقيقةً في تطبيقِ قيمِ الكتابِ، لا مشهداً لتصويرٍ رخيصٍ يُخفي القبحَ تحت رداءٍ مزخرف.
إنَّ الصوتَ العاليَ لا يغني عن قسطٍ مفقودٍ، ولا تُبَرِّئُ قراءاتٌ جماليةٌ من دمٍ مسفوكٍ أو حقٍ مسلوبٍ.





















