الجمعة 19 أبريل 2024 07:05 مـ 10 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    الضرورات العشر للحركة الإسلامية || الضرورة الخامسة

    رابطة علماء أهل السنة



     

    تاريخ الإضافة : مـ  10/3/2016 - هـ 20/5/1437 

     

    5- فقه التمييز ومعرفة الفروق :
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

     قد يكون العنوان غريبا لكني أقصد معناه ، فهناك فروق كثيرة كان من الواجب على الإسلاميين حسن إدراكها ودقة تقدير الأمور والخطط بناءً على حسن الإدراك ، وقد وقعت انتكاسات كثيرة بسبب غياب “فقه التمييز ومعرفة الفروق” ، هناك الفروق بين الأشياء ، والفروق بين المواقف ، فروق بين المعاني والاتجاهات والأطراف ..الخ .
     والفروق علم معروف في تراثنا ، نجده في اللغة والفقه وعلوم التربية والدعوة وغير ذلك ، فهناك كتاب ” الفروق اللغوية” لأبي هلال العسكري ، و”الفروق” للإمام القرافي ، و”الاعتناء في الفرق والاستثناء” للبكري، و”الفروق” للكرابيسي ، وغير ذلك الكثير في تراثنا ، وإذا انتقلنا إلى علوم الدعوة وعلوم التربية نجد أن من أبرز الأشياء ضرورة معرفة الفروق الفردية بين المدعوين ، وكذلك الفروق بين الطلاب ، ومقتضى العقل والواقع يوجب امتلاك الحركة ما أسميه: “فقه التمييز والفروق” على مستوى التنظير والعمل.
     والحركة الإسلامية تجاه كثير من الفروق في قضايا الواقع بين احتمالين:
    الأول: أنها أدركتها نظريا ، لكنها لم تبنِ خططا بناءً عليها . 
    الثاني: أنها غفلت عن إدراكها كليا أو جزئيا بصورة دقيقة. 
    وواقع الحركة الإسلامية يشهد بقصور كبير في امتلاك هذا الفقه على المستويين معا ، ومن هذا المنطلق نبحث جملة من الفروق ، قد يحسب البعض أننا ندركها جيدا ونضعها في حسباننا ، وقد كنت واحدًا – ولا أبريء نفسي – ممن توهم ذلك ، إلى أن جاءت النوازل والأحداث المعاصرة بأهوالها وصدماتها ، فأظهرت أننا لم نكن كحركة إسلامية على قدر كافٍ من إدراك هذه الفروق على المستويين النظري والتطبيقي.
     إن من الضرورة الشرعية والواقعية أن تدرك الحركة الإسلامية جملةً من الفروق إدراكا دقيقا وتبني خططها المرحلية والاستراتيجية بناءً عليها ، أذكر في هذا المقال بعضا منها، مجردا من الأمثلة لكي نتفق على القاعدة ولا نتنازع فيها فلا يفسدها المثال ، مستكملا ما تبقى في مقال لاحق بحول الله.
     1- الفرق بين الواجب والممكن ، فالواجب سواء كان شرعيا أو اجتماعيا أو غيره يمتاز في حقيقته أنه ثابت ، يلزم القيام به ، أما الممكن, والمستطاع فعله من هذا الواجب, فيختلف حسب القدرة والإمكان والاستطاعة ، فليس كل ما وجب أمكن فعله ، ليس هذا في حق الفرد فقط بل في جق الجماعة والأمة ، فعند النظر في الواقع ومتطلباته وواجباته ينبغي أن تدرس الحركة في المقابل جانب الاستطاعة والمكنة ، فلا تقدم على غير المستطاع ، ولا تخاطر بأبنائها ولا مقدراتها في تحقيق مثله. وفي حكم غير المستطاع المعجوز عنه ذلكم الواجب الذي سَيجرُّ فعله مفسدة في المآل أكبر من المصالح المقصودة والمتوخاة ، وعند العجز عن تحقيق واجب ما في أي مرحلة ، تأتي قاعدتان مهمتان ، الأولى قاعدة: ” الميسور لا يسقط بالمعسور” ، فنفعل الممكن الميسور ولا نهمله بسبب بعض ما لم يتيسر القيام به .
     والقاعدة الأخرى :  “وأعدوا” وهي الأخذ بالأسباب لإزالة العجز الواقع لتتهيأ الحركة في مرحلة لاحقة للقيام بالواجب ، وبهذا تضمن الحركة فاعلية دائمة ، كما تضمن عدم المغامرة والمخاطرة في غير المقدور .
     2- الفرق بين الوسائل والغايات ، وتعرف الوسيلة بأنها : ما يتوصل به إلى تحقيق المراد ، ودائرة التحليل والتحريم في الوسائل قليلة ، والمباح وما لم ينص عليه الشرع في الوسائل هو المساحة الأكبر ، وأما الغايات فهي نهايات مطلوبة بعضها قريب وبعضها بعيد ، والفروق بينهما كثيرة لكن الأبرز من هذه الفروق : أن الوسائل تتجدد وتتخذ صورا وأشكالا وأنواعا مختلفة ولا ينبغي الجمود على معهود معين نشأ عليه جيل ما ، ولا ينبغي الربط بين الدعوة ووسائلها ، فليست الدعوة هي الوسائل ، وليست الوسائل هي الدعوة ، فمن جدّدَّ في وسيلة ما أو استبدل بها غيرها لا يعني أنه غيَّر معالم الدعوة ، وليس من المنطقي اعتبار أن وسيلة اجتهادية ما من ثوابت الحركة الإسلامية .
    والمقصود أنه لا بد من اختلاف النظر والتقدير لكلٍ من الوسائل والغايات ، فتكون الحركة مرنة في وسائلها في كل مجال ، بحيث تستخدم المناسب المؤثر ولا تتشبث بما لا تأثير له ولا جدوى ، وتتسم بالثبات والتمسك بالغايات لا تحيد عنها .
     قد يُستغربُ التنبيه إلى هذا الفرق ، لكن الواقع يقول إن الحركة الإسلامية جمدت في بعض وسائلها وعاشت أسيرة لها ، وكان يجب اتخاذ وسائل وآليات مناسبة للأحداث والأهداف .
     ويلزم كذلك عن هذا الفرق المذكور واجب جد خطير ولازم وهو : ضرورة تكافؤ وتناسب الوسائل مع الأهداف والغايات ، فليس منطقيا وضع غايات عالية وأهداف سامية ثم تستخدم الحركة وسائل ضعيفة لا ترقى أن تكون في مستوى الأهداف والغايات ، وحينئذ يجب على الحركة أحد أمرين : –
    إما أن تخفض من حجم أهدافها ليتناسب مع وسائلها الضعيفة ، وإما أن ترفع من قوة وسائلها وفعاليتها لتتناسب مع قوة أهدافها ونبل غاياتها .
     فهل تتناسب وسائل الحركة الإسلامية وآلياتها في العمل مع حجم وضخامة أهدافها ؟؟ 
    ويتبع هذا الفرق – كذلك – فرق آخر ، هو الفرق بين التكتيكي والاستراتيجي من عمل الحركة وخططها وأهدافها ، فالأول متغير يمكن التنازل عنه أو تغييره أو تأجيله…إلخ ، والثاني هو الأهم وغالبا ما يمتاز بالثبات ، ولا ينبغي الاستغراق في الأول على حساب الثاني ، ولا الجمود عليه لأن طبيعته لا تقبل ذلك .
     3- الفرق بين البسيط والمعقد المركب : فقضايا الواقع الذي تواجهها الحركة الإسلامية منها ما هو بسيط خالٍ من الاشتباك والتعدد والتعقيد ، وهو كثير من التعاملات اليومية العامة والخاصة كفعل الحركة في أمر اجتماعي أو دعوي أو تربوي أو غير ذلك .
    مثل هذا المسائل تحتاج إلى تفكير وجهد غير مركب وغير معقد ، ولا يحتاج إلى كبير تخصص وعلم ، لأن له بدايات ونهايات معلومة ، وليس الأمر كذلك مع الأمور والقضايا المعقدة التي لا تعتمد في التعامل معها على الهواة وإنما لشدة تعقيدها تحتاج إلى الخبراء والمختصين، كما تحتاج إلى دراسات وأموال وعبقريات في إدارتها واتخاذ ما يلزم تجاهها ، ومن ذلك القضايا التي تتصل بالدولة وسياساتها، والحكم والعلاقات الخارجية ، والسلم والحرب والتفاوض ، وما في مثلها وحكمها فإنها أمور في غاية التعقيد ، فدولنا رهن علاقات دولية متشابكة ليس من السهولة تصور أبعادها وليس من السهولة كذلك تعامل الإسلاميين مع هذه الاشتباكات إلا بقدر كبير من التنازلات ، وهنا لابد من التمييز بين ما يقبل وما لا يقبل من التنازلات ، وقد أصبحنا على مستوى الدول رهن مواثيق واتفاقيات دولية، وهنا تحالفات إقليمية وعالمية ، ومصالح ومسائل غاية التعقيد ، الأمر الذي يتطلب حكمة بالغة وإدارة دقيقة وتخصص متميز للتعامل والدخول في هذا المعترك . 
    ويجب ألا تتخذ الحركة أي قرارات بالدخول في هذا “المعقد” إلا بعد تصوره تماما وإدراك تعقيداته وتشابكاته، ومعرفة حجمها وما يعود عليها سلبا أو إيجابا بالدخول في هذه المعتركات ، وقد يدخل غيرنا من أبناء أوطاننا هذه المعتركات بقيم وحسابات غير قيمنا وحساباتنا فلا يصح أن يكونوا قدوة لنا .

    مقالات