زلزال سوريا وتركيا حِكم وأسرار
الدكتور أكرم كسّاب - رابطة علماء أهل السنّة رابطة علماء أهل السنةالحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين؛
أما بعد
فليس للناس حديث هذه الأيام إلا حديث الزلزال الكبير الذي ضرب دولا من العالم وأصاب بالأخص سوريا وتركيا، ونحن كمسلمين لا ننظر للأحداث التي تقع في الكون نظرة عابرة عامة، ولكن كل حدث في الكون يجب أن ننظر إليه بعين الدين والواقع، ولهذا فإن هذا الحدث الكبير الذي أصاب أهلنا في تركيا وفي سوريا يجب أن ننظر إليه نظرة شرعية، وألخصها فيما يلي:
1. الوقفة الأولى: المسلم لا يرى الكون شبحا مخيفا، ولا إلها يعبد، ، ولكن كل ما يحدث فيه بقدر الله، يحدث فيه بقدر الله، ولهذا فإننا كمسلمين نرى الكون:
- الكون كتاب الله:
إن المؤمن يدرك جيداً أن القرآن هو كتاب الله المسطور، ولا يغفل المؤمن كذلك عن كتاب الله المنظور وهو الكون، ولا تعارض بينهما، فكلاهما من الله. أما الكتاب المنظور فهو خلق الله، وأما الكتاب المسطور فهو كلام الله قال تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (الملك: 14).
- الكون خلق من خلق الله:
وكما أن الكون كتاب الله؛ فهو كذلك خلق من خلق الله لم يخلق صدفة، وليس له خالق غير الله، {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ } [الطور: 35، 36].
- الكون خلق جميل:
ويعد الكون خلقاً جميلاً يبهر جماله الأبصار، ففي السماوات يقول سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3]، وفي الأرض يقول جل شأنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [فاطر: 27] ، وفي الحيوان يقول تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6]، {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7]
- الكون عابد لله:
وإذا كان الكون خلق من خلق الله فلا بد وأن يكون عابداً لربه، مقراً له بربوبيته، شاهداً له بوحدانيته وألوهيته، خاشعاً لعظمته، ساجداً لجلاله وحكمته. إنه:
1) مخلوق ساجد: قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج: 18].
2) مخلوق مسبح: قال سبحانه: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44].
3) مخلوق موحد رافض للشرك: قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} [مريم: 88 - 90].
- الكون صديق محبوب:
ونظرة المسلم للكون لا تجعله عدواً لدوداً، أو شبحاً مخيفاً. لكن صديق ودود، لأن ربهما واحد، فله يسجدان، وإليه يتوجهان، وله يتضرعان. ولهذا نشأ بين المسلم وبين الكون علاقة حب. روى البخاري عن أنس: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ»، وروى مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» ، وروى البخاري عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قال: كَانَ المَسْجِدُ مَسْقُوفًا عَلَى جُذُوعٍ مِنْ نَخْلٍ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَطَبَ يَقُومُ إِلَى جِذْعٍ مِنْهَا، فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ المِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ، فَسَمِعْنَا لِذَلِكَ الجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ العِشَارِ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا فَسَكَنَتْ» وفي رواية عند أحمد " إِنَّ هَذَا بَكَى لِمَا فَقَدَ مِنَ الذِّكْرِ " .
- الكون خلق مقدر:
والكون كله حين خلق لم يكن صدفة فهو قدر مقدر، بل حياة الكون بما فيه من صغير أو كبير، وما فيه من عظيم أو حقير، وما فيه من ظاهر أو كامن، ومن متحرك وساكن، وراكع وساجد، بل وما فيه من الذرة إلى المجرة، كل ذلك إنما هو بقدر مقدر عند الله سبحانه الذي قال: إنا كل شئ خلقناه بقدر )القمر:49)، ذلك تقدير العزيز العليم (يس: 38).
2. الوقفة الثانية: لماذا هذه الأحداث؟
وأحب أن أوضح هنا أن هذه الأحداث التي تضرب الناس هنا أو هناك، لا تخرج عن كونها قدر من أقدار الله، لا تحدث إلا بقدر ولا تكون إلا لحكمة. ومن حكم هذه الأحداث:
أ. عجز الإنسان وضعفه، فإن الإنسان مهما أوتي من العلم لن يستطيع أن ينفذ في كون الله إلا بسلطان: {يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان}. هذا الإنسان ضعيف أمام قدرة الله العليم الحكيم القادر، قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، ولهذا وجب على الإنسان أن يلجأ دائما إلى من بيده كل شيء وإلا هلك، قال سبحانه: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].
ب. رحمة الله بخلقه، ومن ذلك:
1) الموتى شهداء: إن كل واحد من هؤلاء الموتى نحسبهم جميعا شهداء، روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ: المَطْعُونُ، وَالمَبْطُونُ، وَالغَرِقُ، وَصَاحِبُ الهَدْمِ، وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ".
2) أجر لا مثيل له، وهذا الأجر يحصله كل من أصيب في هذا الزلزال، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»، وروى الترمذي عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَوَدُّ أَهْلُ العَافِيَةِ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ كَانَتْ قُرِضَتْ فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ» (حسنه الألباني).
3) دعوات لا حصر لها: وانظر إلى كم الدعوات التي دعا بها المسلمون لهؤلاء الموتى، فلا تجد مسلما مهما كان إيمانه ضعيفا أو قويا، إلا وقد دعا لهؤلاء الجرحى والمرشدين، ولما لا ونحن أمة واحدة.
ت. الرجوع إلى الله تعالى: وهذه فرصة أن يتوب العصاة إلى الله تعالى، فهو رحيم بخلقه، وقد قال عن أن الفاسقين: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21]، فكيف بأهل الإيمان، روى البخاري عن أبي هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ».
3. الوقفة الثالثة: ماذا عن الزلزلة الكبرى؟
ولئن كان هذا الزلزال قد أصاب أقواما ونجا منه آخرون فإن زلزلة عظيمة ستأتي ستضرب الناس كل الناس، هذه الزلزلة قال الله عنها: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } [الحج: 1، 2]، وسمى الله سورة باسمها فقال: إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)؟
لذا فواجب علينا أن نتوب إلى الله تعالى قبل يوم الزلزلة الكبرى والتي يومها {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34 - 37]
4. واجبنا نحن:
أما نحن فواجبنا الآن، أن نقدم كل ما نقدر عليه، من زكاة وصدقة، من مال أو ملابس، من دعاء واستغفار، أن نطلب من الله الرحمة،
نعم واجبنا الصدقات، وتعجيل الزكوات، فمن كانت عنده زكاة ولم حضر وقتها فيمكنه من الآن أن يفعل ذلك، روى أحمد عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، " سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَعْجِيلِ صَدَقَتِهِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ، فَرَخَّصَ لَهُ فِي ذَلِك ".
اللهم ارحم الموتى الشهداء، واغفر للمصابين والجرحى، وبارك للمنفقين والمتصدقين، ومن عاونهم وساعدهم، ومن دعا للجميع.