الخميس 2 مايو 2024 12:47 مـ 23 شوال 1445هـ
رابطة علماء أهل السنة

    مقالات

    أطفالنا والعبادة .. كيف يرعى المربّي مفهومَ العبادةِ؟

    رابطة علماء أهل السنة

    العبادةُ في مفهومِها العامّ هي كلّ ما يحبّه الله تعالى ويرضاه، من الأقوال والأفعال والأفكار، الظاهرة والباطنة، وهذا المفهوم الذي لا أعلم أحداً ممّن يعتدّ به يخالفه، يعطي شموليّة في فهم الإسلام، وفي التعامل مع مختلف شئون الحياة، ويضع ذلك في منظور من التطلّع إلى الآخرة، والرغبة في التقرّب إلى الله تعالى، فهو ينتظم شئون الحياة كلّها، ويجمع بين الدنيا والآخرة، في تآلف وانسجام، لا يعرف القطيعة، أو التنافر والصراع..

    وقوام العبادة بهذا المفهوم أمران:

    ـ الأوّل: نيّة التقرّبِ إلى الله تعالى، وهو ما يعبّر عنه في بعض النصوص أيضاً بالاحتساب.

    ـ والثاني: القيام بالعمل وفق منهج الله تعالى، وما شرعه الله فيه.

    ولا نريد أن نعالج في هذه الكلمة ألواناً من الفهم الخاطئ للعبادة، والممارسات الكثيرة التي نتجت عنه، وما تولّد من نتائج سلبيّة، كان لها أكبرُ الأثر فيما وقعت فيه الأمّة منْ مظاهر الانحراف والتخلّف، والتخلّي عن سدّةِ القيادة للبشريّة.. فلذلك موطن آخر، ولعلّ بيان الحقيقة وتجليتها كفيل بتصحيح الخطأ، وتقويم العوج..

    وإذا كانت العبادة في مفهومها العامّ كذلك، فهي تقتضِي من المربّي أن يتعامل مع مَن يُربّيه من هذا المنطلق الشموليّ من خلال: غرس هذا الفهم الصحيح، وأنّه هدف وجود الإنسان وغاية خلقه أوّلاً، وربطه بواقع الحياة ثانياً، ووضع هذا التصوّر الصحيح موضع التنفيذ، في كلّ موقف إيجابيّ أو سلبيّ ثالثاً، ثمّ القياس والتقويم لسلوك الطفل والناشئ ومواقفه، على ضوء هذا المفهوم رابعاً، ومتابعة ذلك بما يتناسب مع طبيعة كلّ مرحلة عمريّة ومتطلّباتها خامساً..

    هذا باختصار وإجمال منهج التربية على العبادة وخطّته، وما يقتضيه ويستلزمه من مراحل، ليكون هذا المنهج في بؤرة الواقع وحركة السلوك..

    والتفصيل المجمل لهذا المنهج يحتاج إلى شيء من البيان بعد الإجمَال:

    1 ـ فالغرس لمفهوم العبادة الصحيح يقتضي أن يقدّم المربّي الأدلّة المناسبة: النصّيّة والعقليّة، على أنّ العبادة هي هدف وجود الإنسان وغاية خلقه، كقول اللهُ تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)} البيّنة.

    وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57)} الذاريات.

    وقوله تعالى: {قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي، وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ (163)} الأنعام.

    وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً، أَنْ اُعْبُدُوا اللهَ، وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ، فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ، فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ (36)} النحل.

    والطاغوت هو كلّ ما عُبد أو أطيع من دون الله برضَى منه، ورأس الطواغيت إبليس..

    والفهم الصحيح لهذه الآيات وأمثالها يعدّ من الأدلّة العقليّة على هذه الحقيقة.. وإذا كان دين الله وشرعه قد بيّن للناس ما يكلّفهم الله تعالى به في كلّ جانب من جوانب الحياة، منذ الميلاد وإلى ما بعد الوفاة.. أفليس أداء تلك التكاليف، والالتزام بها عبادةً لله تعالى.؟ يثاب عليها الإنسان، وتكون سبب مغفرة الله تعالى ورضوانه له، فإن لم يكن أداء التكاليف عبادةً.؟ فماذا يكون إذن.؟!

    وإنّ غرس المفهوم الصحيح للعبادة يقتضي ثلاثة أمور:

    أ ـ التكرار والتأكيد، ليطمئنّ المربّي إلى تحقيق ما يريد.

    ب ـ والتذكير بذلك بين الحين والآخر.

    ج ـ وتقديم النماذج، والتمثيل بالمواقف، ويحسن أن تكون ممّا ذكر في النصوص النبويّة، وهي كَثيرة متنوّعة..

    2 ـ وأمّا ربط مفهوم العبادة بواقع الحياة، فهذا من البداهة بمكان، إذ إنّ المفهوم الشموليّ للعبادة يجعل ميدانَها السلوك الإنسانيّ بمختلف جوانبه وآفاقه، وهذا ما أشار إليه حديث النبيّ صلى الله عليه وسلَّم عن شعب الإيمان، فيما رواه أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَن النبيّ صلى الله عليه وسلَّم أنّه قَالَ: (الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلاّ اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ) رواه مسلم في كتاب الإيمان برقم /51/، ويحسن في هذا المقام أن أنقل فائدة لطيفة تتعلّق بعدد هذه الشعب عن الإمام ابن حبّان رحمه الله، فقد قال في كتاب: " الإحسان " 1/387/: " وقد تتبّعت معنى الخبر مدّة، وذلك أنّ مذهبنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلَّم لم يتكلّمْ قطّ إلاّ بفائدة، ولا في سننه شيء لا يعلم معناه، فجعلتُ أعدّ الطاعات من الإيمان فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئاً كثيراً، فرجعْت إلى السنن فعددت كلّ طاعةٍ عدّها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الإيمان فإذا هي تنقص من البضع والسبعين، فرجعت إلى ما بين الدفّتين من كلام ربنا، وتلوته آيَة آية بالتدبّر، وعددت كلّ طاعة عدّها الله جلّ وعلا من الإيمان، فإذا هي تنقص من البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن، وأسقطتُ المُعادَ منها، فإذا كلّ شيْء عدّه الله جلّ وعلا من الإيمان في كتابه، وكلّ طاعة جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلَّم من الإيمان في سننه تسع وسبعون شعبة، لا يزيد عليها، ولا ينقص منهَا شيء، فعلمْت أنّ مراد النبيّ صلى الله عليه وسلَّم كَان في الخبر: أنّ الإيمان بضْع وسبعون شعبة في الكتَاب والسنَنِ "، انظر كتاب: " اللباب في أصول الفقه " للشيخ صفوان الداووديّ ص/218/. ومع أهمّيّة ما حقّقه هذا الإمام عن عدد هذه الشعب، فإنّها ينبغي أن تفهم على أنّها أنواع، وليست أفراداً، إذ إنّ النوع يشمل صوراً كثيرة لا تدخل تحت حصر، وما ذكرته أعلى من إشارة الحديث أهمّ، لأنّه يدلّنا على شمول شعب الإيمان لكلّ خصال الخير والبرّ، وبالله تعالى التوفيق.

    فقد أشار ذكره لأعلى شعب الإيمان وَأَدْنَاهَا، إلى أنّ ما بينهما من خصال الخير والبرّ هو ممّا يُتَقَرّب به إلى اللهِ تعالى، وفي ذلكَ إشارةٌ أيضاً إلى شُمول مَفهُومِ العبادة لشتّى جوانب الحياة.

    وربط مفهوم العبادة بواقع الحياة يقتضي مِن المربّي:

    أ ـ أنْ يرسّخ مفهوم الخير والشرّ، والمعروف والمنكر، وما يحبّه الله تعالى ويرضاه، وما يكرهه لعباده، ولا يرضاه.

    ب ـ وأنّ ما يحبّه الله ويرضاه لا يخلو من: نفعٍ النفس، أو نفعٍ الناسِ، والإصلاحٍ في الأرض، والله غنيّ عَن العالمين، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضرّه معصية العاصين.

    3 ـ ووضع هذا التصوّر الصحيح موضع التنفيذ في كلّ موقف، يتطلّب تركيز المربّي على عدّة أمور:

    ـ الأمر الأوّل: أن يقصد الناشئ في سلوكه من العمل ما يحبّه الله ويرضاه، ويبتعد عمّا سواه، وأن يحاسب نفسه على ذلك.

    ـ والأمر الثاني: أن يبتعد الناشئ عن التقليد الأعمى، والتبعيّة بغير وعي، حتّى في مجال الخير والبرّ، وإنّما يفعل ما يفعل بدافع من رغبته وإرادته، لا بدافع منْ تمجيد الأشخاص، وتقْديس الكبار.

    ـ والأمر الثالث: أن يجد الناشئ في الوالدين، وكلّ من يتلقّى عنه قدوةً حسنةً له في سلوكه، فالقدوة الحسنة تختصر نصف الطريق للناشئ، ونصفه الآخر للمربّي.

    4 ـ وممّا ينبغي على المربّي أن يلاحظه، وهو يتعهّد مفهوم العبادة، ويؤصّله في نفس الطفل والناشئ: القياس والتقويم لسلوك الطفل والناشئ ومواقفه، على ضوء هذا المفهوم العامّ للعبادة، ومدى انسجامه مع هذا المفهوم، وهذا يتطلّب من المربّي ملاحظة ما يلي، وقياسه بدقّة:

    أ ـ مدى إتقان الطفل والناشئ للعبادة، أو احتياجه للتذكير والمتابعة.

    ب ـ مدى حبّ الطفل للعبادة، وتقديمها على رغباته الخاصّة.

    ج ـ مدى اندفاع الطفل أو الناشئ نحو العبادة ومظاهرها بمفهومها الخاصّ والعامّ بدافع ذاتيّ، بعيداً عن تأثير المربّي ومتابعته.

    د ـ قياس التطوّر النوعيّ، والتطوّر الكمّيّ في سلوك الناشئ ومواقفه، إيجاباً بالرغبة في السلوك المطلوب، أو سلباً بالنفرة من السلوك غَير المرغوب، والتفكير الجادّ في وسائل المعالجة وأساليبها.

    5 ـ وآخر ما ينبغي على المربّي أن يتحلّى به، وهو يتعهّد مفهوم العبادة، ويؤصّله في نفس الطفل والناشئ: المتابعة الجادّة لما سبق، بما يتناسب مع طبيعة كلّ مرحلة عمريّة ومتطلّباتها:

    وإنّ إهمال المتابعة يجْعلُ الطفلَ ينْشأ نشأة معوَجّة، ويعرّض الناشئ لخطر الانتكاس بعد الهدى، والتخلّف عن ركب الخير، بعد التقدّم والسموّ.

    والنشأة الطيّبة الجادّة لا تعفي المربّي من المتابعة في كلّ مرحلة، فلكلّ مرحلة غذاؤها ودواؤها، وما ينفعها ويؤثّر فيها..

    والمتابعة الجادّة تقتضي من المربّي:

    أ ـ تغيير أساليبه وتطويرها، والتفنّن فيها، فما يناسب سنّاً قد لا يناسب سنّاً أخرى، وما ينفع في مرحلة قد لا ينفع في مرحلة أخرى.

    ب ـ ألاّ يملّ المربّي، ولا يستيئس، ولا يتراجع، ولا ينكص، ولا يسأم، ولا يعجز.. وتلك علّة العلل في كثير من الآباء والمربّين، يهدمون بالتراخي، ما شيّدوه من المباني، ويقيمون بلا عمل، مع أحلام الأمانيّ والتواني..

    وبعد ؛ فما أحرى المُربّي، الذي يريد أن يكون في أسرته وأولاده للمتّقينَ إماماً، أن يأخذ هذه الحقائق بقوّة وعزم، وأن يعلمَ أنّ دون بلوغ سنام العزّ والمجد، الجهدُ الدائبُ، والحزمُ الغالب، ليكونَ منْ أهل الآية الكريمة: {وكانوا لنا عابدين}.

    والله تعالى وليّ التوفيق والسداد، والحمد لله أوّلاً وآخراً.

    أطفالنا العبادة مفهوم المربي القرآن السنة شعب

    مقالات